السيرة النبوية

السيرة النبوية كاشفة عن خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم

من أهم ما ميز السيرة النبوية أنها كشفت عن عظمة المصطفى وخصائصه الفريدة التي انتقلت إلى خصائص الأمة والرسالة ذاتها، ومن هذه الخصائص :

أولا : حفظ الكتاب الذي أرسل به :

قال الله تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر :9]

إن هذه الآية وعد من الله الذي أنزل القرآن والوحي بأن يحفظه، والواقع الذي نعيشه يؤكد أن الوعد قد تم، ويزداد الإعجاز عبر الزمان من كل جهة؛ فإن القرآن لم يحفظ في الخزانات بعيدًا عن الناس، بل حفظه الأطفال بالملايين في كل مكان، وزاد من الإعجاز أن حفظه من لم يتعلم العربية ولم يعرف فيها كلمة واحدة.

وقد تعرض القرآن الكريم لمحاولات التحريف فلم تفلح، ولمحاولات الترجمة الخاطئة السيئة النية فلم تؤثر فيه، ولمحاولة الطباعة المحرفة، فبقي كما هو، ولمحاولة تقليده ومحاكاته بسيئ الكلام وركيكه فلم يزحزح عن مكانته، بل إن كل ذلك أكد معجزته الباقية عبر الزمان، وأعلى من شأنه في صدور الناس، وكان كل ذلك بالرغم مما اشتمل عليه من العدوان والطغيان سببًا في تمسك المؤمنين به، وبابًا جديدًا للدعوة إلى الله ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وبدلا من إبادة المسلمين التي أرادها مشركو مكة، ومن بعدهم الفرس والروم، ومن بعدهم الفرنجة والتتار، ومن بعدهم الاستعمار والتعصب في الشرق والغرب، بدلاً من ذلك انتشر الإسلام وأصبح عدد المسلمين أكبر أتباع دين طبقًا لموسوعة جينز للأرقام القياسية، وهم يقدرون الآن بمليار وثلاثمائة مليون نسمة.

فقد نزل القرآن بلغة العرب، وظل محتفظًا بلغته إلى يومنا هذا، وهذا الاحتفاظ جعله مرجعًا لكل من حاول أن يترجمه إلى لغة أخرى، ولقد ترجم منذ العصور الأولى خاصة ما ورد منه في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأكاسرة والقياصرة؛ حيث وردت بعض الآيات في هذه الرسائل فترجمت إلى لغات المرسل إليه أثناء تلاوتها عليهم، والآن ترجم القرآن إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة، بعضها ترجم مرة واحدة، وبعضها ترجم أكثر من مائتين وخمسين ترجمة كما هو الحال في اللغة الإنجليزية مثلا، وكثير منها ترجم مرات عديدة، وفي كل الأحوال يبقى النص القرآني هو المرجع.

والترجمة قد تكون سيئة النية وقد تكون من نص آخر غير العربية (كترجمة شوراكي إلى الفرنسية والترجمة إلى الأسبانية ..... إلخ) وقد تكون من شخص يجهل إحدى اللغتين أو اللغة المترجم إليها، وقد تكون ترجمة مذهبية أو طائفية أو شارحة لرأي المترجم. وفي كل الأحوال قد تكون مفككة وركيكة التركيب، وقد تكون بليغة راقية الأسلوب، ولكن يبقى الأصل العربي ليرفع النزاع ويمثل الإسلام تمثيلاً حقيقيًّا من تحريف أو تخريف، وهذه مزية تفرد بها القرآن عن سائر الكتب المقدسة.

فقد نقل القرآن بالأسانيد المتصلة المتكاثرة التي بلغت حد التواتر الإسنادي والجملي، ولقد أورد ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) أكثر من ألف سند من عصره (القرن التاسع الهجري) إلى القراء العشرة وهم قد نقلوا القرآن ممثلين عن مدن بأكملها كلها يقرأ كما كانوا يقرءون، وهذا ما يسمى بالتواتر الجملي؛ فلأن الناس جميعا يقرءون القرآن في مدينة معينة بهذه الطريقة وبهذا الأداء فكان هؤلاء القراء مجرد مندوبين عنهم وممثلين لقراءتهم، وحافظين لطريقتهم في التلاوة، وارتضاهم أهل كل مدينة لما رأوا فيهم مزيد الاهتمام وتمام العلم، فشهدوا لهم جميعا بذلك، فهناك ابن كثير (القارئ وليس المفسر) في مكة، وهناك نافع وأبو جعفر في المدينة المنورة، وهناك عاصم والكسائي وحمزة في الكوفة، ويعقوب وأبو عمرو بن العلاء في البصرة، وابن عامر في الشام، وخلف في بغداد وهؤلاء العشرة يروُون قرآنا واحدًا وطريقة كل واحد في القراءة تفسر القرآن تفسيرًا يجعله واسعًا قادرًا على أن يكون مصدرًا للهداية إلى يوم الدين مع تغير الأحوال وتطور العصور.

واهتم نقلة كتاب الله سواء عن طريق الكتاب أو التلقي بأدق معايير التوثيق في الأرض، والتي ابتكرها المسلمون أنفسهم، فاهتموا بالنقل على مستوى اللفظ والشكل والحركة، والأداء الصوتي في صورة أعجزت وبهرت كل من اطلع على كيفية نقل القرآن الكريم، وقد أنشأ المسلمون العلوم وابتكروها حتى في طريقة قراءة القرآن وبرزت علوم القراءات والتجويد لأداء ذلك الغرض.

والقرآن ما زال بين أيدينا قرآنا واحدًا، وامتلأت كتب التاريخ والأخبار بمن قرأه قراءة خاطئة أو تعمد تحريفه، وظل القرآن كما هو لا يتزحزح ولا يتغير ولا توجد فيه نسخ كثيرة، ولا يحتار المسلم بين نسخة وأخرى ولا يحتاج إلى أن يتخير منها عدة نسخ، بل هو قرآن واحد من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة. وكان جديرًا بعد كل هذا أن يتغير لكنه لم يكن كذلك، إنه محفوظ في الواقع المعيش، ويحلو لبعض الناس أن تحشر هذه المخالفات من كتب التاريخ وهي مذكورة لتبين للناس أجمعين وفي كل العالم أن هذا الكلام من الحجارة التي ألقيت على القرآن أثناء مسيرته لم تؤثر فيه، وأنه تعرض لكثير من الضجيج ولكثير من الهجمات، فكان جبلاً شامخًا، ليس من حول المسلمين وقوتهم؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، بل بحفظ الله له كما وعد سبحانه.

ثانيا : تخليد ذكره صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح :4]، وفي هذه الآية وعد آخر برفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وتخليده في العالمين، ولقد شهد الواقع -وما زال يشهد كل يوم- بتخليد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فليس هناك نبي، ولا شخص، ولا شيء من مخلوقات الله يذكر في أنحاء الأرض كافة مثل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إخوانه من أنبياء الله العظماء كعيسى عليه السلام والذي عبده بعض الناس، واعتقدوا أن الله حل فيه، أو أنه أقنوم من أقانيم الإله يدعونه ابن الله، حتى هؤلاء لا يذكرون عيسى أو يسوع بالشكل الذي يذكر المسلمون به نبي الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.

فرسول الله يذكر في اليوم والليلة في كل وقت في الآذان في جميع أنحاء الأرض، وهي ما نستطيع أن نطلق عليها ديمومة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك وقت في اليوم أو الليلة إلا وهناك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم إما في الآذان أو الإقامة أو الصلاة.

فهذا تخليد لذكره الشريف في العالمين، ولا يستطيع أحد أن يوقف ذلك الذكر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأن الوعد من الله، ولا يخلف الله وعده.

ثالثا : حفظ آله صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِى القُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [الشورى :23].  

وقد صح عن سعيد بن جبير -رحمه الله- أن قال في معنى هذه الآية: «لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة»([1])، فهذه توصية بقرابته يأمره الله أن يبلغها إلى الناس. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه  يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي »([2])، وقال رضي الله عنه  أيضًا: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»([3]).

وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحب آل بيته والتمسك بهم، ووصانا بهم - عليهم السلام أجمعين - في كثير من أحاديثه الشريفة، نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين؛ أولهما : كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به». فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي». فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل على، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم»([4]) وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»([5]).

وإن الأمر بالتمسك بالعترة الطاهرة آل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي بقاءهم في كل الأزمان، حتى يكون ذلك الأمر صالحًا للتطبيق في كل الأزمان، فالعترة الطاهرة باقية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه من خصائصه التي شهد بها التاريخ، فليس هناك نبي مرسل، حفظ الله أهله ونسبهم إليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وذلك تصديقًا لوعده ولأمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بهم رضي الله عنهم أجمعين فهم الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه، ليؤكد بالدليل العملي القاطع على وجوده التاريخي، فإن وجود آل النبي صلى الله عليه وسلم بيننا إلى يومنا هذا، ووجودهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها يؤكد للعالم أجمع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن وهما، ولا يمكن إنكاره بل هو واقع وحق بهر الوجود وزيَّنه.

«والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر ببقاء عترته في حين أن أبنائه كلهم قد ماتوا أمام عينيه في حياته إلا السيدة فاطمة عليها السلام حيث ماتت بعد انتقاله الشريف بستة أشهر، والأعجب من هذا أن أمامة بنت العاص ابنة زينب عليها السلام ماتت دون أن تعقب، فانحصر النسل الشريف في الحسن والحسين، وعلى كثرة زواجهما رضي الله تعالى عنهما إلا أنه لم يبق من أولادهما أحد بعد أن تسلط عليهم سيف الفسقة بالقتل، ولكن الله نجا أو أبقى الحسن المثنى وزيدا الأبلج ابنا سيدنا الحسن، عليا زين العابدين ابن سيدنا الحسين، ثم انتشر النسل الشريف بكثرته في الشرق والغرب من هؤلاء فقط، وكأن الله سبحانه وتعالى يرينا أنه كان قادرا على قطع نسل النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنه أبقاه تصديقا لكلامه الشريف، ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم»

رابعا : بروز قبره وبقاؤه:

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء :64]. وقد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحياة الدنيا، ولكن بانتقاله هذا لم ينقطع عنا صلى الله عليه وسلم وله حياة أخرى هي حياة الأنبياء، وهي التي تسمى الحياة بعد الموت، أو الممات كما سماها صلى الله عليه وسلم حيث قال: «حياتي خير لكم تُحدثون ويَحْدُث لكم. ومماتي خير لكم، تُعرض علي أعمالكم فما رأيتُ من خير حمدت الله، وما رأيتُ من شر استغفرت الله لكم»([6]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي؛ حتى أرد عليه السلام»([7])، وهذا الحديث يدل على اتصال روحه ببدنه الشريف صلى الله عليه وسلم أبدًا؛ لأنه لا يوجد زمان إلا وهناك من يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله ليست كحياة باقي الناس بعد الانتقال؛ وذلك لأن غير الأنبياء لا ترجع أرواحهم إلى أجسادهم مرة أخرى، فهي حياة ناقصة بالروح دون الجسد، وإن كان له اتصال بالحياة الدنيا كرد السلام وغير ذلك مما ثبت في الآثار، ولكن الأنبياء في حياة هي أكمل من حياتهم قبل الانتقال، وأكمل من حياة باقي الخلق بعد الانتقال.

وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام يعبدون ربهم في قبورهم، فعن أنس رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مررت على موسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره»([8])، وعنه صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون»([9])، ويدل هذا الحديث على أنهم أحياء بأجسادهم وأرواحهم لذكر المكان حيث قال «في قبورهم»، ولو كانت الحياة للأرواح فقط لما ذكر مكان حياتهم، فهم أحياء في قبورهم حياة حقيقية كحياتهم قبل انتقالهم منها، وليست حياة أرواح فحسب؛ كما أن أجسادهم الشريفة محفوظة يحرم على الأرض أكلها، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»([10]).

ومن تمام إعجاز القرآن وبقائه وصلاحيته في كل الأزمان، وتمام تحقيق الله لوعد نبيه صلى الله عليه وسلم إبراز قبره الشريف، وأصبح القبر الشريف حقيقة تاريخية لا يختلف اثنان من أن ذلك الموضع بالمدينة المنورة في مسجده الشريف هو القبر الذي ضم جسد أعظم العظماء بشهادة غير المسلمين.

ليس هناك يقين عند أحد من المؤرخين بوجود قبر صحيح منسوب لأحد من الأنبياء إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ثبوت قبره يقينًا عند المؤرخين، وبروزه فضيلة أخرى شهد بها الواقع التاريخي، وجميع الشواهد.

خامسا : حفظ سنته وسيرته :

قال تعالى : ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾  [النجم :3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»([11]). وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله»([12]). وعن حسان بن عطية قال: «كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن»([13]).

فأدرك الصحابة ومن بعدهم أهمية ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وحركات وسكنات وقاموا بتسجيلها لحفظ ذلك الدين الخاتم.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد، بل الإنسان الوحيد الذي حفظت سيرته وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته في اليقظة والمنام بهذا الشكل، فلم يهتم أحد بحفظ سيرة أحد على الأرض على مر التاريخ على هذا النحو، واهتم المسلمون بنقل كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشئوا العلوم لحفظ سيرته وسنته، ولقد بدأ هذا في الصدر الأول للإسلام، فابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يتحرى الليلة التي يأتي فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالته ميمونة ـ إحدى زوجاته رضي الله عنها ـ ويبيت عند خالته حتى يراقب النبي صلى الله عليه وسلم في أكله ونومه وعبادته، ويتمثل به كما روى ذلك مسلم في صحيحه وغيره.

ومن أبرز تلك العلوم التي نشأت علم الحديث والمصطلح، والذي رأى أن السنة هي: « كل الأقوال والأفعال والتقريرات حقيقة وحكمًا، حتى الحركات والسكنات يقظة ومنامًا قبل البعثة وبعدها» على نحو سيأتي تفصيله فيما بعد.

فكان حفظ سيرته وأخباره في كتب الصحاح والسنة والسيرة دليل واقعي تاريخي آخر على خصوصية وفضل ذلك النبي، فليس هناك تسجيل تاريخي محفوظ لنا بسند متصل إلى أحد الأنبياء إلا له صلى الله عليه وسلم.

سادسا : حفظ أمته من عبادته صلى الله عليه وسلم:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [رواه مالك في الموطأ] وكما يظهر فالمقصود من كلمة مساجد في هذا الحديث، هو السجود لمن في القبر عبادة له، بدليل تحذيره في بداية الحديث لا تجعل قبري وثنًا يعبد، وإن من أعجب العجب، حفظ الله تعالى لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تقع في عبادته رغم وقوعها في عبادة من هو أقل منه شأنًا، فضل أقوام وخرجوا من ملة الإسلام بأنها عبدت سيدنا عليًّا رضي الله عنه ، وضل آخرون بعبادتهم للحاكم بأمر الله.

إلا أن الله وقى الأمة على مر العصور وكر الدهور من الوقوع في عبادته صلى الله عليه وسلم، ولم يسجل التاريخ حتى ولو حالة واحدة أن هناك طائفة عبدته صلى الله عليه وسلم من دون الله، وفي ذلك إعجاز وحفظ واستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم حيث وقى الله الأمة أن تعبده، وسيستمر هذا الأمر إن ـ شاء الله ـ إلى أن يرث ربنا الأرض ومن عليها.

سابعا : نزاهة جهاده وجهاد أمته:

إذا تكلمنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره قائدًا مجاهدًا شجاعًا نبيلاً، ونراه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم قواد الجيوش في العالم بأسره حقيقة الحروب، وكيف تدار، ومتى تبدأ وكيف تنتهي، وبالاطلاع على الحقائق التاريخية يتأكد ذلك المعنى، ومن هذه الحقائق: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسع إلى الحروب وإنما فرضت عليه بسبب الاعتداء عليه، أو رغبة الظلم والعدوان، أو محاربة دين الله والآمنين، فقد فرض عليه صلى الله عليه وسلم طوال قيادته للدولة الإسلامية اثنان وثمانون تحركا عسكريا، لم ينشب القتال في ستين منها، وخمس تحركات لم يقتل غير المسلمين، ومجموع القتلى والشهداء من الفريقين 1004 أشخاص منهم 252 شهيدا مسلما والباقي من المشركين.

هذه الأرقام ليست من الفظاعة حتى تجبر العالم بأسره أن يخشى من الإسلام ويدخل فيه خوفا من السيف، بل إن عدد قتلى حوادث السيارات في عام واحد في أي مدينة كبيرة يفوق هذا العدد.

وذلك يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن الخيار الأول عنده القتال، وكان يبتعد عن القتال قدر استطاعته حتى لا يجد من القتال بدا بأن يدافع عن نفسه وينصر المظلومين وينشر الإسلام.

وقد أنتجت هذه الحروب نحو ستة آلاف وخمسمائة أسير عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ستة آلاف وثلاثمائة أسير، ولم يأسر ويستمر الأسر إلا على مائتين، فكانت حروبه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهو سيد ولد آدم ولا فخر.

وبذلك الخلق وتلك الأرقام يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجاهد جهاد النبلاء، كيف نكون أتقياء مراقبين لله حتى في ظل احتدام المعركة، كيف نذكر الله في كل وقت وخاصة في وقت الجهاد، وقد اكتنف جهاده صلى الله عليه وسلم حقائق كثيرة ينبغي أن يعلمها المسلمون، فمن كان يجاهد؟ وكيف كان تواضعه ولجوءه إلى ربه في أصعب الأوقات؟ وكيف صار أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ بعده على هديه في الجهاد؟

وقد واصل الصحابة الكرام مسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام، والدعوة إلى الله على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وكانوا لا يلجئون إلى القتال إلا إذا فرض عليهم من قوى العالم المتجبرة.

فلم ينشر المسلمون دينهم بالسيف، وقد شهد بذلك المنصفون من أبناء الحضارة الغربية، فهذا المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) - وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عصور الفتوحات من بعده -: «قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة. ، ولم ينتشر القرآن إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ما زاد عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها»([14]).

ونسجل شهادة الكاتب الغربي الذي يدعى (توماس كارليل)، حيث قال في كتابه «الأبطال وعبادة البطولة» ما ترجمته: «إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من  يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها»([15]).

إن من يقرأ التاريخ ويلاحظ انتشار الإسلام على مر العصور يعلم أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل انتشر بطريقة طبيعية لا دخل للسيف ولا القهر فيها، وإنما بإقامة الصلات بين المسلمين وغيرهم وعن طريق الهجرة المنتظمة من داخل الحجاز إلى أنحاء الأرض.

وهناك حقائق حول هذا الانتشار حيث يتبين الآتي:

في المائة العام الأولى من الهجرة: كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي:  ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5%، وفي العراق 3%، وفي سورية 2%، وفي مصر 2%، وفي الأندلس أقل من 1%.

أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:-

إيران سنة 185 هـ، والعراق سنة 225 هـ، وسورية 275 هـ، ومصر 275 هـ، والأندلس سنة 295هـ.

والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي:

بلاد فارس 235 هـ، والعراق 280 هـ، وسورية 330 هـ، ومصر 330هـ، والأندلس 355 هـ.

أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي:

بلاد فارس 280 هـ، والعراق 320 هـ، وسورية 385 هـ، ومصر 385 هـ، والأندلس سنة 400 هـ.

من يعلم هذه الحقائق ويعلم أن من خصائص انتشار الإسلام:

1-   عدم إبادة الشعوب.

2- الإبقاء على التعددية الدينية من يهود ونصارى ومجوس؛ حيث نجد الهندوكية على ما هي عليه وأديان جنوب شرق آسيا كذلك.

3-   إقرار الحرية الفكرية، فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة.

4-   ظل إقليم الحجاز مصدر الدعوة الإسلامية فقيرًا حتى اكتشاف البترول في العصر الحديث.

كل هذه الحقائق وغيرها، تجعلنا نتأكد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل، وهو الرسول الخاتم الذي علم البشرية بأسرها فضائل الأخلاق، والتسامح، والنبل، والشجاعة، وعلى دربه سار أصحابه، والتابعون من بعدهم، وضرب المسلمون أروع الأمثلة للأخلاق، وانبهر العالم من حولهم بهذه الأخلاق النبوية التي توارثوها جيلاً بعد جيل.

ثامنا : «كمال أسوته»

فقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسوة لكل أحد مع اختلاف مشاربهم وأوضاعهم وأحوالهم ودرجاتهم وأعمالهم وتخصصاتهم، ولم يكن نبي قط على هذا الحال إلا سيد الخلق، فقد اشتغل بالرعي، والتجارة، والعبادة، والقيادة، والتدريس، والقضاء، وكان من الأغنياء ومن الفقراء، وكان أبا وزوجا وجارا وصديقا، وتزوج امرأة واحدة، ورأى أحفاده فكان جدا، وتزوج أكثر من امرأة معا، فكانت له الأسرة المستقلة، وكانت له حالة التعدد، وكان محاربا ومعاهدا ومفاوضا ومناظرا ورجل سلام، وعاش في دار الكفر، وعاش في دار الإيمان، وهاجر، ولو جلسنا نعدد نواحيه كلها ما استطعنا.

ولكنه كان بالجملة مثالا لكل أحد فيجد كل واحد ممن أراد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في حال من الأحوال، أو في شأن من الشئون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه بسيرته العطرة وإرشاده المستقيم مثالا يحتذى وأسوة حسنة متبعة.

تاسعا : «شفافيته» :

وكان سيد الخلق ظاهره كباطنه، وهو أمر لم نعهده فيما رأيناه من البشر، ولم نعهده كلنا في أنفسنا، بل إن الإنسان يحب أن تكون له خصوصية لا يطلع عليها أحد، ولكنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن تعرفه، وقال : «بلغوا عني ولو آية» وتزوج من تسع نسوة حتى ينقلن بثقة وأمانة حياته الخاصة، فلم تتبرم واحدة قط، ولم ترو واحدة ما يشين في سره وخصوصيته، كما أنه صلى الله عليه وسلم، قد آمن به من عرفه لا من لم يعرفه، وهو عكس ما كان عليه الأنبياء من أنهم قد آمن بهم من لم يعرفهم، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دافعوا عنه وفادوه بأنفسهم، وأصحاب الأنبياء فروا منهم وتفرقوا حين اللقاء.

وبذلك نقلت حياة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها وروى عنه أحاديثه أكثر من ألف وسبعمائة 1700 شخص عاش كثير منهم ليروي مقولة واحدة، وتحت يدينا صورة واضحة بكل العلاقات في حين أن بوذا وكنفشيوس وسيدنا موسى وعيسى -عليهما السلام- لا نعرف عن سيرتهم شيئًا، وأصحابهما -عليهما السلام- نعرف العدد القليل جدا منهم بأسمائهم دون سيرتهم، في حين أن المجلدات قد نقلت في سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ونقلت ترجمة نحو عشرة آلاف صحابي، ولم يحدث هذا في تاريخ البشر.

فكانت حياة محمد عمارا وتعميرا، وكانت حياة غيره مجملة لا تصلح لأن تكون محلا للدرس واستخراج الأسوة للعالمين.

لقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به من ربه على أكمل وجه، وهذا في حد ذاته معجزة، حيث لم يختلف أول أمره عن آخره، فارس معلم بالنهار، عابد قائم بالليل.

عاشرا  : «صدقه في ختم النبوة به» :

        حيث قال ربنا : ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب :40]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نبي بعدي». فلم يأت نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وكل من ادعى النبوة كذبا انتهى أمره، ولم يتبعه أحد، وذهب ذكره في التاريخ، أما المصطفى صلى الله عليه وسلم فله أمة هي أعلى وأكثر أهل الأديان تبعا.

وابتلى الله بعض الكذابين ممن ادعى النبوة أولا بدعوى الألوهية أخيرًا، فخرجوا عن المعقول والمنقول، ولم تنتشر أديانهم انتشار الإسلام.

الثاني عشر : «أمته أمة التوحيد» :

فهي الأمة التي تعبد ربا واحدا، والتي لها نبي واحد، والتي لها كتاب واحد، ولها قبلة واحدة، وتصوم شهرا واحدا، وترى الدنيا والآخرة حياة واحدة، وهي الأمة الوحيدة التي تسجد لربها في صلاتها، والأمة الوحيدة التي تصلي كل يوم خمس مرات بهذه الكيفية تطهر قبل الصلاة، وتستقبل قبلة واحدة، وترتبط الصلاة بمواقيت، ولها شروط وأركان، وهي الأمة الوحيدة التي فيها الصلاة شخصية تتعلق بذمة كل مسلم ومسلمة، لا يشترط فيها إلا العقل (فلا تفرض على الصبي وإن صحت منه، ولا تفرض على المجنون، ولا تفرض على النائم وإن طولب بها في الجملة).

وهي الأمة الوحيدة التي عندها تفاصيل العلاقة بين الإنسان وربه، فسرها الفقهاء في باب العبادات، وعندها تفاصيل شعب الإيمان، وعندها تفاصيل التشريع في العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين كونه، وبينه وبين الناس أجمعين. وهي الوحيدة التي عندها تفاصيل عالم الغيب، وتفاصيل مشاهد القيامة والجنة والنار، حتى إنها تفاصيل من يقف في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، وعندها سند التوثيق المستمر في نقل الدين من جيل إلى جيل، حتى إن كل النقلة عبر العصور قد سجلوا بأسمائهم وأوصافهم وهو ما لا وجود لهم في البشرية أبدا. فعندها البركة الموروثة.

الثالث عشر : «عالمية الإسلام» :

دعا محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى عالمية الإسلام، قال تعالى : ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف :104]. وقال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء :107]. في حين أن كل نبي جاء لم يدع إلى العالمية، بل دعا إليها من جاء بعده، وهذه العالمية أيدت في القرآن، فنص فيه على أنه محفوظ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر :9].  وأنه الختام ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب :40]. وأن الدين قد كمل : ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة :3].  ولذا تراه قد اعترف بجميع الأنبياء من قبله، وجعل الإيمان بهم ركن الإيمان بالإسلام، وخاطب الناس أجمعين، فقال : ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف :158]. وقال : ﴿يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف :26]

ــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج4 ص 1289.

([2]) أخرجه أحمد في المسند، ج1 ص 9، والبخاري في صحيحه، ج3 ص 1360، ومسلم في صحيحه، ج3 ص 1380.

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه في موضعين، ج3 ص 1361، وص 1370 في الجزء نفسه.

([4]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 366، ومسلم في صحيحه، ج4 ص 1873.

([5]) أخرجه أحمد في المسند، ج3 ص 26، والترمذي في سننه، ج5 ص 662.

([6]) أخرجه البزار في مسنده 4-9، ج5 ص 308، والديلمي في مسند الفردوس، ج2 ص 137، والحارث في مسنده بزيادات الهيثمي، ج2 ص 884، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9 ص 24 وعقبه بقوله ورجاله رجال الصحيح..

([7]) أخرجه أحمد في مسنده، ج2 ص 527، وأبو داود في سننه، ج2 ص 218، والطبراني في الأوسط، ج3 ص 262، والبيهقي في الكبرى، ج5 ص 245، وفي الشعب، ج2 ص 217، والديلمي في مسند الفردوس، ج4 ص 25، والمنذري في الترغيب والترهيب، ج2 ص 326، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج10 ص 162، وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح، ج6 ص 488: ورواته ثقات، ورد على الإشكالات العقلية الواردة عليه.

([8]) أخرجه أحمد في مسنده، جـ2 صـ 315، ومسلم في صحيحه، جـ4 صـ 1845، والنسائي في الكبرى، جـ1 صـ 419، وابن حبان في صحيحه، ج1 ص 242، وابن أبي شيبة في مصنفه، جـ7 صـ 335، والطبراني في الأوسط، جـ 8 صـ 13.

([9]) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، ج1 ص 119، وأبو يعلى في مسنده، ج6 ص 147، وابن عدي في الكامل، جـ2 صـ 327، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، جـ 8 صـ 211، وعقبه بقوله ورجال أبي يعلى ثقات.

([10]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 8، وأبو داود في سننه، جـ1 صـ 275، والنسائي في سننه، جـ3 صـ 91، وابن ماجه في سننه، جـ 1 صـ 524، والدارمي في سننه، جـ1 صـ 445، والحاكم في المستدرك، ج1 ص413، وعقبه بقوله: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ورواه البيهقي في الصغرى، جـ1 صـ 372، والكبرى، جـ3 صـ 428.

([11]) رواه أحمد في مسنده، ج4 ص 130، وابن أيوب الطبراني في مسند الشاميين، ج2 ص 137، والمروزي في السنة، ج1 ص 71.

([12]) رواه أحمد في مسنده، ج4 ص 130، وأبو داود في سننه، ج3 ص 170، والترمذي في سننه، ج5 ص 38، وابن ماجة في سننه، ج1 ص 9، وابن حبان في صحيحه، ج1 ص 188، والحاكم في المستدرك، ج1 ص 190، واللفظ للترمذي.

([13]) رواه أبو داود في مراسيله، ج1 ص 361، المروزي في سنته، ج1 ص 33، وابن المبارك في الزهد، ج1 ص 23.

([14]) غوستاف لوبون حضارة العرب ص 128 ، 129 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.

([15]) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد صـ166 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب..

خصائص السيرة النبوية

تميزت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالعديد من المزايا والخصائص، التي جعلتها سيرة خاصة ليست كقصة حياة أي إنسان أو حتى أي نبي آخر، ومن هذه الخصائص :

1- دقة تفصيلاتها :

فقد تميزت مراجع السيرة النبوية في التراث الإسلامي بشدة تفصيلاتها التي تجعل الباحث فيها والقارئ لها وكأنه يشاهد تلك المرحلة مشاهدة العين، فذكرت المراجع دقائق النسب في العرب وتوسعت في ذكر فترة ما قبل البعثة وتاريخها، وتحدثت عن مولده ونشأته ورضاعته الشريفة صلى الله عليه وسلم.

وتحدثت كتب السيرة عن شبابه وعمله، وكيف يأكل وكيف يضحك صلى الله عليه وسلم، وكيف ينام، وماذا يحب من الطعام، كل شيء تم تسجيله بتفصيل دقيق يبهر الناظر في ذلك التراث من شدة تتبع المسلمين لكل شيء وهم كانوا في تدوين هذا التراث على هدي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فذكرت السنة النبوية أن سيدنا عبد الله بن عباس تحرى ليلة خالته ميمونة وذهب ليبيت عندها ليراقب كيف ينام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يستيقظ، وكيف يقوم الليل، فيرى ذلك كله ويخبر به المسلمين.

2- شدة توثيقها وثبوتها :

«التوثيق» يعد أحد أهم سمات النموذج المعرفي الإسلامي، وقد تأصلت تلك السمة في حضارة المسلمين عبر القرون حتى أصبحت مكونًا أصيلاً من مكونات عقلية المسلم، وابتكر المسلمون علومًا كثيرة لتحقيق تلك السمة، ومن مظاهر ترسخ «التوثيق» في عقلية المسلمين أنهم لم يقصروه على الوحي فحسب، بل قاموا بتوثيق كل الأقوال المنقولة حتى عن غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، كما قاموا بتوثيق الكتب المؤلفة من علماء المسلمين.

وقد أبدع المسلمون (علم التوثيق) على غير مثال سابق، فلم يأخذوه من أمة خلت، ولم يقلدوا أحدًا من الناس فكان من العلوم التي وضعوها وكملت غاية الكمال، وعلم التوثيق مثله في ذلك مثل (علم الفهم) أو ما يسمى (بأصول الفقه)، فإنه علم بديع نشأ من حضارة المسلمين، وهذان العِلمان يحتاجهما العالِم الذي يتمسك بالمنهج العلمي فيوثق مصادره ويتأكد من معلوماته حتى لا يقع في عقلية الخرافة ولا في حد الانطباع التي لا ضابط لها ولا رابط.

ومن علوم التوثيق عند المسلمين (علم القراءات القرآنية) (وعلم رواية الحديث) حيث ينشئ المسلمون علم القراءات ينقلون فيه كتاب الله من غير تحريف ولا تصحيف، وعلوم الحديث رواية ودراية ينقلون فيها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنهج علمي غير مسبوق، وعلم أصول الفقه وعلوم العربية ليفهموا من خلالها الفهم المنضبط للنص الشرعي الوارد إلينا بلغة العرب.

فالتوثيق ثقافة يجب أن تشيع حتى نصل إلى العقلية العلمية ونخرج من عقلية الخرافة والانطباعات الهشة.

وقد بلغ التوثيق في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروته، فكتبت سنته وسيرته بأوثق الأسانيد وأكثرها بعد القرآن الكريم،  فهو النبي الوحيد، بل الإنسان الوحيد الذي حفظت سيرته وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته في اليقظة والمنام بهذا الشكل، فلم يهتم أحد بحفظ سيرة أحد على الأرض على مر التاريخ على هذا النحو، واهتم المسلمون بنقل كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشئوا العلوم لحفظ سيرته وسنته، ولقد بدأ هذا في الصدر الأول للإسلام، فابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يتحرى الليلة التي يأتي فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالته ميمونة ـ إحدى زوجاته رضي الله عنها ـ ويبيت عند خالته حتى يراقب النبي صلى الله عليه وسلم في أكله ونومه وعبادته، ويتمثل به كما روى ذلك مسلم في صحيحه وغيره.

فكان في حفظ سيرته وأخباره في كتب الصحاح والسنة والسيرة دليل واقعي تاريخي آخر على خصوصية وفضل ذلك النبي، فليس هناك تسجيل تاريخي محفوظ لنا بسند متصل إلى أحد الأنبياء إلا له صلى الله عليه وسلم.

3- أهمية مصادر كتب السيرة وأهم المراجع في السيرة :

يعد القرآن الكريم من أهم مصادر السيرة، بما تضمنه من وصف للعديد من الأحداث والغزوات، وتصوير للصراع بين الإسلام وخصومه، وبما له من دلالاته لشدة توثيقه وقطعية ثبوته، حيث لا يشكك أحد فيه من الناحية التاريخية، وإن اختلفت الآراء بين المسلمين وغيرهم حول مصدره.

وبعد القرآن الكريم تأتي كتب السنة المختلفة ما بين الكتب المرتبة على المسانيد والكتب المرتبة على الموضوعات الفقهية، حيث أمدت هذه الكتب السيرة النبوية  بمادة علمية غزيرة، كما اشتملت على تفاصيل غاية في الدقة في جميع مجالات الحياة.

وتعلو درجة كتب السنة على كتب السيرة من ناحية صحة الأسانيد واتصالها وينطبق ذلك على الكتب الستة المعروفة أو التسعة المشهورة ويأتي الصحيحان على رأس هذه الكتب.

وإضافة لما سبق فإن كتب الحديث وشروحها تناولت المغازي والأحداث التاريخية، وقدمت معلومات غزيرة في هذا المجال.

وللسيرة النبوية مصادر أخرى غير القرآن الكريم والسنة النبوية، ككتب أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وكتب التفسير عموما وفي مقدمتها [تفسير الطبري]  و [تفسير ابن أبي حاتم الرازي] فكلا التفسيرين خدما السنة من حيث كثرة التفاصيل وذكر الأسانيد مما يفيد في توثيقها.

كما ساهمت كتب الرجال في تحقيق كتب السيرة، فلا تخفى فائدة هذا العلم على معرفة الأسانيد سواء في كتب الأحاديث أو السيرة، فهذا العلم يحكم على صحة الروايات من خلال نقد الرجال ومعرفة أحوالهم.

وقد فقد العديد من المراجع الأصيلة القديمة للسيرة النبوية مثل مغازي عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، الزهري، ولكن ما اقتبسته المصادر اللاحقة يوضح الهيكل والأسلوب ومستوى الدقة.

 وتعد سيرة ابن اسحق أوثق كتب السيرة المتخصصة التي وصلت إلينا بتهذيب ابن هشام بالإضافة إلى القطع الأصلية منها ، والتي نشرت خلال العقدين الأخيرين، فهو حجة في المغازي كما صرح الذهبي، رغم ما ذكره النقاد المحدثون من وجود المناكير والعجائب في رواياته، إذ أنهم قبلوا من أحاديثه في أمور العقيدة والشريعة ما صرح فيها بالتحديث ولم يدلس ما لم يخالف من هو أوثق منه ، واعتبروها في مرتبة " الحسن " الذي يحتج به. وأصح الروايات المعتمدة لسيرة ابن إسحاق هي رواية البكائي فقد لاقت قبولا لاعتمادها على نسخة منقحة، وأقل منها اعتمادا رواية يونس بكير التي اعتمدت على نسخة قديمة.  

وتأتي مغازي الواقدي في المرتبة الثانية بعد سيرة ابن إسحاق، فقد اهتم المؤرخون بها لغزارة معلوماته، وتقديمها تفاصيل كثيرة تنفرد بها، سواء في وصف الغزوات، أو تحديد تواريخ الأحداث بدقة بالغة.

ويأتي كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد [ت230هـ] في المرتبة الثالثة، وكان محمد بن سعد من كتاب الواقدي، وقد اتهم بسرقة مصنفاته ورد بعض المحدثين هذه الاتهامات، وبمطالعة كتابه تتضح أمانته في النقل حيث صرح في مواطن كثيرة بالنقل عن الواقدي.

ثم يأتي بعد ذلك أنساب الأشراف للبلاذري وترتيبه في هذا لأهميته وقدمه، ولم نقدم عليه الطبري لأن أغلب ما ذكره اعتمد فيه على ابن إسحاق وأضاف روايات قليلة من مصادره.

ثم تأتي بعد ذلك كتب متأخرة نسبية عن هذه منها [الدرر في اختصار المغازي والسير] لابن عبد البر القرطبي [ت 463 هـ]  و [جوامع السيرة] لابن حزم [ت 456هـ] غير أن هذه الكتب لم تكن إلا إعادة صياغة لنفس الكتب القديمة.

ثم جاءت الكتب المتأخرة عن ذلك وجمعت بين اعتمادها على سيرة ابن إسحاق والواقدي وبين المصادر الحديثية، فقد اتضح هذا المنهج عند ابن سيد الناس في [عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير]  و الذهبي في [السيرة النبوية]  و ابن كثير في الجزء الذي تحدث فيه عن السيرة من كتابه [البداية والنهاية]، ولقد أكثر الذهبي وابن كثير من الحديث عن صحة الأسانيد والتوثيق.

وبعد أن كثرت الكتب في السيرة النبوية بشكل كبير اتجه كتاب السير والمؤلفين إلى الجمع الكبير من تلك المؤلفات وهذا ما قام به محمد بن يوسف الدمشقي [ت942هـ] حيث جمع كتابه [سبل الهدى والرشاد في سيرة العباد] من نحو ثلاثمائة كتاب.

وكان لكتب الشمائل والدلال أهمية ومرجعية في سيرته العطرة، ويعد كتاب [دلائل النبوة] للبيهقي من أوسع تلك الكتب، وكتاب [غاية السول في خصائص الرسول] لابن الملقن. وكتاب [اللفظ المكرم بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم]  للخيضري الدمشقي.

وعلى هذا العرض فأهمية مصادر السيرة النبوية، وكثرة مراجعها من أهم السمات التي تميزها وتبرزها بين كتب السير والتاريخ الأخرى.

4- تعد بيانا عمليا تطبيقيا للوحي بيان النظري :

لم ينزل ربنا القرآن الكريم ويوحي لنبيه العظيم صلى الله عليه وسلم بالوحي الشريف لمجرد التبرك بتلاوة تلك الكلمات ورواياتها فحسب، مع تأكيدنا على عدم الإقلال من أهمية هذه التلاوة والتبرك بها ففيها من الأسرار والارتقاء في الإيمان ما فيها، إلا أننا نريد أن ننبه على المقصد الأساسي من إنزال الوحي حتى لا يظل نصا تبركيا بعيد عن التطبيق والتأثير في حياة الناس.

حيث يجد المسلم نفسه أمام نصوص الوحي الشريف عاجزا عن تطبيقها ما لم يهتدي إلى النموذج العملي الذي يريده الله منه، فمثلا في قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة :21] فيسأل المسلم وكيف أعبد ربي ؟ وفي قوله تعالى : ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء :19] فيسأل كيف أعاشر زوجتي ؟ فلا يجد إجابة عن هذه الأسئلة إلا في قوله تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب :21]. فسيرته صلى الله عليه وسلم هي النموذج التطبيقي الذي به يهتدي المسلمين لتطبيق كلام ربهم.

فلماذا معرفة السيرة النبوية ؟ لماذا التعرف على حياته ومواقفه صلى الله عليه سلم ؟ لأنه القرآن الذي يمشي على الأرض، وأخلاقه هي القرآن كما وصفته بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.

ولذا فمن أهم سمات السيرة النبوية أنها تعد منهجا تطبيقيا عمليا للوحي الشريف المسطور في القرآن والسنة فيما يمكن أن نسميه بالوحي العملي التطبيقي، فهي سيرة معصوم كما أن وحيه معصوم وكأنها : ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [النور :35].

5- تعد منهجا للسياسة الداخلية :

أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة وهو زعيم للمسلمين بين المشركين 13 سنة، أسر دعوتها وأعلنها، حذر الناس ورغبهم، تحمل الأذى، حاصره الناس اقتصاديا، أقاموه فيما يمكن أن نسميه بالإقامة الجبرية أو تحديد الإقامة، ولكنه خرج بدعوته إلى المدينة المنورة وأقام في المدينة 10 سنوات بنى المجتمع المسلم أصلح بين القبائل، جعل ولائهم لله وحده، جعل الأوس والخزرج أخوة بعد حروب ضروس، وجعل المهاجرين والأنصار أخوة، وجعل مفهوم الأخوة في المجتمع مقصورا على الإيمان، فاتسع مفهوم الأخوة من المعنى التقليدي ليكون بين المجتمع المسلم كله، وكأن المسلمين في تجمعهم وتحابهم كالأسرة الواحدة، قال تعالى : ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات :10].

هذه الإنجازات وغيرها تجعل من السيرة نبوية منهجا تطبيقيا عمليا لجمع كلمة الشعب، ولحسن إدارة السياسة الداخلية بين الناس على اختلاف أذواقهم وآراءهم، بالعفو عن المسيء منهم، وطلب المغفرة لهم، وإشراكهم في الرأي واستشارتهم فهو رحمة من ربه لهم، رقيق القلب معهم، وقد جمع الله له صلى الله عليه وسلم تلك الصفات في قوله تعالى :  ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران :159].

6- تعد منهجا للسياسة الخارجية :

لم يكن النجاح في السياسة الداخلية بأكبر منه في السياسة الخارجية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسس دولة الإسلام من المدينة المنورة وفرض عليه ثلاثة معارك كبرى على حدود دولته، فخاضها دفاعا عن دعوته، دفاعا عن دين الله.

وعقد النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدات والاتفاقيات مع اليهود والمشركين والمسيحيين، فعقدت معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة [قريش]  في عام (6هـ /627 م) ، وكانت مواد المعاهدة تتضمن ضماناً من كلا الطرفين بعدم مهاجمة الطرف الآخر . فرسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجة إليه ، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعاً عنيفاً وحروباً ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد معاهدات أخرى مع اليهود والمسيحيين، سواء المقيمين داخل الجزيرة العربية أو خارجها ، وخارج حدود دولة المدينة . فقد عقد صلى الله عليه وسلم اتفاقية سلمية مع نصارى نجران عام (10 هـ/ 631م) ، ومع يهود فدك وأيْلة وتيماء ([1]) ، ومع بني صخر من كنانة([2]).

ونجح في تأمين حدود دولته التي زاد في رقعتها الخلفاء من بعده حتى اعتبرت أكبر وأسرع إمبراطورية تتكون في التاريخ وتستمر ما يقرب 12 قرنا من الزمان، كل ذلك النجاح كان ثمرة حسن الإدارة وحسن السياسة الداخلية التي تعد سيرة المصطفى منهجا عمليا لإدارة شئون الدول من ناحية السياسة الدولية، ولا نقصد بهذا الرجوع لنفس الوسائل ولكن نتكلم عن الفكر والعقلية وترتيب الأولويات وحماية مصالح المسلمين.

7- تعد منهجا لإدارة النواحي العسكرية والجهادية :

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدًا مجاهدًا شجاعًا نبيلاً، نراه وهو يعلم قواد الجيوش في العالم بأسره حقيقة الحروب، وكيف تدار، ومتى تبدأ وكيف تنتهي، وبالإطلاع على الحقائق التاريخية يتأكد ذلك المعنى ومن هذه الحقائق : أنه صلى الله عليه وسلم لم يسعَ إلى الحروب وإنما فرضت عليه بسبب الاعتداء عليه، أو رغبة الظلم والعدوان عليه وعلى المسلمين، أو محاربة دين الله والآمنين، فقد فُرض على النبي صلى الله عليه وسلم طوال قيادته للدولة الإسلامية اثنين وثمانين تحركًا عسكريًا، لم ينشب القتال في ستين منها، وخمس تحركات لم يقتل غير المسلمين، ومجموع القتلى والشهداء من الفريقين 1004 شخص منهم 252 شهيدا مسلما والباقي من المشركين.

هذه الأرقام ليست من الفظاعة حتى تجبر العالم بأسره أن يخشى من الإسلام ويدخل فيه خوفا من السيف، بل إن عدد قتلى حوادث السيارات في عام واحد في أي مدينة كبيرة يفوق هذا العدد.

وذلك يؤكد أن القتال لم يكن الاختيار الأول عنده صلى الله عليه وسلم في نشوب النزاعات، وأنه كان يبتعد عن القتال قدر استطاعته حتى لا يجد منه بدا؛ بأن يدافع عن نفسه وينصر المظلومين وينشر الإسلام.

وقد أنتجت هذه الحروب نحو ستة آلاف وخمسمائة أسيرًا عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ستة آلاف وثلاثمائة أسير، ولم يأسر ويستمر الأسر إلا على مائتين، فكانت r رحمة للعالمين، وهو سيد ولد آدم ولا فخر.

وبذلك الخلق وتلك الأرقام يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجاهد جهاد النبلاء، كيف نكون أتقياء مراقبين لله حتى في ظل احتدام المعركة، كيف نذكر الله في كل وقت وخاصة في وقت الجهاد.

فأين هذا من المفسدين في الأرض الذين دمروا القرى وأبادوا الشعوب بحجج واهية، ومازال الفساد مستمرا في الأرض نسأل الله أن يعافينا وأوطاننا والمسلمين.

8- تعد منهجا لحل إشكالية التنافر بين الدين والدنيا :

ساد الفكر العلماني كل دول العلماء ولم تنج منه دولة سواء في العالم الأول أو العالم الثاني أو حتى في العالم الثالث، ويمكننا أن نعرف العلمانية، فهي تؤمن بالنسبية المطلقة، وأن الإيمان بالنسبية المطلقة هو الذي يمثل ما أسماه الدكتور عبد الوهاب المسيري (بالعلمانية الشاملة) وحينئذ فلا بأس عند ذلك المعتقد أن ينكر الله، ولا بأس عنده أن ينحيه من التلقي منه سبحانه وتعالى، أو من تهميشه من الحياة، وتحويل مسألة الإيمان بالله إلى مسألة شخصية جانبية تمثل إيمانا خاصًا، ولا تمثل قضية للوجود.

وهذه النسبية المطلقة تؤثر كثيرًا في التفسيرات اللغوية، وتجعل الكون لا حقيقة له في نفسه، بل إنه كما يراه الراصد، وكما يراه كل إنسان على حدة، فليس للأشياء حقيقة ثابتة، وهو ما ينقلنا إلى مذهب السوفسطائية القدماء وإلى مذهب الغموصية الحلولية، والتي يتصور الإنسان فيها الله جل جلاله داخل الكون، وليس مفارقا له.

وهو التيار الذي شاع في أواسط حركة مع بعد الحداثة، وكاد يتحكم في التيار العام للفكر الغربي في العصر الحديث. وعليه يمكن لنا أن نطبق هذا المدخل على تفصيلات تزيده وضوحا في كيفية التعامل بواسطته مع النصوص الشرعية ومع الواقع المعيش.

وبالرجوع إلى السيرة النبوية نرى كيف أقام النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعا مدنيا على أساس ديني، وكيف نجح هذا المجتمع في التقدم وكون حضارة في جميع المجالات الثقافية والعلمية، ونرى الذين يريدون التغبيش على قدرة تطبيق النموذج المعرفي الإسلامي على التعايش في هذا العصر الحديث يتكلمون عن تجارب شابها الانغلاق والقصور والأهواء والجهل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان فوق هذا القصور، وأمرنا الله أن نسير على هديه ونهجه.

وعندما تخلت النظم التي قامت عليها الدول الإسلامية والعربية في العصر الحديث عن النموذج المعرفي الإسلامي وتبنت نموذجا غربيا مشوها ما رأينا في النتائج إلا التبعية الثقافية والتبعية التكنولوجية والتبعية السياسية والتبعية الإعلامية، وتحولنا إلى أتباع لهم وقد كانوا يُتَبعون من قبل، وأصبحنا في ذيل الركب بل ونحاول أن نلحق بالذيل بعدما كنا بفضل ما ميزنا به ربنا من منهج قويم ونموذج معرفي يتعامل مع الدين والدنيا أئمة يهتدون بنا، نسأل الله أن يردنا إلى ديننا ردنا جميلا.

9- تعد منهجا للإدارة واختيار عناصر القيادة والعاملين :

كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكم للدولة الإسلامية الوليدة التي امتدت مساحتها لتشمل جميع شبه الجزيرة العربية وهي مساحة مع اعتبار قلة الاتصالات والمواصلات يصعب السيطرة عليها إلا إذا حسنت الإدارة، وكان اختيار الولاة والقضاة وقواد الجيش على أساس سليم.

لذا فمن ينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يعرف كيف يكون اختيار القادة سيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار قائد الجيوش والوالي والقاضي من المسلمين لا لأنهم أقرب الناس إليه أو أكثر محبة بالنسبة له أو أكثرهم صلاحا، وإن كان لابد من توافر الصلاح فيهم، ولكن كان معيار الكفاءة هو الأرجح فكان خالد بن الوليد يقود الجيش لأنه أكثر المسلمين تأهيلا لقيادة الجيش وخبرة بالقتال، فكان معيار الكفاءة هو الأصل في الاختيار في كل المناصب.

لذا فتعد سيرته العطرة منهجا لإدارة شئون البلاد والمؤسسات واختيار القادة والعاملين بما يحقق النجاح والرخاء والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

10- تعد منهجا للتربية وبناء المجتمعات على فضائل الأخلاق.

للأخلاق في الإسلام مكانة عظيمة، ويدل على تلك المكانة قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق »([3]). ويُبين النبي صلى الله عليه وسلم تلك المكانة في حديث آخر حيث قال صلى الله عليه وسلم: « إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا : يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون »([4])، وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها »([5]).

هذه الأحاديث وغيرها الكثير تدل على المكانة العظيمة للأخلاق، والحديث الأول يوحي بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على «مكارم الأخلاق»، فـ «إنما» أداة حصر وقصر، فهذا الأسلوب البليغ ينبه المسلمين على تلك المكانة العظيمة التي جعلها الله للأخلاق، بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، والعقلاء يجمعون على أن الصدق، والوفاء بالعهد، والجود، والصبر، والشجاعة، وبذل المعروف أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب، والغدر، والجبن، والبخل أخلاق سيئة يذم صاحبها.

فالمسلم الحسن الخلق هو من تجتمع فيه الأخلاق الفاضلة، ويخلو من الأخلاق السيئة وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم على أفضلها في الحديث الذي يخاطب فيه أحد أصحابه وهو عقبة بن عامر حيث قال صلى الله عليه وسلم : « يا عقبه ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك »([6]).

وقد تجمعت علامات حسن الخلق في عدة خصال وهي : الحياء، والصلاح، والصدق، وقلة الكلام، وكثرة العمل، وترك ما لا يعنيه، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصبر، والشكر، والحلم، والعفة. وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة.

ولحسن الخلق عظيم الأثر على المجتمع في الرقي والازدهار، فعندما تنتشر الأخلاق الفاضلة في المجتمع يتقدم ويزدهر، بل إن أصل الحضارة الحقيقية هي حضارة الإنسان وسمو أخلاقه، ويقول في هذا المعنى أمير الشعراء :

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت     ****          فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالأخلاق الكريمة هي إفراز القلب السليم والنفس الزكية، والعقيدة الصحيحة، والفكر الرصين، والاستقرار النفسي والإيماني، فهي مظهر ذلك كله، وسوء الأخلاق يدل على خلل في أحد هذه الأشياء أو جميعها. سلمنا الله والمسلمين من سوء الأخلاق

11- تعد منهجا للتعامل داخل الأسرة ووصل الأرحام :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتيما في كنف جده، ثم في كنف عمه، ثم تزوج وتكونت له أسرة فكان زوجا وأبا وله عائلة وعشيرة، وكان النبي صلى الله عليه مثالا للزوج الحنون الكريم، والأب الرءوف الرحيم، وذكرت كتب السيرة أنه كان يقوم لفاطمة عليها السلام ويقبلها بين عينيها، ويحمل الحسن والحسين وأمامة أحفاده في الصلاة، وكان النبي نموذجا لصلة الرحم حتى مع غير المسلمين منهم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بني فلان ليسوا بأوليائي إنما ولي الله وصالح المؤمنين : «ولكن لهم رحم  أبلها بلالها يعني أصلها بصلتها» [رواه البخاري].

فمن طالع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجدها منهجا لتماسك المجتمع وصلة الأرحام والمعاملة بفضائل الأخلاق بين أفراد الأسرة والعائلة.

12- تعد منهجا لإدارة الأزمات.

مرت الدعوة الإسلامية بأزمات كثير منذ ولادتها في مكة بدأت بمقاومة مشركي قريش له ولدعوته واستهداف المستضعفين من أتباعه بالتعذيب وهؤلاء النفر هم نواة الدولة الإسلامية التي ستسود العالم وتقوده بعد بضع سنوات، ثم واجه بعد ذلك الحروب بعد الهجرة لاستئصال دعوته وإنهاء أمره، وواجه الأزمات الداخلية التي كان يثيرها المنافقون بإثارة الفتن في المجتمع وتفريق المسلمين.

أدار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأزمات بالصبر والحكمة وعالجها وبث روح الإيمان والوحدة بين المسلمين، وأعد العدة الصحيحة وقام بتربية أصحابه وتأهيلهم وأخذ بالأسباب ورتب الأولويات، ونجح في إدارة السياسة الخارجية والداخلية وخرج من كل الأزمات التي واجهته داخليا وخارجيا.

لذا فإن السيرة النبوية تعد منهجا ومرجعا يرشد إلى كيفية إدارة الأزمات الداخلية والخارجية واستخلاص المبادئ العامة للخروج من الأزمات.

ــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) حميد الله ،State", p. 266  of Conduct "Muslim.

([2]) سيد قطب ، «في ظلال القرآن» / ج 10 / ص 123.

([3]) أخرجه أحمد في مسنده، ج2 ص 382، ومالك في الموطأ، ج2 ص904 ولفظ مالك «لأتمم حسن الأخلاق»، والحاكم في المستدرك، ج2 ص 670، أما لفظ «لأتمم مكارم الأخلاق» فرواه البيهقي  في السنن الكبرى، ج10 ص 191، والقضاعي في مسند الشهاب، ج2 ص 192.

([4]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 193، والترمذي في سننه، ج4 ص 370، وابن حبان في صحيحه، ج2 ص 231. 

([5]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، ج6 ص 241. 

([6]) أخرجه أحمد في مسنده، ج3 ص 438، والحاكم في المستدرك، ج4 ص178، والطبراني في الأوسط ج5 ص 364، وفي الكبير، ج17 ص 279، والبيهقي في سننه الكبرى، ج10 ص 235.

معنى السيرة النبوية وأهميتها

تعريف السيرة النبوية :

السيرة لغة : هي السنة أو الطريقة أو الحالة التي يكون الشيء عليها، قال تعالى : ﴿قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى﴾ [طه :21] أي حالتها التي كانت عليها.

أما معناها الاصطلاحي : فيقصد بها ذكر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات -حقيقة أو حكما- والصفات الخُلقية والخَلقية حتى الحركات والسكنات يقظة أو مناما؛ إلا أن مصنفو السير ضموا فترة ما قبل ولادته لارتباطها بالميلاد الشريف ولإلقاء الضوء على حالة الأرض عامة قبل مولده، وحالة العرب خاصة مما يفيد في دراستها وفهمها.

فائدة السيرة النبوية :

تعد السيرة النبوية أهم السبل لفهم مراد الله من وحيه المنطوق، وإذا جاز لنا أن نسمي القرآن المسطور والمحفوظ في الصدور والسنة النبوية المدونة بالوحي النظري، فإن السيرة النبوية هي الوحي العملي التطبيقي، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي على الأرض، وتعد السيرة النبوية منهجا متكاملا للحياة يبين الجانب الأخلاقي والاجتماعي، والجانب السياسي والديني، والجانب العسكري، والجانب الإداري، ولذا فإن السيرة النبوية تطبيق لمفهوم الإسلام الشامل باعتباره منهج حياة.

ومن أهم ثمار دراسة السيرة النبوية فهم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق معرفة تاريخ حياته والظروف التي أحاطت به وعاشها صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صلى الله عليه وسلم مجرد عبقري سمت به عبقريته ضمن عباقرة أو عظماء العالم -كما يقولون- ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه، وأمر المسلمين أن يتبعوه، فقال تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21].

فحياته عليه الصلاة والسلام تقدم إلينا نماذج سامية للإنسان في جميع مراحل حياته، ومهما تقلب في الأماكن والوظائف، ففي سيرته أمثلة للشاب المستقيم في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه، كما تقدم النموذج الرائع للداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى الطاقة في سبيل إبلاغ رسالته، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج المثالي في حسن معاملته، وللأب في حنو عاطفته، مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر والسياسي الصادق المحنك، للمسلم الجامع بين واجب التعبد والتبتل لربه، والمعاشرة الفكاهة اللطيفة مع أهله وأصحابه.

فمن السيرة النبوية نتعلم مناهج الحياة ويستفيد الجميع كل حسب مكانه من السيرة النبوية، ونتعرف على النموذج الأمثل ونعرف دقائق حياته حتى يتسنى لنا إتباعه فهو النموذج الذي أراده الله من الخلق، وهو الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم.