بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله, وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد,,,,,
فإن: ( منصب الإفتاء ) منصب شريف، تولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تولى من مناصب كثيرة، كالقضاء، والحكم الأعلى، بالإضافة إلى الدعوة، والإمامة وغيرها، مما ذكره الإمام القرافي في كتابه الماتع ( الفروق ), وفَرَقَ في كتابه، في فصلٍ جعله لذلك، بين النبي مفتياً, والنبي قاضياً, والنبي داعية, والنبي رئيساً للدولة ، والنبي قائداً للجيوش, والنبي إماماً للصلاة, فقد اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم كل هذه المقامات.
ثم بعد ذلك ورثه الصحابة من بعده، كلٌ على قدر طاقته, فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل الأتم، الذي نفعنا الله به في الدنيا والآخرة، والصحابة ورثته، وحملة علومه وشريعته، فقام من بعده أئمة ومُفْتُون.
واشتهر في الفتوى من الصحابة أناس، منهم من إذا ما جُمعت فتواه كانت في مجلد, ومنهم من إذا ما جمعت فتواه كانت في جزء صغير, ومنهم من له الفتوى والفتويان فقط.
وعدد الذين تصدروا للفتوى من الصحابة الكرام كانوا نحو مائة وخمسين على قول، مع أن الذين رأوه صلى الله عليه وسلم بأعينهم، وشاهدوه، وغزوا معه الغزوة والغزوتين، وعاشوا معه السنة والسنتين، قد وصلوا إلى حوالي مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا, وعلى ذلك، فهذا المقام الرفيع الذي كان يتولاه الصحابة الكرام لا يزيد عدد من تولاه منهم عن واحد بالمائة، مع كل واحد منهم صحابي جليل، وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )([1]) يعنى أن الصحابي لو أنفق مثلا مقدار كيلوين أرزًا أو قمحًا، وأنت أنفقت في مقابله وزن أُحُد ذهباً، فإنك لا تبلغ نصف ما أنفقه الواحد منهم رضي الله عنهم، فلا تبلغ مقدار ذلك الكيلو والربع الذي أنفقه الصحابي، ومع هذه الجلالة فقد كان منصب الإفتاء فيهم أيضا منصبا محددا، لا يقوم به الجميع، بل الواحد بعد الواحد ممن توفرت فيهم ملكات وعلوم زائدة على مجرد الصحبة النبوية الكريمة.
ظل هذا المنصب موجوداً في الأمة, وألف فيه كثيرٌ من العلماء، في آداب المفتي والمستفتي, وكيفية الفتوى منهم: الإمام الحافظ ابن الصلاح, والإمام النووي, وابن حمدان, وابن القيم, وابن تيمية, وكثير من العلماء, فصَّلُوا هذا القول تفصيلًا.
وظل هذا المنصب في بلادنا هذه، ينهض به الأئمة والعلماء الأكابر، حتى تولى الإفتاء فيها العلامة الشيخ: ( المهدي العباسي )، وله ما يُسمى بالفتاوي المهدية, وهو كتاب مطبوع في نحو ثماني مجلدات كبار, وقد تولى الإفتاء وهو في العشرين من عمره، إلا إنه كان محاطاً بأمناء، يحررون له السؤال، وبعد الإجابة يضبطون له الفتوى، وكان عالماً كبيراً، ثم صار بعد ذلك شيخاً للأزهر.
ومنهم العلامة الشيخ: ( محمد عليش )، الذي تولى إفتاء الديار المصرية، ثم إنه لم يرتضِ ما ذهب إليه الخديوي إسماعيل، من محاولة استقلال مصر تشريعياً عن الخلافة العثمانية، واعتبر ذلك نوعاً من أنواع المروق والفسوق، فكان جزاؤه السجن، إلى أن غادر إسماعيل البلاد, ولكنه كان باقياً صلباً في دينه، تقياً، ورعاً، ألف فتاويه التي عُرفت ب( فتح العلي المالك، في الفتوى على مذهب الإمام مالك )، وقد ألفه وهو ابن خمسة وعشرين عامًا.
ثم بعد ذلك ارتقى الأمر، ورأت الهيئة العلمية أن ينظم هذا العمل في دار تُفتح، وتنسب إلى مشيخة الأزهر، سميت ب( دار الإفتاء المصرية ), وكان ذلك في سنة 1895م.
وأول من تولى هذه الدار هو الشيخ: ( حسونة النواوي )، وكان شيخاً للأزهر الشريف، وبعد أربع سنوات كان قد أكمل سجلاً واحداً في الفتاوي، والسجل فيه مائتا صفحة.
ثم صار الإفتاء إلى الشيخ: ( محمد عبده ) في سنة 1899 م, وظل الشيخ: ( محمد عبده ) في الإفتاء ست سنوات, وانتقل إلى رحمة الله تعالى سنة 1905 م, لكنه قبل أن ينتقل إلى رحمة الله تعالى استقال من الإفتاء، واستقال من المجلس الأعلى للأزهر.
وقد مات الشيخ في الحادي عشر من أغسطس، لكنه استقال من المجلس في السادس من مارس, واستقال من الإفتاء في العشرين من مايو, إذًا فقد مكث بعد استقالته من الإفتاء طوال يوينو ويوليو وأغسطس .. على قول, وقيل إنه مات في الحادي عشر من يوليو، مما يعني أنه مكث حوالي خمسين أو ستين يومًا .. أي نحو شهرين, ومات بالإسكندرية, وسبب استقالته من الإفتاء كانت الصحافة المصرية؛ فالصحافة المصرية استلمت الرجل، تُحَرِّف فتواه، وتنشر عنه كل قبيح، وليس ذلك إلا استهزاءًا بالدين، وبأهله، وبأفكاره، وبأحواله.
وقد ملَّ الإمام من هذا الوضع الذي استيأس معه من الإصلاح، وبعد ذلك ذهبت الصحافة، وذهب من يسبُ علماء الدين فيها، وتاب منهم من تاب، وبقي اسم الإمام علمًا على التجديد لمن بعده.
ولم يرَ أي مشروع من مشروعات ( محمد عبده ) النور في حياته, ولم يرَ أي فكرة أرادها تُنفذُ أمامه, ولكنه لما انتقل إلى رحمة الله تعالى - ولحسن طويته، وصلاح نيته، وإخلاصه مع ربه - أبقى الله ذكره، وأعلى شأنه، ونُفِّذَتْ كل المشروعات، ابتداءاً من مدرسة القضاء الشرعي، إلى إصلاح القضاء، إلى إصلاح التعليم، إلى إصلاح الأزهر، إلى أمور كثيرة في قوانين الأحوال الشخصية، واحترام المرأة وإعطائها حقوقها التي كفلها لها الشرع الشريف، إلى آخر ما هنالك مما قد قدمه في الفكر الإسلامي، وفي العقيدة الإسلامية، وفي الدرس الإسلامي، وغير ذلك.
وها نحن نحتفل بمئوية وفاته في هذا العام، فإذ بنحو عشرة احتفالات في العالم الإسلامي كله، تحتفي به، ولم يذكر أحدٌ من الناس هؤلاء الذين كانوا يسبونه، أو ينتقدونه، أو يشوشون عليه حياته، ومشروعه الفكري.
والسؤال: هل نحن أمة تأكل أبناءها ؟! على كل حال، فالله من وراء ذلك محيط, والله I هو العلام بذات القلوب, وبذات الصدور, وبذات النفوس, والله I يحب أن يعمل الإنسان من أجله، وابتغاء مرضاته، حتى ولو لم يرَ نتائج ما يعمل, ويحب سبحانه أن يخُلصَ له العبد منا، وأن يظل يأمر بالمعروف وينهى على المنكر، مريداً بذلك وجه الله، تاركاً كلام الناس وراء ظهره.
ثم تتالى المفتون من بعده، في مائة وعشرة من الأعوام، ثمانية عشر مفتيًا أتوا إلى سدة الإفتاء في هذه المدة, كلهم - ونسأل الله أن يلحقنا بهم على خير - كانوا من العلماء، العاملين، الأتقياء، الأنقياء، الذين لم يستطعْ أحد أن يشترى نفوسهم أو فتواهم.
صدر في هذه الفترة مائة وعشرون ألفا من الفتاوى, لخُِّصَتْ في أربعة آلاف وخمسمائة, أصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في عشرين مجلدًا, وأصدرت دار الإفتاء عن طريق وزارة العدل ثلاثة مجلدات، فصار المجموع ثلاثة وعشرين مجلدًا, فيها نحو خمسة آلاف فتوى، تم انتقاؤها من مائة وعشرين ألفا من الفتاوى كما ذكرنا، وكلها موجودة في السجلات، التي وصل عددها إلى مائة وستين سجلاً ضابطاً للفتوى.
كان ( محمد عبده ) قد أصدر في سنواته الست: تسعمائة وأربعة وأربعين فتوى, ونحن الآن في دار الإفتاء نصدر الفتاوى، سواء عن طريق الهاتف، أو عن طريق المشافهة، أو عن طريق التحرير والكتابة، نصدر بهذه الوسائل ثمانية آلاف فتوى كل شهر، أي أن الذي نصدره في شهر واحد يساوي تسعة أضعاف ما أصدره الشيخ محمد عبده في بداية القرن العشرين في ست سنوت, وذلك لكثرة وسرعة الاتصالات, والمواصلات, والتقنيات الحديثة، كالتليفون, والإيميل, والفاكس, والبريد وتطوراته, والمواقع الإلكترونية .. وهكذا.
كانت دار الإفتاء عبارة عن ثلاث حجر، في الرواق العباسي, ولم يكن على هيئته التي هو عليها الآن، بل كان مقسماً إلى غرف, يأخذ منها الشيخ: ( محمد عبده ) ثلاث غرف في الرواق العباسي بالأزهر, وظل كذلك حتى انتقل إلى قصر رياض باشا، وهو المحكمة الشرعية العليا في شارع: نور الظلام بالحلمية, وظل هناك من سنة اثنتين وثلاثين إلى سنة واحد وستين أو اثنتين وستين، حيث انتقل إلى قصر عابدين, ثم انتقلت دار الفتوى إلى العباسية أمام أكاديمية الشرطة القديمة, وظلت هناك إلى سنة 1992 م, ثم انتقلت إلى المبنى الذي عمره فضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور: محمد سيد طنطاوي, وانتقل هو إليه، وظل فيه إلى أن أصبح شيخاً للأزهر، ودار الإفتاء منذ سنة اثنين وتسعين في هذا المكان إلى يومنا هذا.
دار الإفتاء تقوم بمهام منها: الإجابة على أسئلة الخلق, والناس عندما يسألون يريدون من المفتي أن يخبرهم: ما الحكم في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وما الحكم في شريعة الإسلام كما يفهمه الأئمة العظام ؟ والأئمة العظام من المجتهدين شاع منهم أربعة هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل, ومذاهبهم هي مذاهب أهل السنة الأربعة, وبقيت أربعة أخرى وهي: الإباضية، والجعفرية، والزيدية، والظاهرية, وكتبهم ما زالت موجودة, وأتباعهم مازالوا موجودين - قلوا أو كثروا - إلى الآن، فالجعفرية أكثرهم, ثم الإباضية, ثم الزيدية, أما الظاهرية فهم أفراد في العالم، لكن كتاب: ( المُحَلَّى ) لابن حزم وهو أصل في مذهبهم موجود وإليه يُرجع في هذا المجال.
ولكن هناك أكثر من هؤلاء المجتهدين، حيث وصل المجتهدون إلى أكثر من تسعين مجتهدًا لهم مذاهب، منهم: الليث بن سعد, ومنهم حماد بن سلمة, ومنهم حماد بن أبي سليمان, ومنهم ابن جرير الطبري, ومنهم الأوزاعي, ومنهم سفيان الثوري، ومنهم، ومنهم ....إلخ, وأنت تجدهم مسطورين في كثير من الكتب، من أشهرها وأقربها كتاب: ( ضحى الإسلام ) لأحمد أمين، ويمكنك الرجوع إليه إذا أردت أن تراجع أسماءهم ومذاهبهم.
وقد درجت دار الإفتاء أن تفتى في نطاق المذاهب الأربعة، بدأت أولاً بالحنفية, ثم وسعت إلى نطاق المذاهب الأربعة، وأول من وسَّعَ هذا كان هو الشيخ: ( محمد عبده ), ثم وُسِّعَتْ إلى نطاق المذاهب الثمانية عند الحاجة إلى شيء من خارج المذاهب الأربعة تقتضيه مصلحة العصر وفق نظر الفقيه المؤهل, ثم الخروج إلى الفقه الوسيع في الأمة عن المجتهدين التسعين, ثم تأخذ من المصادر الكبرى من الكتاب والسنة، مسترشدة بما عليه المجامع الفقهية الكبيرة العظيمة، كمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر, ومجمع الفقه الإسلامي في جدة, وأمثال هذه المجامع المعتبرة، التي فيها علماء الشرع الشريف, وقليل جداً من المسائل هو الذي يجتهد فيه المفتى مباشرة، فيأخذ من صريح الكتاب والسنة، ويفعل الأدلة والأدوات الأصولية, وهي مسائل قليلة جدًا, ولكن ذلك وارد إذا ما كانت المسألة جديدة أو حديثة، وليس هناك رأى معتمد فيها، قد استقرت عليه المجامع والجماعة العلمية في العالم.