من القواعد المهمة التي تؤسس بناء الحضارة الإسلامية أن الأحكام الشرعية لدين الإسلام تؤثر في الروح وفي القلب، فليس هناك انفصال بين دائرة الاعتقاد ودائرة الامتثال، فالاعتقاد هو الأساس، وهو ما وقر في القلب، لكن لابد أن يصدقه العمل وهو الامتثال، وبناء الإنسان الذي يعكس فعله ما وقر في قلبه هو أولى خطوات الإصلاح الحضاري، والمثال العملي لهذا التوافق يظهر جلياً في امتثال المؤمن لما حرمه الله تعالى، فهذا الامتثال الذي قد يظنه البعض حداً للحرية الشخصية هو في واقعه تربية لنفسية المسلم ليكون النموذج الذي استخلفه الله عز وجل في الأرض ليعبد ربه ويعمر كونه ويزكي نفسه.
فقد حرم الله تعالى الدم، فقال سبحانه: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:١٧٣]، وقال عز وجل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة:٣]، وقال: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:١١٥].
وحرم كذلك أكل لحم البشر حقيقةً ومجازًا في قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:١٢]، فحرّم علينا الغيبة والنميمة.
وحرَّم أيضاً أكل الميتة، وأكل ما لم يذكر عليه اسم الله، وأن ذلك كله يؤكد توحيد الإله وتعاليه عن البشر، قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإِخلاص:١-٤]، وقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:١١]، وقال تعالى: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الأنعام:١٠٣].
وحرم الله علينا أيضا في أحكامه الشرعية أذية الحيوان، فقال صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (رواه البخاري ومسلم)، وعلمنا أن الكون من حولنا ليس محض جماد فقال تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:٤٤]. وقال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد:١٥].
والسؤال الذي يثير الفكر ويدعو إلى التأمل هو: ما الرابطة بين الاعتقاد والامتثال لتحريم الدم والميتة وغيرها من المحرمات وبين عمارة الدنيا وبناء الحضارة، وبين استباحة الدم والميتة وبين خراب الدنيا وضياع الحضارة؟
فتحريم الدم المسفوح، على سبيل المثال، ليس من أجل أنه يسبب ضررًا من ناحية الطب بقدر ما أنه يسبب ضررًا من ناحية الأخلاق، والتجرؤ على شكل الدم، وعلى رفع الحاجز النفسي بين الإنسان وسفك دماء البشر، ويحاول بعضهم -وقد يكون صادقا، وقد يكون غير دقيق- أن يربط بين التحريم والضرر الجسدي، وأن يبحث في حكمة التحريم بالمسائل الطبية، إلا أن التحريم لا يقتصر على هذا الجانب، بل إنه يبني نفسًا، ويُعَمِّق شعورًا لدى الإنسان يساعده في نشاطه الاجتماعي، وفي عمارته للدنيا.
ومن ثم فالأحكام الشرعية هي نظام إلهي يُنشئ ويؤسس نفسية حضارية للمسلم يجعلها هي أبجديته التي يتعامل بها في حياته في جميع مناحيها السياسية، والاقتصادية، والحضارية، والفكرية، والاجتماعية، وغيرها، وظهر هذا في تاريخ المسلمين في كل بلادهم شرقا وغربا، ولذلك لم نر المسلمين عبر تاريخهم يبيدون الشعوب، أو يستعمرون الناس استعمار هيمنة واستغلال، أو يدخلون البلاد لرفع الطغيان وصد العدوان فيحوِّلونها إلى حمام دم يهون معه الطغيان، ويُستصغَر بإزائه العدوان.
لذلك - وبناء على هذه النفسية الحضارية - لا يقبل المسلم حلولاً لأزماته الكمية بتحليل الحرام، فقد يقترح بعضهم إذا ما وقع مجتمع ما في أزمة لحوم، أن يربي ذلك المجتمع الخنزير وأن يأكله، فالخنزير كثير التناسل، ونفقته قليلة، ويمكن أن يحل المشكلة بطريقة كمية، ولكن (سلطان الكم) ليس هو كل شيء في هذه الحياة، ولقد كتب في هذا المعنى رينيه جينو (عبد الواحد يحيى، رحمه الله تعالى) في كتابه الماتع (سلطان الكم وعلامات الزمان) وهو في نسخته الإنجليزية (The Reign of Quantity & the Signs of the Times) وفيه يبين أن من سمات عصرنا سيطرة الكم على معيار التقويم، فأصبح الكم هو المسيطر على السوق وعلى الاستهلاك، ونشأ من ذلك مفهوم العقد في العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية. وحضارة الإسلام لا تفهم هذا ولا تقبل هذا المعيار الكمي، لكنها تُبنى وتؤسس على الاعتقاد والامتثال لأمر الله تعالى، فالحكم له وحده، والأمر منه وإليه وحده.