طباعة

من هم أهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية، ونريد معرفة موقف أهل السنة في باب الصفات من المعتزلة والمجسمة، ومن ابن تيمية في تفسيره لصفات الله ؟

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فعبارة «أهل السنة والجماعة» مركب لفظي نحتاج لفهم معناها معرفة معنى كل مفردة على حدا، ومعنى المركب مجتمعا، ولابد من التعرف على هذه المعاني في اللغة والاصطلاح على النحو التالي :

المعنى اللغوي :

أهل السنة والجماعة،  عبارة تتركب من ثلاثة ألفاظ الأول : أهل. والثاني: السنة. والثالث : الجماعة.

وأهل : أَهْل الرجل عَشِيرتُه وذَوُو قُرْباه، والجمع أَهْلون، وآهَالٌ، وأَهَالٍ، وأَهْلات، وأَهَلات. والأَهَالي جمع الجمع. وجاءت الياء التي في أَهالي من الياء التي في الأَهْلين.

وفي الحديث أَهْل القرآن هم أَهْلُ الله وخاصَّته، أَي حَفَظة القرآن العاملون به هم أَولياء الله والمختصون به اختصاصَ أَهْلِ الإِنسان به. وفي حديث أَبي بكر في استخلافه عمر : «أَقول له إِذا لَقِيتُه اسْتعملتُ عليهم خَيْرَ أَهْلِكَ» -يريد خير المهاجرين- وكانوا يسمُّون أَهْلَ مكة أَهل الله تعظيماً لهم كما يقال بيت الله، ويجوز أَن يكون أَراد أَهل بيت الله؛ لأَنهم كانوا سُكَّان بيت الله. وفي حديث أُم سلمة : «ليس بكِ على أَهْلكِ هَوَانٌ» أَراد بالأَهل نَفْسَه عليه السلام. أَي لا يَعْلَق بكِ ولا يُصيبكِ هَوَانٌ.

وأَهْلُ المذهب مَنْ يَدين به وأَهْلُ الإِسلام مَن يَدِين به وأَهْلُ الأَمر وُلاتُه وأَهْلُ البيت سُكَّانه وأَهل الرجل أَخَصُّ الناس به([1]).

قال صاحب مختار الصحاح : «س ن ن : السَّنَنُ الطَّريقة، يُقال : استقامَ فُلان على سَنَن واحد. ويقال : امْضِ على سَنَنِك، وسُنَنِك، أي على وَجْهك. وتَنَحَّ عن سَنَن الطَّريق، وسُنَنه، وسِنَنه، ثلاث لغات. والسُّنَّة السِّيرة»([2]).

قال الأزهري : «والسُّنّة الطريقة المستقيمة المحمودة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنّة، وسننت لكم سُنّة فاتبعوها.

وفي الحديث: «من سنَّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سنَّ سُنّة سيئة " يريد من عمل بها ليُقتدى به فيها»([3]).

قال الجرجاني في التعريفات : «السنة في اللغة: الطريقة، مرضية كانت أو غير مرضية، والعادة، وفي الشريعة: هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض وجوب، فالسُّنة: ما واظب النبي، صلى الله عليه وسلم، عليها، مع الترك أحياناً، فإن كانت المواظبة المذكورة على سبيل العبادة فسنن الهدى، وإن كانت على سبيل العادة فسنن الزوائد، فسنة الهدى ما يكون إقامتها تكميلاً للدين، وهي التي تتعلق بتركها كراهةً أو إساءة، وسنة الزوائد، هي التي أخذها هدى أي إقامتها حسنة ولا يتعلق بتركها كراهة ولا إساءة كسير النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده ولباسه وأكله.

وهي مشترك بين ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، وبين ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم بلا وجوب، وهي نوعان: سنة هدى، ويقال لها: السنة المؤكدة، كالأذان والإقامة، والسنن، والرواتب، والمضمضة، والاستنشاق، على رأي، وحكمه كالواجب، المطالبة في الدنيا، إلا أن تاركه يعاقب وتاركها لا يعاقب.

وسنن الزوائد، كأذان المنفرد، والسواك، والأفعال المعهودة في الصلاة وفي خارجها، وتاركها غير معاقب»([4]).

والجماعة لغة : هي عدد كل شيء وكثرته([5]).

فمعنى المركب اللفظي «أهل السنة والجماعة» في اللغة :  أصحاب الطريقة المحمودة المجتمعين الكثر.

المعنى الشرعي :

وسوف نسلك في بيان معنى «أهل السنة والجماعة» في الشرع أو الاصطلاح نفس المسلك الذي اتبعناه في اللغة، فسنذكر المعني لكل مفردة في الشرع، ثم نتكلم عن المعنى الإجمالي.

أهل : ليس لها معنى في الاصطلاح يختلف عن المعنى اللغوي إلا باعتبار الإضافة، فأهل البيت لها مدلول شرعي خاص ليس هذا موضع بيانه، وكذلك أهل الكتاب وغير ذلك من الإضافات التي وردت في الشرع الشريف.

أما السنة فهي لفظة استخدمها علماء الشريعة الإسلامية بمدلولات مختلفة؛ وقد اختلف مدلولها لاختلاف المدخل الذي يتناولونها من خلاله، فاهتم علماء الحديث، وعلماء الفقه، وعلماء أصول الفقه، وعلماء العقيدة بتعريف السنة.

فالسنة تعني عند علماء الحديث : كل قول أو فعل أو إقرار، حقيقة أو حكمًا، وسيرة وصفة خَلقية وخُلقية حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام، قبل البعثة وبعدها. وهي بهذا المعنى تشمل الواجب والمندوب، بل قد تشمل كل الدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بهيئته وأقواله وأفعاله كان ينقل إلينا الدين.

وعلماء أصول الفقه يعدون السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، ويقصدون بها ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.

وعلماء الفقه يطلقون السنة ويريدون بها المندوب، أي غير الفريضة من الأعمال التي طلبها الشارع، إلا أنهم يفرقون بين المندوب والسنة، بأن المندوب يشمل ما ندب إليه الشارع سواء ثبت في السنة أو من استقراء أصول الشريعة، أما السنة فتكون المندوب الثابت في هديه صلى الله عليه وسلم.

وعلماء العقيدة يطلقون السنة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد, وما كان عليه من العلم والعمل والهدى. بل يتسع مدلولها إلى ما كان عليه الخلفاء الراشدون. قال ابن رجب الحنبلي : «السنة : هي الطريقة المسلوكة؛ فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، وروي معنى ذلك عن الحسن البصري والأوزاعي والفضيل بن عياض، ويخص كثير من العلماء المتأخرين اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد»([6]).

أما الجماعة : فقد ورد في القرآن الكريم الحث على الاجتماع وعدم الفرقة، قال تعالى : ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران :103]. وقال سبحانه : ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى :13]. قال تعالى : ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران :105].

قال ابن عجيبة رضي الله عنه : «الإشارة : الافتراق المذموم ، إنما هو في الأصول؛ كالتوحيد وسائر العقائد، فقد افترقت المعتزلة وأهل السنة في مسائل منه، فخرج من المعتزلة اثنان وسبعون فرقة، وأهل السنة هي الفرقة الناجية، وأما الاختلاف في الفروع فلا بأس به ، بل هو رحمة لقوله عليه الصلاة والسلام : « خلاف أمتي رحمة »، كاختلاف القراء في الروايات، واختلاف الصوفية في كيفية التربية ، فكل ذلك رحمة وتوسعه على الأمة المحمدية، إذ كل من أخذ بمذهب منها فهو سالم ، ما لم يتبع الرخص»([7]).

وورد في السنة النبوية الحث على الوحدة والجماعة، والنهي عن مفارقتها. قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»([8]).

وعن ابن عمر أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال : «استوصوا بأصحابي خيرا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليبتدئ بالشهادة قبل أن يسألها وباليمين قبل أن يسألها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»([9]).

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فقتلة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يقاتل لعصبة أو يغضب لعصبة فقتله قتلة جاهلية»([10]).

 وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من نزع يدا من طاعة لم تكن له حجة يوم القيامة ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة الجاهلية»([11]).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن بني إسرائيل اختلفوا على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وإنكم ستختلفون مثلهم أو أكثر، ليس منها صواب إلا واحدة ، قيل : يا رسول الله ! وما هذه الواحدة ؟ قال : الجماعة ، وآخرها في النار»([12]).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة»([13]).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة . وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة . كلها في النار إلا واحدة . وهي الجماعة»([14]).

هذه النصوص الشرعية من القرآن والسنة وغيرها توضح أهمية الجماعة، ووجوب لزومها، وأنها هي الحق الذي ينبغي أن يكون المؤمن عليه.

من هم الجماعة ؟

الجماعة هم من اجتمعوا على الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله، إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة » فقيل له : ما الواحدة؟ قال : « ما أنا عليه اليوم وأصحابي»([15]).

فكان الصحابة رضي الله عنهم  أول جماعة تجمعت في الإسلام، وكان تجمعها على النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم،  وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم تجمعهم هذا وما اجتمعوا عليه، ولذا فلا شرعية لجماعة المسلمين إلا بمتابعتها للجماعة الأولى وهي جماعة الصحابة.

كيف نعرف الجماعة ؟ (علامتهم)

بعد انقضاء العهد النبوي، وفي نهاية عهد الخلفاء الراشدين بدأت الانقسامات المذهبية بين الجماعة المسلمة، وربما لدواعي سياسية ظهرت فرقة الخوارج، ومن بعدها الشيعة، وظهرت النواصب وهذه الفرق كلها بدأت في الظهور والتكوين بسبب ما حدث من خلافات في نهاية عهد الإمام علي رضي الله عنه.

ثم بعد ذلك ظهرت المعتزلة، ومال بعض حكام بني العباس لما ذهبت إليه المعتزلة، وثبت الإمام أحمد ينافح على ما كان عليه الأمر الأول، ولذا لقب بإمام أهل السنة والجماعة لجهاده وصبره في تلك المحنة التي تدخل فيها السلطان ولم تقتصر على المناظرات العلمية.

ثم ظهرت فرق الكرامية ونسبت نفسها للإمام أحمد رضي الله عنه، وبدأت فرق التجسيم في الظهور إعمالا لظواهر بعض النصوص الواردة في القرآن الكريم.

ولا شك أن كل فرقة من هذه الفرق لم تصرح بأنها تخالف مع عليه النبي صلى الله عليه والصحابة من الاعتقاد، بل على العكس تماما صرحت أن ما تعتقده هو العقيدة الصحيحة التي كان يعتقدها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فحدث الإشكال وهو من هم الجماعة ؟ إذا قلنا أنهم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالكل يدعي أن مذهبه يفسر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.

كانت العلامة الواضحة التي تعرف بها الجماعة التي يجب لزومها هي التجمع حول إمام المسلمين الذي يحكم الأقطار الإسلامية، فلم يكن صعبا في الماضي التعرف على جماعة المسلمين الواجب لزومها.

ولكن بسقوط الخلافة الإسلامية ولم يعد للمسلمين إمام يجمع الجماعة المسلمة كلها في كل أقطارها حتى تجتمع عليه، وما استحدث في نظم الدول الحديثة، ومفهوم الدولة القومية أو الوطنية أبعدنا عن هذه العلامة التي كانت تيسر علينا معرفة من هم جماعة المسلمين.

ولم يبق لنا من العلامات التي ترشدنا للجماعة المسلمة التي يجب لزومها إلا مفهوم الكثرة من المسلمين، والسواد الأعظم الذي اجتمع عليه أغلب المسلمين سلفا وخلفا، فهذه هي جماعة المسلمين التي يجب لزومها.

وبيسير من التتبع لعلماء الأمة بداية من ظهور الفرق والفتن والأقوال، يمكن أن نعلم أين كان السواد الأعظم منهم وكيف فهموا عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وفسروها.

وقد يقول قائل : ولماذا تعتمدون على الكثرة من المسلمين في التعرف على أهل السنة والجماعة، فنقول : إننا لم نذهب للكثرة من البداية، وقلنا أن أهل السنة والجماعة هم من تجمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم ادعت كل فرقة أنها على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقلنا : نلزم جماعة المسلمين المجتمعين على إمامهم. فعلمنا أن إمام المسلمين زال بزوال الخلافة وتغير الحال. فصرنا إلى الكثرة من المسلمين لأنها موافقة لمفهوم الجماعة لغة.

ولأن الأحاديث النبوية صرحت بهذا المفهوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا» وقال : «يد الله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار»([16]).

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة . فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم»([17]).

وفي السنن الكبرى للبيهقي عندما رأى أبو غالب أبا أمامة يقول على الخوارج كلاب جهنم، قال :  «قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم. قلت : من قبلك تقول، أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : إني إذا لجرئ، بل سمعته، لا مرة، ولا مرتين، حتى عد سبعا، ثم قال : إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وان هذه الأمة تزيد عليهم فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم»([18]).

الخلاصة في المقصود من أهل السنة والجماعة :

تبين مما مر من التعريفات اللغوية والاصطلاحية أن أهل السنة والجماعة لغة : تعني أهل الطريقة المحمود المجتمعين الكثر.

ومعنى أهل السنة والجماعة اصطلاحا : هم الذين على طريقة النبي صلى الله عليه وأصحابه في الاعتقاد المجتمعين عليها والمتكاثرين.

وعلامتهم تكون بتجمعهم على إمام واحد، فإذا غاب الإمام فتكون بالسواد الأعظم من المسلمين الذين حث النبي صلى الله عليه وسلم على لزومهم.

يقول ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب : «اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك. وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف :

الأولى : أهل الحديث، ومعتقد الأدلة السمعية- الكتاب والسنة والإجماع.

الثانية : أهل النظر العقلي وهم الأشعرية والحنفية (الماتريدية). وشيخ الأشعرية هو أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي.

وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسائل.

الثالثة : أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية. ومباديهم مبادي أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية»([19]).

ويقول الإمام محمد أحمد السفاريني الحنبلي : «أهل السنة والجماعة ثلاث فرق :

الأثرية : وإمامهم أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

والأشعرية : وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى.

والماتريدية : وإمامهم أبو منصور الماتريدي»([20]).

وأغفل السفاريني الصوفية لا لأنه لم يعدهم من أهل السنة والجماعة، وإنما لأنه لم يعدهم مذهبا عقائديا، بل هو مذهب سلوكي فلم يستقل الصوفية بمذهب في إثبات قضايا التوحيد، بل كانوا يتبعون في العقيدة أهل السنة والجماعة إما بموقف أهل الحديث، أو موقف الأشاعرة والماتريدية.

أما موقف أهل الحديث أو الأثر والذي كان يؤثر عدم الخوض والردود فلم يستمر على ذلك، فقد دخلوا ميدان الرد عندما قوت شوكة المعتزلة، فاضطروا إلى مجابهتهم، كما اضطر الإمام أحمد بن حنبل أن يقف مدافعا عن العقيدة الصحيحة فقال : «كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه لم نجد بدا من مخالفتهم والرد عليهم»([21]).

المنهج القويم في الإيمان بالله سبحانه وتعالى وصفاته، هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، إلا أنهم لم يفصلوه لعدم الحاجة للتفصيل والرد.

وفيما يلي نعرض لموقف أهل السنة من كل من :

1- المعتزلة والمجسمة.          2- ابن تيمية ومن وتابعه

أولا : موقف أهل السنة والجماعة من المعتزلة والمجسمة  :

وقد اضطر الخلف من أهل السنة لتوضيح أمور التوحيد على هذا النحو لدرء شبه الفرق التي أخطأت في التعبير عن التوحيد، فالمعتزلة توهموا أن إثبات الصفات يقتضي تعدد القدماء فنفوا الصفات وزعموا أن الذات هي عين الصفات. والكرامية أو الحشوية توهموا إثبات حلول الحوادث في الذات الإلهية، وأثبتوا بعض الألفاظ التي أضيفت لله في النصوص الشرعية على الحقيقة اللغوية التي يلزم من الجسمية، بل صرحوا بالجسمية.

ووقف أهل الحق [أهل السنة والجماعة] وسط بين المعتزلة الذين نفوا صفات، وبين الحشوية الذين صرحوا بالتجسيم والتشبيه، فكان منهجهم لتوضيح معتقد أهل السنة والجماعة قبل طروء هذه الشبه، وما كان الأقدمين بحاجة لهذا البيان لعدم ورود تلك الشبه.

قال أبو جعفر الطحاوي –رحمه الله تعالى- : «ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل، ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس بمعناه أحد من البرية، تعالى الله عن الحدود والغايات والأركان والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات»([22]).

وللإمام أبي حامد الغزالي كلام نفيس في بيان المنهج الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في تحرير مسائل العقيدة؛ ولذا ننقله رغم طوله حيث يقول : «واطلعوا على طريق التلفيق بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول؛ وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول. وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وإن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط.

بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم؛ فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم انه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر، وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر ؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر ؟ أو لا يعلم أن العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر ؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والإذاء.

ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فاخلق بأن يكون طالب الاهتداء. المستغني إذا استغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور. وسيتضح لك أيها المشوق إلى الاطلاع على قواعد عقائد أهل السنة، المقترح تحقيقها بقواطع الأدلة، أنه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هذا الفريق. فاشكر الله تعالى على اقتفائك لآثارهم وانخراطك في سلك نظامهم وعيارهم واختلاطك بفرقتهم؛ فعساك أن تحشر يوم القيامة في زمرتهم»([23]).

قال الإمام الجويني رحمه الله : «كل صفة في المخلوقات دل ثبوتها على مخصص يؤثرها ويريدها ولا يعقل ثبوتها دون ذلك فهي مستحيلة على الإله، فإنها لو ثبتت له لدلت على افتقاره إلى مخصص دلالتها في حق الحادث المخلوق»([24]).

ويقول : «من انتهض لطلب مدبره، فإن اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه، وإن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، وإن قطع بموجود، واعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد»([25]).

ثانيا : أهل السنة والجماعة وموقفهم من تفسير ابن تيمية للصفات :

علمنا أن توضيح أهل السنة لعقيدة السلف في «باب الإيمان بالله وصفاته» أثمر التفريق بين المعطلة الذين نفوا الصفات كالمعتزلة، والمجسمة الذين أغرقوا في إثباتها على نحو لا يليق بالله سبحانه وتعالى حيث شبهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه.

وبما أن المعتزلة لا وجود لهم في هذه الأيام كفرقة يترتب عليها الفتن والفرقة بين المسلمين، وكذلك لا وجود لمذهب التجسيم الصريح من فرقة ظاهرة في أيامنا هذه.

وإنما الموجود بيننا في هذه الأيام طائفة وافقت ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم –رحمهما الله- وغيرهم في تفسيرهم لمذهب السلف، ولم يكن لأتباع مذهب ابن تيمية في زمنه فرقة من الناس يترتب عليها الفتنة والفرقة بين المسلمين، وإنما ظهرت هذه الفرقة في العصر الحديث عقب الحركة التي قام بها الشيخ محمد عبد الوهاب الذي عمل على إحياء مذهب ابن تيمية  مرة أخرى وتبناه في الاعتقاد، بل وزعم أنه هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو مذهب السلف، ويطلق أتباع هذا المذهب على أنفسهم اسم «السلفية» أو «السلفيون».

لذا فنبين عقيدة أهل السنة والجماعة في محل النزاع، ثم نبين خطأ ابن تيمية ومن وافقه في بيان مذهب السلف. محل الخلاف بين أهل السنة والجماعة وما حاول ابن تيمية نسبته لمذهب السلف يكمن في «الإضافات إلى الله»، أو ما يسمى بـ «الصفات الخبرية».

ونشأ هذا الخلاف بسبب أن بعض الألفاظ الواردة في القرآن، والتي أضافها الله له في كتابه العزيز زعم ابن تيمية رحمه الله أنها ثابتة في حق الله على الحقيقة اللغوية، هذه الحقائق اللغوية التي يلزم منها قطعا تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بخلقه، وهو ما يتناقض مع ما تقرر من مخالفته سبحانه للحوادث.

وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن هذه الألفاظ لا نتعرض لمعناها لأنها من قبيل المتشابه، فهم يرون أن هذه الإضافات أو الصفات الخبرية لم تثبت لله من جهة العقل، وإنما ثبتت بالخبر، فطريقهم فيها هو أن هذه الألفاظ المضافة لله، أو الصفات المخبر بها، يُسلم بها وتمر كما جاءت، فلم يتكلم السلف بإثباتها على الحقيقة اللغوية، ولم ينكرها السلف الصالح؛ إذ ظاهر الألفاظ يدل على حقائق معانيها معروفة في اللغة، وهذه الحقائق اللغوية تتنافى مع تنزيه الباري سبحانه وتعالى. وعلى هذا درج المتقدمون من أهل السنة والجماعة.

وقد أجاد ابن قدامه في إيضاح ذلك حيث قال : «وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه، والتمثيل، وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظًا، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعًا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى ‏‏: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران : 7]، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله : ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ﴾ [آل عمران : 7].

فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم ،ثم حجبهم عما أملوه وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾‏. ‏قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)، و(إن الله يرى في القيامة). وما أشبه هذه الأحاديث : نؤمن بها ونصدق بها لا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئًا منه،ا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى :11].

ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ولا نتعدى القرآن والحديث ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم  وتثبيت القرآن»‏. قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه : آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله ‏.‏

وعلى هذا درج السلف .وأئمة الخلف كلهم رضي الله عنهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله‏»([26]).

كان هذا ما عليه المتقدمين من أهل السنة، وقد اتسم مذهب المتأخرين من أهل السنة بالتأويل، حيث إنهم انتهجوا التأويل حين رأوا أن إثبات اللفظ ساء فهمه وأصبح هو الإثبات للحقائق اللغوية والتزم لوازمها على طريقة المشبهة، أفضى عند بعضهم إلى القول بالجسمية ولوازمها، فصرح بهذا ابن كرام الذي نسبه نفسه إلى الإمام أحمد، وما تقرر في كتاب التوحيد لابن خزيمة، وما ذكره أبو عثمان الدارمي وغيره من تجسيم صريح. إلا أن ابن تيمية لم يصرح بالتجسيم كهؤلاء فابن تيمية زعم إثبات هذه الألفاظ على الحقائق اللغوية، ولكنه لم يلتزم لوازم ذلك من إثبات الجسمية صراحة.

 واتفق المتقدمون من أهل السنة والمتأخرون على الإمرار وعدم التعرض للفظة بالنفي، وكذلك عدم التصريح بإثباتها على الحقيقة اللغوية التي من شأنها تشبيه الرب سبحانه وتعالى بخلقه، ولكن زاد المتأخرون بأن هذه الألفاظ لا يجوز أن يفهم منها إلا ما يليق بالله، فكأنهم يقولون للخصم : إذا صممت أن تتكلم عن معنى لهذه الصفات؛ فقل أي معنى إلا المعنى الذي ينقص من قدر الرب ويشبهه بخلقه، فقالوا : أيها الخصم قل  : أن ورد -مثلا- لفظ «عين» منسوبا إلى الله في السياق القرآني : ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى﴾ [طه :39]، يعني عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لسيدنا موسى عليه السلام، ولكن إياك أن تقول : إنها عين على الحقيقة اللغوية مما يقتضي كونها جارحة ما يقتضي الجسمية، ولذا يصلح أن نقول إن مذهب السلف مذهب اعتقاد، ومذهب الخلف مذهب تنظير.

ويقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»([27]). أنه تنزل الرحمات، واستجابة الدعوات، ولا يمكن أن يكون نزول بالحقيقة اللغوية إذ يعني النزول على الحقيقة اللغوية الانتقال والتحرك، وهذا لا يكون إلا في الأجسام، فإن قالوا : لا نقصد معنى التحرك والانتقال، قلنا : إذن أنت لا تثبت الحقيقة اللغوية وتقول أن النزول في حق الله معنى مجازي وهو ما يفعله أهل السنة في مناقشة هذه الألفاظ. وإذا قال : بل أثبته بما يقتضي التحرك والانتقال إذا كان هذا هو الحقيقة اللغوية، نقول : إذن أنت تنعت الله بصفات الأجسام، لذا وجب التزام مذهب أهل السنة والجماعة من الإقرار والإمرار ونفي المعنى على الحقيقة اللغوية، وإثبات المعنى المستفاد من سياق النص.

وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64] يفهم منه على سبيل الإجمال معنى الكرم والجود المطلق والعطاء الذي لا ينقطع، اللائق بصفة الرَّب تعالى، أما لفظ اليدين المضاف لله تعالى في الآية فإن المعنى الظاهر المتبادر من إطلاقه -وهو الحقيقة اللغوية التي وضع اللفظ ليَدلَّ عليها بين المخلوقين وهي الجارحة، غير مراد قطعا لما فيه من مشابهة المخلوقات.

فهذا مذهب أهل السنة في التعامل مع تلك الألفاظ التي إذا ما أُثبتت على الحقيقة اللغوية تلزم التشبيه قطعًا.

فهناك أمران؛ الأول : أن الوارد عن السلف ليس فيه أي ذكر لإثبات الحقيقة اللغوية لهذه الألفاظ لله سبحانه وتعالى، وإنما من صرح بذلك هو ابن تيمية ومن وافقه ممن سبقه كأبي يعلى، وابن منده، ومن وتبعه كابن القيم وغيره وهم على كل الأحوال عدد قليل إذا نظرنا إلى السواد الأعظم من علماء الأمة، لا ينبغي أن يغتر بهم طالب للعلم.

الأمر الثاني  لما تكلمت الفرق بمعاني يجب دحضها للرجوع إلى معتقد أهل السنة والجماعة، أول الخلف من أهل السنة والجماعة التأويل الحسن الذي يتفق مع السياق، وهذا ما قرره أكابر علماء أهل السنة والجماعة.

قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى: «فإن دعت الحاجة إلى التأويل لرد مبتدع ونحوه تأوّلوا حينئذ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا»([28]).

وقال النووي رحمه الله أثنـاء شرحـه لحديـث مـن الأحاديث التي وردت فيه هذه الألفاظ الموهمة : «هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان مشهوران للعلماء ... أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين، أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق، والثاني: مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف، وهو محكي عن مالك والأوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها».([29])

قال الإمام العز بن عبد السلام: وليس الكلام في هذا -يعني التأويل- بدعة قبيحة، وإنما الكلام فيه بدعة حسنة واجبة لَمَّا ظهرت الشبهة، وإنما سكت السلف عن الكلام فيه إذ لم يكن في عصرهم مَنْ يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما لا يجوز حمله عليه، ولو ظهرت في عصرهم شبهة لكذبوهم وأنكروا عليهم غاية الإنكار، فقد رد الصحابة والسلف على القدرية لما أظهروا بدعتهم، ولم يكونوا قبل ظهورهم يتكلمون في ذلك([30]).

قال الحافظ العراقي في معرض الكلام عن «الوجه» : «تكرر ذكر وجه الله تعالى في الكتاب والسنة وللناس في ذلك -كغيره من الإضافات أو الصافات الخبرية- مذهبان مشهوران : (أحدهما) : إمرارها كما جاءت من غير كيف فنؤمن بها ونكل علمها إلى عالمها مع الجزم بأن الله ليس كمثله شيء وأن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين (وثانيهما) : تأويلها على ما يليق بذاته الكريمة فالمراد بالوجه الموجود»([31]). انظر إلى تقرير الحافظ العراقي وهو يقصد بالناس «أهل الحق».

فيعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة في الألفاظ الواردة في الشرع الشريف هي الإقرار بثبوتها وإمرارها كما جاءت دون التعرض لها بالنفي أو المعنى، وأن ما تأوله متأخرو أهل السنة والجماعة كان للرد على من وقع في النفي والتشبيه.

أما مذهب ابن تيمية ومن وافقه فهو يرى إثبات هذه الألفاظ الواردة في الشرع مع إثبات المعنى اللغوي الحقيقي الذي يعرفه العرب لا المعنى المجازي، وهو سبق بيانه وأن ذلك يلزم منه التجسيم قطعا، وإن لم يصرح به هو ومن وافقه كما أنهم أصروا على عدم نفي الجسمية.

ومن الكلام المحير الذي قاله ابن تيمية في الجسمية قوله : « ومعلوم أن كون الباري ليس جسما ليس هو مما تعرفه الفطرة بالبديهة، ولا بمقدمات قريبة من الفطرة، ولا بمقدمات بينة في الفطرة، بل مقدمات فيها خفاء وطول، وليست مقدمات بينة ولا متفقا على قبولها بين العقلاء، بل كل طائفة من العقلاء، تبين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك ما هو فاسد معلوم الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد وطوائف كثيرون من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله ويقولون بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا المطلوب، وإن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسما، وما لا يكون جسما يكون معدوما، ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول»([32]).

وقوله بعد ذلك بقليل : «بل هذا القول الذي اتفق عليه العقلاء من أهل الإثبات والنفي: اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا متحيزا، أو قائما بمتحيز وهو الجسم وصفاته. ثم المثبتة قالوا : وهذا حق معلوم أيضا بالأدلة العقلية والشرعية، بل بالضرورة. وقالت النفاة : أنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل.

فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة الذين ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض وتسميهم المجسمة، فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات»([33]).

هذه بعض عبارات ابن تيمية عندما أراد أن يشرح مذهب السلف، فخالف السواد الأعظم من أئمة أهل السنة وعلمائها، إلا إنه وجب التنبيه أن ما وقع فيه ابن تيمية ومن وافقه في إثبات هذه الألفاظ على الحقيقة اللغوية والتي يلزم منها الجسمية، لا يخرجهم من ربقة الإسلام، فابن تيمية ومن وافقه لم يصرحوا بالجسمية وإن كانوا لم يصرحوا بنفيها، بل نصوا على عدم جواز نفيها، إلا أنه كما تقرر أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلا يصح أن ننسب لابن تيمية ومن وافقه أنهم مجسمة، وغاية الأمر أن يقال يلزم من مذهبكم التجسيم.

فابن تيمية -رحمه الله- ومن وافقه ممن تسموا بالسلفية جانبهم الصواب في التعبير عن مذهب السلف، وهذا الخطأ لا يخرجهم من الإسلام، كما أنه أيضا لا يصح أن يكون هو التعبير عن مذهب السلف الصالح وعقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا ما نعتقده وأردنا بيانه في هذا الباب.

والصواب الثبات على ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وقرروه في كتبهم المحررة، وهم السواد الأعظم من المسلمين وعلمائهم في كل فنون الشريعة الذين حفظ الله بهم دينه، وأقامه للناس. وبينا أن السواد الأعظم من علامات معرفة أهل السنة والجماعة.

إلا أن مخالفة ابن تيمية ومن وافقه في هذا لا تكفرهم، بل لا تخرجهم من أهل السنة والجماعة في باقي أبواب الاعتقاد، فهؤلاء من أهل السنة والجماعة، إلا أنهم في هذا الباب خالفوا طريقة أهل السنة والجماعة ووقعوا في الخطأ في تفسير مذهب السلف، وعلينا أن نتجاوز ذلك كله، وألا تثار هذه التفاصيل والأقوال إلا بين المتخصصين من علماء الكلام والمشتغلين بالبحث الشرعي، فلا ينبغي إثارتها بين العامة والجهلة حتى لا تكون ذريعة للتشرذم والفرقة بين المسلمين والتبديع والتفسيق وهو ما نشاهده في أيامنا هذه.

وبهذا نكون قد أوضحنا مفهوم أهل السنة والجماعة، وموقفهم من كل من المعتزلة، والمجسمة، ومن ابن تيمية ومن وافقه في تفسيره لمذهب أهل السنة في إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلى وأعلم.

________________________________________________

([1]) راجع لسان العرب 11/28.

([2]) مختار الصحاح 1/153.

([3]) تهذيب اللغة، للأزهري 4/234.

([4]) التعريفات للجرجاني 1/40.

([5]) لسان العرب 8/53، وتاج العروس 1/5167.

([6]) جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي 1/263.

([7]) البحر المديد، لابن عجيبة 2/225.

([8]) أخرجه البخاري في صحيحه 6/2612.

([9]) أخرجه ابن حبان في صحيحه 16/239.

([10]) أخرجه ابن حبان في صحيحه 10/441.

([11]) أخرجه ابن حبان في صحيحه 10/439.

([12]) مصنف عبد الرزاق 10/156.

([13]) رواه أبو داود في سننه 2/608.

([14]) رواه ابن ماجه في سننه 2/1322.

([15]) أخرجه الحاكم في مستدركه 1/430.

([16]) أخرجه الحاكم في مستدركه، في كتاب العلم في ثلاثة مواضع 1/199، 201، 201.

([17]) رواه ابن ماجه في سننه 2/1303.

([18]) السنن الكبرى للبيهقي 8/188.

([19]) إشارات المرام من عبارات الإمام، للشيخ يوسف عبد الرزاق في تعليقه ص 298.

([20]) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، شرح الدرة المضية على عقائد الفرقة الناجية ص 73.

([21]) عقائد السلف لابن قتيبة ص 467.

([22]) العقيدة الطحاوية، للإمام أبو جعفر الطحاوي ص 26.

([23]) الاقتصاد في الاعتقاد، للإمام أبي حامد الغزالي 1/1.

([24]) العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية ص 21.

([25]) العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية ص 23.

([26]) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لابن قدامة، ص 5 : 8.

([27])  أخرجه البخاري في صحيحه 1/384، و أخرجه مسلم في صحيحه 1/521.

([28]) المجموع للنووي 1/50

([29]) شرح النووي على صحيح مسلم 6/36

([30]) أهل السنة الأشاعرة ص 165، 166

([31]) طرح التثريب، للعراقي، ج3 ص 107.

([32]) التأسيس [المسمى بيان بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] 1/93.

([33]) التأسيس [المسمى بيان بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] 1/97.

عدد الزيارات 26525 مرة
قيم الموضوع
(4 أصوات)