إذا نظرنا إلي أحاديث المصطفي ﷺ نجد أن بعضها- لا نقول إن فيها تناقصا- ولكن نقول إنها تحتاج إلي فض اشتباك, أو إيضاح كي لا يحدث لبس في ذهن المستمعين.. فهل كل حديث قصة معينة لا تنطبق علي قصة أخري؟! فمثلا حديث" دخلت امرأة النار في هرة حبستها"[1], ثم حديث" من قال لا إله إلا الله حرم جسده علي النار"[2] فكيف أن هذه المرأة تقول لا إله إلا الله, وفعلت كل شئ جيد, ثم تدخل النار بسبب الهرة.. مثل هذا اللبس كيف نزيله عند الناس؟
أجاب:
هناك علم اسمه" علم مشكل الحديث", فك مثل هذا الإشكال, هذه الإشكالات لها كتب مطبوعة, منها مثلا كتاب الإمام الطحاوي في 15 مجلدا, وكتاب لابن قتيبة.. وغيرهما. علماء الحديث عندما يدخلون في كل تلك الأمور يعرفون كيف يحلون كل هذه الأسئلة.. وهذه الأسئلة مشروعة, ومشروع أن يتأملها الشخص فيحتار.. ثم بعد ذلك تليها إجابات, هي لها إجابات مقنعة, وقد تكون الإجابة في كثير من الأحيان بحديث ثالث موجود, يصل بين هذين الحديثين, فمثلا يقول: إن عذاب النار في الهرة ليس معناه الخلود في النار, هي ليست خالدة فيها أبدا, فهي تدخل النار بقدر تعذيبها للهرة, تدخل في ضحضاحها ثم تخرج منها إلي الجنة.. وإن من يقول لا إله إلا الله حوم جسده علي النار يعني أنه لا يخلد فيها, فهو لا يدخل ويخلد فيها, وإنما فقط يدخلها ليعاقب علي ذنوبه, ثم يذهب إلي الجنة.. وهكذا.
وهناك أحاديث تتحدث عن عذاب النار, والأبدية في النار, وكيف يكون شكل الخارج, ولماذا يدخل النار ويخرج منها..إلخ, فكل حديث فيه مثل هذا ولكن, نحن ندخل مداخل أخري من السنة.. فمثلا حديث:" دخلت امرأة النار في هرة حبستها, فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"[3] أول ما يأتي في أذهاننا ليس الاعتراض علي الحديث, ومناقضته حديثا آخر, هذا مشروع ونجيب عنه لا مانع, لكن الذي يأتي في أذهاننا أن نجرد الحديث حتى نفهمه, امرأة: فلو كان رجلا ألا يدخل النار عندما يعذب الهرة؟ فإن لم تكن هرة, وكان كلبا مثلا؟ أو إنسانا؟ فإذن أظل أجرد المرأة حتى أصل إلي أنها إنسان, ولذلك تشمل الرجل والنساء.. إلخ.
وأظل أجرد في الهرة حتى تصبح الكون, ويصبح الحديث يقول إن العلاقة بين الإنسان والكون هي العمار وليس الدمار, وأنك إذا لم تفهم هذا عن الله فإنك تكون مخربا مدمرا تستحق عذاب الله, هذا هو الكلام.. هذا الحديث ليس مقصده القطط والكلاب, ولا قصده المرأة والسيدات, إنه يقصد الإنسان والكون.. علاقة الإنسان مع عمار الكون لا دماره.. هذا هو الذي نأخذه من هذا الحديث.. وهكذا.
وعندما ننظر إلي الرجل الذي قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فحرم جسده علي النار, هذا علاقة بين الإنسان وبين ربه قائمة علي الرحمة.. فالعلاقة بين الإنسان والكون قائمة علي العمار, والعلاقة بين الإنسان والرب قائمة علي الرحمة وعلي الحب وعلي العفو وعلي المغفرة.. هذا هو الكلام الجيد.. هل هذا فيه تناقض؟ أن تكون علاقتي مع الكون العمار, وعلاقتي مع الله الرحمة؟! لا يوجد هنا أي تناقض وهذه زاوية جديدة في استقراء ما وراء الأحاديث.. وما بين السطور.. وأنت عندما تنظر إلي الأحاديث وتسير معها تجدها متسقة تماما في بناء مكون لإنسان حضاري عابد لربه معمر لكونه مزك لنفسه.. وهذا هو الإنسان الذي ندعوا إليه..
ونقول لهم: لا داعي للدمار, كفوا عن الدمار, لأن الإسلام يقول بالعمار, وهو يقول به في كل مكان وزمان.. ويقول: دخلت امرأة بغي الجنة في كلب وجدته عطشان فسقته[4]. يريد أن يعلمه الرحمة.. ويريد أن يعلمني في الوقت نفسه أن الذنوب التي بيني وبين الله وإن كانت ذنوبا ومعاصي وقاذورات. إلخ فإن أساسها العفو والتجاوز وعدم الوقوف لديها, ومن كمال التوبة نسيان الذنب, ونسيان أني عصيت, وأقول: إنني لم أعص قط, وصفحتي بيضاء, لأنني ذهبت للحج, أو اعتمرت.. وهو البدء من جديد. بعض الناس يقولون: هل أنت تستهين بالذنب؟ فهو بذلك لا يفهم, فالله يقول:{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[5]وفي الحديث:" ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"[6], إن العلاقة بيني وبينه هي الرحمة, فكيف أستهين بالذنب.. أنا أمتثل لأمر الله الذي فتح باب التوبة.
[1] متفق عليه.
[2] متفق عليه, ونصه في الصحيحين:" إن الله قد حرم علي النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
[3] سبق تخريجه.
[4] متفق عليه ولفظه في مسلم:" بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت مزقها فاستقت له به فسقته إياه فغفر لها به".
[5] الآية 1 من سورة الفاتحة.
[6] أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.