الصلاة في اللغة : هي الدعاء والعطف، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي الدعاء له بصيغة مخصوصة، وقد ورد الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب :56].
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بفضل الصلاة عليه في كثير من الأحاديث منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا) [رواه مسلم].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه مائة، ومن صلى علي مائة كتب الله له براءة من النفاق بين عينيه، وبراءة من النار وأنزله الله يوم القيامة مع الشهداء) [الطبراني في الأوسط والصغير].
كما أن الله يُرقي بهذه الصلاة رسوله صلى الله عليه وسلم في درجات الكمال، فإن الكمالات لا تتناهى، فيرفعه بها في نهايات القرب والرضوان، فعن أبي طلحة عن أبيه قال : (جاء النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يري البشر في وجهه، فقيل : يا رسول الله، إنا نرى في وجهك بشرًا لم نكن نراه، قال : أجل، إن ملكًا أتاني، فقال لي يا محمد، إن ربك يقول لك : أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك إلا سلمت عليه عشرا، قال : قلت بلى) [الدارمي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه].
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تُطهر النفس من الخبث، وتُشفي القلب من كل مرض يحول بينه وبين ربه، فما زال المؤمن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يلقى ربه بقلب سليم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم) [ابن أبي شيبة في مصنفه، والحارث في مسنده].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في حاجة إلى أن نصلي عليه، بل نحن في حاجة إلى أن نصلي عليه صلى الله عليه وسلم، حتى يكفينا الله همومنا ويجمع علينا خير الدنيا والآخرة، ويغفر لنا ذنوبنا، وقد يسأل السائل كم نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في يومنا وليلتنا، فلا حد للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي على المسلم أن يجتهد في الصلاة عليه قدر المستطاع، وإن استطاع أن يجعل ذكره كله في الصلاة على النبي فهو خير له، فهذا الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : (قلت : يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي ؟ فقال : ما شئت. قال : قلت الربع ؟ قال : ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت : النصف؟ قال : ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قال : قلت فالثلثين؟ قال : ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت : أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : إذًا تكفى همك ويغفر لك ذنبك) [رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح].
وهكذا نرى أن إنفاق كل مجلس الذكر في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خير عظيم، حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا المعنى ما رواه أبي بن كعب كذلك قال : (قال رجل : يا رسول الله، أرأيت ان جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : إذا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وأخرتك) [رواه أحمد].
وتجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة المهم أن تشتمل على لفظ الصلاة على النبي، أو صلي اللهم على النبي، حتى وإن كانت هذه الصيغة لم ترد، وإن كانت الصلاة الإبراهيمية أو الصيغة الإبراهيمية في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي أفضلها، فقد اهتم الصحابة رضوان الله عليهم أن يعرفوا صيغة الصلاة عليه فقالو : (يا رسول الله, أما السلام عليك فقد عرفناه, فكيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد, وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد, وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد).
فالصلاة على النبي مفتاح الخيرات، ومرقاة الدرجات، وسبب السعادة في الدنيا والآخرة، فبها تطهر النفس، ويسلم القلب، وينجو العبد، ويغفر له ذنوبه، ويقبلها الله حتى من غير المسلم، وذلك لتعلقها جنابه الجليل، وليس معنى أنه يقبله منها، أنه يثيبه عليها؛ فالثواب وقبول العبادة فرع على التوحيد، وإنما معنى قبولها من غير المسلم أنه إذا طلب من الله أن يصلي على نبيه ويرحمه ويرقيه في درجات الكمال ،فإن ذلك سيحدث للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بغير ثواب له لافتقاده شرط التوحيد.
رزقنا الله كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والانتفاع به في الدنيا والآخرة، ورفقته في الآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. (يتبع)
ذكرت في المرة السابقة جانبًا من فضائل المصطفى في القرآن؛ إذ امتدح الله أعضاءه الشريفة، وخصالة الحميدة على نحو من التفصيل لم يكن لأحد قبله ولا بعده صلى الله عليه وسلم، حيث تكلمنا عن ذكر الله تعالى لوجه النبي صلى الله عليه وسلم، وعينه، ورؤيته، وبصره، ونطقه، ولسانه؛ وعلمنا كيف امتدح الله كل تلك الخصال في حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي تلك المرة نكمل ذكر الله لبعض أعضاء نبيه الشريفة وخصاله الحميدة في القرآن، ونبدأ بالحديث عن صدر المصطفى صلى الله عليه حيث قال تعالى في شأنه : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [ الشرح : 1]، وفيه إشارة إلى نعمة من نعم الله عليه، وفضيلته صلى الله عليه وسلم بشرح صدره، وقال الله مطمئنه لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم : (فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : 2]، وكذلك ذكر صدره في تسليته له بقوله تعالى : (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود : 12]، وذكر الله صدره في سياق آخر ليثبته صلى الله عليه وسلم : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) [الحجر : 97]
كذلك ذكر الله قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع في كتابه العزيز، واشتمل الذكر الثناء عليه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى : (قُلْ مَن كَانَ عَدُواًّ لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : 97]، وقال سبحانه : (وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : 159]، وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ) [الشعراء : 193 ، 194]، ]، بل إن ربنا أثنى على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ثناءً عظيما عندما أثبت أن قلبه صلى الله عليه وسلم أقوى من الجبال في تحمل التنزلات الإلهية والوحي فقال سبحانه : (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر : 21]، وقد أنزله الله على قلبه صلى الله عليه وسلم فتحمل ما لا يتحمل الجبل الأشم الراسخ.
وخص ربنا فؤاده صلى الله عليه وسلم بالذكر في الكتاب العزيز بما اشتمل الثناء عليه، فقال تعالى : (مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم : 11]، وقال سبحانه مبشرا له : (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود : 120]، وقال تعالى في شأن إنزال القرآن منجمًا : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : 32]
وقد ذكر الله يده الشريفة صلى الله عليه وسلم في سياق الأمر بالتوسط بين التقتير والتبذير فقال سبحانه وتعالى : (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [الإسراء : 29]، كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الامتنان عليه فقال تعالى : (الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) [الشرح : 3].
فدل كل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس أخلاقًا، وأجملهم صورة، وكان لرؤيته صلى الله عليه وسلم بهذا الجمال الخلقي والروحي والصوري أثر كبير في نفوس الناس برؤيته يرقي العبد في مراقي العبودية إلى الله مدارج لا يعلمها إلا الله، ومن هذا ما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يسمى الصحابي بهذا الاسم إلا بلقاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتماعه به قبل انتقاله صلى الله عليه وسلم من الحياة الدنيا، وإن كان معه في عصره فقط لا يعتبر صحابي.
فارتفع قدر الصحابة على رؤوس العالمين بسبب اجتماعهم به ورؤيتهم له صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت رؤية صورته الشريفة في المنام من أكبر منن الله على العبد المسلم الصادق إذ يقول صلى الله عليه وسلم : (من رآني في المنام فقد رآني) [متفق عليه].
وقد تعجب أصحابه من جماله ومدحوا ذلك الجمال فيه صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما قاله قال حسان بن ثابت :
وأجمل منك لم تر قط عيني | ** | وأكمل منك لم تلد النساء |
خلقت مبرءا من كل عيب | ** | كأنك قد خلقت كما تشاء |
فكان هذا الجمال المزين بالجلال، والمكسو بجميل الخصال وحميد الخلال سببًا في دخول الإيمان قلب كل صادق غير متبع لهوى.
رزقنا الله رؤيته في الدنيا، ورفقته في الآخرة، وإتباعه حتى نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
جانب آخر من جوانب تفضيل الله سبحانه وتعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتجلى هذا الجانب في ذكره سبحانه له صلى الله عليه وسلم في قرآنه الكريم بأغلب أعضاءه الشريفة، فليس هناك ملك مقرب، ولا نبي مرسل أثنى الله على أعضاءه وخصاله بهذا التفصيل قط.
نعم قد ذكر الله بعض الأعضاء لبعض الأنبياء في القرآن، كذكر لسان داوود وعيسى بن مريم عليهما السلام في كتابه؛ حيث قال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة : 78]، وذكر يد موسى عليه السلام، قال تعالى: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) [طه : 22]، وذكر يد أيوب ورجله، قال سبحانه : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص :42]، وقال سبحانه : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ) [ص : 44].
لكنه لم يذكر سبحانه وتعالى أعضاء أحد من أنبيائه بهذا التفصيل، وعلى هذا الوجه من التكريم، الذي ذكر به أعضاء نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فذكر ربنا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، فقال سبحانه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة : 144]، ويشمل هذا السياق على مدح جليل فوق ذكر الوجه، ووجه المدح فيه أنه بمجرد تقلب وجهه الشريف أعطاه الله به ما أراد دون سؤال منه ولا كلام، فكانت بركة وجهه في تقلبه معطية له ما تمناه ويرضاه صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر ربنا وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم في مواضع أخرى منها قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ( [البقرة : 144]، وقال : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ( [البقرة : 149]، وقال سبحانه : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : 20].وقال تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً( [يونس : 105]، وقال عز من قائل : )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ) [الروم : 43].
وذكر الله عينيه صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع في القرآن الكريم، فقال سبحانه : (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ) [الحجر : 88]، وقال تعالى : (وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) [الكهف : 28]، وقال سبحانه : (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ) [طه : 131].
وذكر ربنا رؤيته صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع كذلك فقال سبحانه : (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى) [النجم : 18]، وفي هذا ثناء على رؤيته ومدح بأنه رأى من الآيات ما لم يره أحد قبله صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه للمشركين زاجرًا لهم على تكذيبه ما يرى : (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) [النجم : 12]، ثم أخبر ربنا سبحانه وتعالى أن نبيه صلى الله عليه وسلم خص برؤية جبريل عليه السلام على صورته، فقال سبحانه : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) [النجم : 13].
كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى بصره الشريف صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع من كتابه العزيز، فقال تعالى : (مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم : 17]، وفي هذا السياق مدح فوق الذكر؛ إذ أثنى ربنا على البصر وأنه صادق غير زائع، وقال تعالى : (فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : 22]، وقال سبحانه : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) [القلم : 5]، وقال تعالى : (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [الصافات : 175]، وقال سبحانه : (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) [الصافات : 179]، وقال سبحانه وتعالى : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) [الكهف : 26]، وقال : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : 38].
وذكر ربنا سمعه الشريف في عدة مواضع من كتابه العزيز فقال سبحانه : (فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً) [طه : 108]، وقال : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) [الكهف : 26]، وقال تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : 38]
وذكر منطقه ومدحه سبحانه فقال : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى) [النجم : 6]. فبين صدق منطقه صلى الله عليه وسلم وصواب حديثه، وكذلك امتدح ربنا صوته بالإجلال والتعظيم، وحذر الصحابة من التعالي على هذا القدر، فقال سبحانه : (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات : 3].
وذكر الله سبحانه وتعالى لسانه الشريف صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع في كتابه العزيز فقال تعالى : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ) [مريم : 97]، وقال : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان : 58]، وقال سبحانه : (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : 16].
هذه جملة من الآيات القرآنية التي تبين فضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم عند ربه؛ حيث ذكره بكل هذه الأعضاء والخصال وامتدحها، رزقنا الله حبه وإتباعه، ورفقته في الجنة. (يتبع)
شرف الله كثيرا من الأنبياء بأن ذكرهم بأسماء من أسمائه سبحانه وتعالى، كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحق، وموسى، وعيسى، ويحيى، فقال تعالى في شأن نوح : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : 3] وعن إبراهيم : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) [هود : 57]، وقال عن إسماعيل : (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات : 101]، وفي إسحاق قال تعالى : (قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر : 53]، وقال تعالى في شأن موسى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) [الدخان : 17]، وقال عنه كذلك : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص : 26]، وقال : (قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) [طه : 68]. وذكر يحيى فقال سبحانه: (وَبَراًّ بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِياًّ) [مريم : 14]، وفي شأن عيسى عليه السلام قال ربنا : (وَبَراًّ بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياًّ) [مريم : 32].
ولكنه سبحانه فضل نبيه صلى الله عليه وسلم على كل الأنبياء حتى في هذه الفضيلة، فقد جمع له في آية واحدة بين اسمين من أسمائه سبحانه، ولم يحدث ذلك لأحد في كتاب ربنا إلا له صلى الله عليه وسلم، قال تعالى : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
كما أكثر الله من ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بأسمائه سبحانه وتعالى، فمن ذلك قوله: (وَرَسُولٌ مُّبِينٌ) [الزخرف :29]، وقوله : (جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ) [يونس :108] قيل هو : سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى : (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة :15]، وقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً) [الأحزاب :45]، وقوله تعالى ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة :143]، وقوله عز وجل : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة :40]، ومن ذلك قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان :59] قال القاضي بكربن العلاء : المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم والمسئول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال غيره : بل السائل هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسئول هو الله سبحانه وتعالى فيكون خبيرا بالوجهين إما لأنه عليم على غاية الأمور بما أعلمه ربه، وإما أنه مخبرا لأمته عن ربه.
وأثنى الله سبحانه وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم، فامتدح كل مواطن المدح والشرف المتعلقة به، فأثنى على نسبه، وأعظم قدر نسائه رضي الله عنهن، وحفظ المكان الذي يقيم فيه وأعلى شأنه وأقسم به، ومن مدحه لنسبه الشريف قال تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء :219] قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير تلك الآية : (أي في أصلاب الآباء آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبياً). [تفسير القرطبي، وأخرجه البزار والطبراني].
فالنبي أنسب الناس على الإطلاق، كما أخبر صلى الله عليه وسلم بنفسه عن ذلك، فعن هذا فعن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). [مسند أحمد، ورواه الترمذي والبيهقي]. وعن عمه العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم، ثمّ تخيَّر القبائل فجعلني من خير قبيلةٍ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً) [رواه الترمذي].
وأثنى ربنا سبحانه وتعالى على نساءه رضي الله عنهن، وما بلغن هذا المبلغ إلا لتعلقهن بجنابه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ) [الأحزاب : 32]، وقال سبحانه في نفس هذا المعنى : (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب : 6].
ولما تعلق الزمان بالنبي صلى الله عليه وسلم مدحه بل عظمه، إذ أقسم بعمره صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : 72]، ولم يقسم الله بعمر أحد من خلقه قط إلا بعمر نبيه المصطفى وحبيبه المجتبى صلى الله عليه وسلم .
وجعل ربنا خير الأزمان زمن بعثته، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (خير القرون قرني) [متفق عليه]، وكما مر قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم) [رواه الترمذي]. فشرف الزمان الذي بعثه فيه، وعظم الزمان الذي أبقاه فيه في هذه الدنيا، ولولا تعلق هذين الزمنين بجنانه العظيم صلى الله عليه وسلم ما حظيا بهذا التكريم.
وشرف الله المكان الذي تعلق بجانبه العظيم صلى الله عليه وسلم؛ حيث أقسم بمكة ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يقيم فيها فقال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ) [البلد : 1 ، 2].
وشرف الله المدينة وجعلها حرم آخر لا لشيء إلا لتعلقها بجنابه الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجعل الله ثواب الصلاة في المسجد الذي نسبه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه مضاعفة ألف مرة من أي مكان آخر عدا المسجد الحرام.
فهذا جانب من ثناء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى كل ما تعلقه بجنابه الشريف من الأشخاص والأماكن والأزمان، رزقنا الله إتباعه في الدنيا ورفقته في الآخرة. (يتبع)
للنبي صلى الله عليه وسلم عند ربه مقام عظيم، وقدر جليل، فاق كل الخلائق أجمعين، فهو سيد ولد آدم، بل هو سيد الأكوان وصفوتها، فهو خير من الملائكة، وخير من العرش، ولا يعرف حقيقته وعظيم قدره إلا خالقه سبحانه وتعالى.
وقد خصه ربنا بمزايا عديدة، ونوع أشكال المدح له، وذكره في قرآنه بأجل الصفات، فوصفه ربنا بالرحمة فقال :(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وقال : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة : 128].
ووصفه ربنا سبحانه بأنه النور الهادي للحق فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) [الأحزاب :45، 46]. وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة :15].
وأثنى الله على أخلاقه فقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : 4]، وكما أخبر هو بنفسه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [أحمد والبيهقي والحاكم في المستدرك ومالك في الموطإ].
ولقد فضله الله على الأنبياء قبله في النداء، فالناظر في القرآن الكريم يرى أن الله قد نادى الأنبياء عليهم السلام قبله بأسمائهم المجردة، فقال تعالى (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : 46] وقال : (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [هود : 76] ، وقال سبحانه : (يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : 12 ،13]، وقال سبحانه وتعالى : (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ) [آل عمران : 55]، وقال سبحانه : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) [ص : 26].
أما نبينا صلى الله عليه وسلم فما ناداه الله تعالى في كتابه العزيز باسمه مجردا قط، بل كان دائما يناديه بقوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، أو (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، أو (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ)، أو (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ).
وكان صلى الله عليه وسلم يستحق تلك المكانة التي جعلها الله له، ويستحق أن نحبه بكل قلوبنا، فهو الذي كان يتحمل الأذى من أجلنا، ولا يخفى ما يؤثر من حلمه صلى الله عليه وسلم واحتماله الأذى، وإن كل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما.
ويؤكد هذا الخلق العالي دعاءه لقومه الذين آذوه وعادوه، وما دعى عليهم، وإن كان الدعاء عليهم ليس بمنقصة، فإن الدعاء على الظالم المعاند لا شيء فيه وفعله أولي العزم من رسل الله كنوح وموسى عليهما السلام. فكان دعاء سيدنا نوح فقد قال القرآن عنه في دعائه على قومه : (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : 26].
وسيدنا موسى عليه السلام فقال تعالى : ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ ) [يونس : 88]
وقد كانا عليهما السلام على حق، ولكن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أحق، فقد روى الطبراني وذكره الهيثمي في مجمعه وقال رجاله رجال الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم يوم أحد، شق ذلك على أصحابه شقا شديدا، وقالوا : لو دعوت عليهم. فقال : إني لم أبعث لعانا، ولكني بعثت داعيا ورحمة : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وأخرج البخاري في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها (قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيت من قومك ما لقيت. وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك فسلم علي ثم قال : يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)
وعفى النبي صلى الله عليه وسلم على من جذبه من الأعراب جذبة شديدة، وأعطاه سؤاله وزاد، وعفى صلى الله عليه وسلم عن اليهودية التي سمت الشاة له بعد اعترافها، ولم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره، ولا عتب عليه فضلا عن معاقبته. فهذا هو الأسوة الحسنة والنموذج الأعلى المرضي عند ربه صلى الله عليه وسلم. (يتبع)
سار الصحابة الكرامة على نهج رسولهم الأمين صلى الله عليه وسلم، واقتفوا أثره، فإذا كان النبي صلى الله عليه قرآنا يمشي على الأرض فإن أصحابه كانوا سنة تمشي على الأرض، وعلى ذلك تبعهم التابعون، ومن بعدهم حتى وصل إلينا الدين غضًا سمحًا.
وقد واصل الصحابة الكرام مسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام، والدعوة إلى الله على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وكانوا لا يلجئون إلى القتال إلا إذا فرض عليهم من قوى العالم المتجبرة.
فلم ينشر المسلمون دينهم بالسيف، وقد شهد بذلك المنصفون من أبناء الحضارة الغربية، فهذا المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب - وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عصور الفتوحات من بعده - : (قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة... ، ولم ينتشر القرآن إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ما زاد عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها).
ونسجل شهادة الكاتب الغربي الذي يدعى (توماس كارليل) ، حيث قال في كتابه «الأبطال وعبادة البطولة» ما ترجمته :« إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها
إن من يقرأ التاريخ ويلاحظ انتشار الإسلام على مر العصور يعلم أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل انتشر بطريقة طبيعية لا دخل للسيف ولا القهر فيها، وإنما بإقامة العائلات بين المسلمين وغيرهم وعن طريق الهجرة المنتظمة من داخل الحجاز إلى أنحاء الأرض. وهناك حقائق حول هذا الانتشار حيث يتبين الآتي :
في المائة العام الأولى من الهجرة : كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5%، وفي العراق 3%، وفي سورية 2%، وفي مصر 2%، وفي الأندلس أقل من 1%.
أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:ـ
إيران سنة 185 هـ، والعراق سنة 225 هـ، وسورية 275 هـ، ومصر 275 هـ، والأندلس سنة 295هـ.
والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي :
بلاد فارس 235 هـ، والعراق 280 هـ، وسورية 330 هـ، ومصر 330هـ، والأندلس 355 هـ.
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي :
بلاد فارس 280 هـ، والعراق 320 هـ، وسورية 385 هـ، ومصر 385 هـ، والأندلس سنة 400 هـ.
من يعلم هذه الحقائق ويعلم أن من خصائص انتشار الإسلام :
(أ) عدم إبادة الشعوب.
(ب) الإبقاء على التعددية الدينية من يهود ونصارى ومجوس؛ حيث نجد الهندوكية على ما هي عليه وأديان جنوب شرق آسيا كذلك.
(ج) إقرار الحرية الفكرية، فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة.
(د) ظل إقليم الحجاز مصدر الدعوة الإسلامية فقيرًا حتى اكتشاف البترول في العصر الحديث.
كل هذه الحقائق وغيرها، تجعلنا نتأكد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل، وهو الرسول الخاتم الذي علم البشرية بأسرها فضائل الأخلاق، والتسامح، والنبل، والشجاعة، وعلى دربه سار أصحابه، والتابعون من بعدهم، وضرب المسلمون أروع الأمثلة للأخلاق وانبهر العالم من حولهم بهذه الأخلاق النبوية التي توارثوا جيلاً بعد جيل.
هذه لمحة من سمات الرسول المعلم، وكيف كان حاله وهو يجاهد باللسان والسنان في سبيل إعلاء كلمة الله، ولإتمام رسالة رب العالمين، ولم تكن حضارة المسلمين تراثاً مكتوباً فحسب، بل كانت واقعاً عاشه المسلمون وعاشه معهم أنصارهم وأعدائهم وسجلته كتب التاريخ.
وينبغي علينا أن نتعلم من رسولنا كل الأخلاق الفاضلة، والسلوك القويم؛ حتى نواجه العالم بحضارتنا المتجددة دائما، ولا نتبع أذناب الحضارات التي نحت الأخلاق بعيدا عن واقعها المعيش؛ فأمة الإسلام هي الأمة الشاهدة، وهي الأمة التي تحملت تكاليف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فسد المسلمون وتركوا ما كلفهم الله به من مهام لإصلاح الأرض فسدت الأرض، فلننظر كيف عرف المسلمون وظيفتهم في الصدر الأول للإسلام، حيث قال ربعي بن عامر رضى الله عنه لرستم قائد الفرس عندما سأله : ما أنتم ؟ فأجابه بقوله : (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) [تاريخ الطبري].
فهذه هي رسالة المسلمين، ورسالة كل مسلم أن يكون كذلك الصحابي الجليل، رزقنا الله، اقتفاء أثر نبينا رسولنا المعلم صلى الله عليه وسلم.
إن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم نعم الله على البشرية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو النموذج المطلوب اتباعه من البشر، وقد صنعه الله ليكون أسوة، فكما أن كلام الله سبحانه هو المثال النظري والمرجعي لصياغة الإنسانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثال العملي التطبيقي لكلام الله، وقد أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت عندما سألت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان خلقه القرآن) [رواه أحمد]، فكان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض.
ولم يكن رسول الله الأسوة الحسنة لأتباعه من المؤمنين فحسب، بل كان ذلك للبشرية بأسرها، حتى الأنبياء أمرهم الله باتباعه صلى الله عليه وسلم ونصره إذا بعث في زمنهم، وقد شهدوا بذلك وعاهدوا الله عليه كما أخبر ربنا في كتابه حيث قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران :81].
فهو النبي الوحيد، بل الإنسان الوحيد الذي حفظت سيرته وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته في اليقظة والمنام بهذا الشكل، فلم يهتم أحد بحفظ سيرة أحد على الأرض على مر التاريخ على هذا النحو، واهتم المسلمون بنقل كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشئوا العلوم لحفظ سيرته وسنته، ولقد بدأ هذا في الصدر الأول للإسلام، فابن عباس رضي الله عنه يتحرى الليلة التي يأتي فيها النبي صلى الله عليه إلى خالته ميمونة ـ إحدى زوجاته رضي الله عنها ـ ويبيت عند خالتي حتى يراقب النبي صلى الله عليه وسلم في أكله ونومه وعبادته، ويتمثل به كما روى ذلك مسلم في صحيحه وغيره.
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لكل من أراد الله ونعيمه قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب :21]، وذلك لأن الله قلب نبيه صلى الله عليه وسلم في شتى وظائف المجتمع وأعماله، فمن أراد أن يكون أجيراً أميناً على مال الناس فليتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يكون تاجراً صالحًا وصادقاً فليتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يكون زوجاً صالحاً، وأبا رحيماً، وقائداً حكيماً، ومحارباً شجاعاً في الحق، ومفتياً خبيراً، وقاضياً عادلاً، ومصلحاً اجتماعياً واعياً، وابناً براً، وواصلاً كريماً و .... من أراد أن يكون أفضل إنسان في أي موقع فسيجد له من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكراً.
ونتكلم في هذه المرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره قائدًا مجاهدًا شجاعًا نبيلاً، ونراه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم قواد الجيوش في العالم بأسره حقيقة الحروب، وكيف تدار، ومتى تبدأ وكيف تنتهي، وذلك من خلال التجول السريع في سيرته العطرة للتعرف على بعض حقائق حروب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الحروب، ولم يسعى إليها، وقد فرض عليه صلى الله عليه وسلم طوال قيادته للدولة الإسلامية اثنان وثمانون تحركا عسكريا، لم ينشب القتال في ستين منها، وخمس تحركات لم يقتل غير المسلمين، ومجموع القتلى والشهداء من الفريقين 1004 أشخاص منهم 252 شهيدا مسلما والباقي من المشركين.
هذه الأرقام ليست من الفظاعة حتى تجبر العالم بأسره أن يخشى من الإسلام ويدخل فيه خوفا من السيف، بل إن عدد قتلى حوادث السيارات في عام واحد في أي مدينة كبيرة يفوق هذا العدد.
وذلك يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن الخيار الأول عنده القتال، وكان يبتعد عن القتال قدر استطاعته حتى لا يجد من القتال بدا بأن يدافع عن نفسه وينصر المظلومين وينشر الإسلام.
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفًا فهو سيف الله وليس سيف الشهوات، والبلاء وقلة الديانة، وسوء الأخلاق، كان سيفا يدافع عن المظلوم ويرد الحقوق لأصحابها، وينشر العدل ولا يستخدم القوة إلا مع أهل البطش والظلم ليدافع عن نفسه وعن الإسلام.
أنتجت هذه الحروب نحو ستة آلاف وخمسمائة أسير عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ستة آلاف وثلاثمائة أسير، ولم يأسر ويستمر الأسر إلا على مائتين، فكانت صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهو سيد ولد آدم ولا فخر.
وبذلك الخلق وتلك الأرقام يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجاهد جهاد النبلاء، كيف نكون أتقياء مراقبين لله حتى في ظل احتدام المعركة، كيف نذكر الله في كل وقت وخاصة في وقت الجهاد، وقد اكتنف جهاده صلى الله عليه وسلم حقائق كثيرة ينبغي أن يعلمها المسلمون، فمن كان يجاهد ؟ وكيف كان تواضعه ولجوؤه إلى ربه في أصعب الأوقات ؟ وكيف صار أصحابه رضي الله عنهم بعده على هديه في الجهاد ؟
تكلمنا في المرات السابقة عن الذكر ومعناه في اللغة والاصطلاح، وكيف حث ربنا عليه في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وعرضنا للذكر بالكلمات العشر المنجيات والتي تبدأ بـ (سبحان الله) فتكلمنا عنها ثم (الحمد لله) ثم (لا إله إلا الله) ثم (الله أكبر) ثم (لا حول ولا قوة إلا بالله) وبينا أن هذه الكلمات الخمس من الكلمات العشر هي الباقيات الصالحات، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق؛ واستكمالاً لما سبق نتكلم هذه المرة عن الكلمة السادسة وهي (استغفر الله).
و(استغفر الله) تعني أني أطلب العفو والصفح والستر من الله، سواء كان ذلك العفو، والصفح والستر، سبق طلبه معصية كبيرة أو صغيرة أو غفلة أو تقصير، أيا كان السبب، فمفهوم هذا الذكر الرجوع إلى الله متذللاً خاضعاً، وطلب المغفرة منه سبحانه وتعالى لما بدر من الذنوب، وطلب الستر في الدنيا والآخرة. والاستغفار أصله في اللغة من غفر بمعنى ستر، ومنها سمي المغفر وهو ساتر الرأس.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يستغفر الله ويتوب مائة مرة، وقد حث المؤمنين على ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : (أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة) [رواه مسلم]، فنسأل الله كثرة الاستغفار والوقاية من النار.
وأما الكلمة السابعة فهي (ما شاء الله) وهي كلمة وكأنها بحاجة إلى جواب، والجواب مضمر بمعنى (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)، فهذه الكلمة التي يقولها الإنسان يذكر نفسه أن ما يراه من رزق حسن له أو لأحد إنما هو بمشيئة الله، ومن فوائد هذه الكلمة أنها تمنع الحسد من الشخص، فإن الحسد قوة شيطانية بداخل الإنسان؛ حيث يتمنى زوال ما يرى من نعمة على أخيه، وبهذه الكلمة يتذكر المسلم أن ما يراه هو مشيئة الله سبحانه وحده، وأن هذا التمني هو في الحقيقة اعتراض على قسمة الله عز وجل، فيترك هذا الخلق البغيض ويرضى بما قسم الله، ولا حرج أن يسأل الله أن يرزقه مثل رزق فلان دون أن يزول من رزقه شيء.
وهي كلمة قريبة المعنى من الكلمة الخامسة (لا حول ولا قوة إلا بالله) إلا أن هذه الكلمة تكثر في رؤية الخير على الآخرين، وقد أمر الله بها على لسان العبد الصالح الذي أمر صاحبه الذي كفر أن يقولها حتى لا تزول النعمة من عنده قال تعالى : (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ) [الكهف :39].
والكلمة الثامنة هي (حسبنا الله ونعم الوكيل) وهي كلمة عظيمة، تعني الاكتفاء بالله وحده، والاستغناء عن الخلق، فالمسلم يكفيه الله في أخذ حقه، ويكفيه الله في رزقه، ويكفيه الله في صحته، ويكفيه الله في شأنه كله، وهو من يقوم بالدفاع عنه قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج :38] وقد ذكر الله أن بهذه الكلمة يبدل الله خوف المؤمنين أمنًا، وينجيهم من السوء، وينجيهم من شر الأشرار قال تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران :173 ، 174]، ويكثر استعمالها في حال الضعف عن أخذ الحق، ويستحب الذكر بها دائماً.
أما الكلمة التاسعة فهي (إنا لله وإنا إليه راجعون) وهي ذكر عظيم، يعني أن الإنسان وما يملكه وما يوجد حوله هو في الحقيقة ملك لله، وأن هذا الملك سيعود إليه سبحانه لا محالة عندما يأتي الأجل، وهذا الذكر يسلي المؤمنين في المصائب وخاصة مصيبة الموت، فينبغي أن يتذكر المسلم وقتها أن هذا الإنسان الذي توفاه الله هو ملك له سبحانه، وأنه عاد إلى مالكه، فلماذا الحزن من الحق، وعودة الشيء لصاحبه، فكلنا ملك لله، وكلنا إليه راجعون إليه سبحانه قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة :155 ، 156]، وينبغي أن يذكر المسلم بها نفسه دائما،ً ويذكر بها ربه حتى لا يغفل عن حقيقة الدنيا.
أما الكلمة العاشرة والأخيرة فهي (توكلت على الله) وهي كلمة عظيمة المعنى، جليلة الأثر في قلب المؤمن الصادق، وهي تعني سأعتمد بقلبي على الله، فهو الملجأ والمعتمد، وهو القادر والفعال لما يريد، وهي كلمة قريبة المعنى من الكلمة الثامنة (حسبنا الله ونعم الوكيل) ولكن هذه الكلمة التي معنا تصرح بأني نويت وعزمت الاعتماد على الله في كل أموري، وقد أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران :159]. كذلك ينبغي أن تكون ذاكراً لهذه الكلمة التي تجمع القلب على الاعتماد على الله والثقة به وحده. ولا يتعارض التوكل على الله بالقلب مع الأخذ بالأسباب في الدنيا، فإن هذا هو حال سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم.
هذه هي العشر المنجيات التي ينبغي للمسلم أن يذكر الله بها دائما، وتخالط معانيها قلبه، ويواجه بها دنياه، ويتعامل به مع من حوله، كما ينبغي أن تظهر في سلوكه حتى تكون منهج حياة يظهر حقيقة الإسلام والمسلمين، ويعود للإسلام مجده الحضاري والأخلاقي.
تكلمنا في المرة السابقة عن الذكر ومعناه في اللغة والاصطلاح، وكيف حث ربنا عليه في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وتناولنا الذكر بالكلمات العشر المنجيات والتي تبدأ بـ (سبحان الله) وذكرنا معنى التسبيح وفائدته، واستكمالاً لهذا الموضوع نتكلم عن باقي الكلمات العشر ونتعرض للكلمة الثانية وهي (الحمد لله).
الحمد لله : وهي تعني الثناء على الله لكمال صفاته وعلو شأنه سبحانه وتعالى، فهي تعبر عن شكر الله على نعمته، وتعبر كذلك عن الثناء على الله لغير نعمة، بل لجميل صفاته، فيحمد الله على عظمته وجلاله كما يحمد على إحسانه وإكرامه قال تعالى : (وَلَهُ الحَمْدُ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم :18]
فإذا لاحظ الإنسان إحدى نعم الله عليه أو أنشأ الله منة جديدة فسيقول الحمد لله، فإن ذلك الحمد إنما هو من توفيق الله وفضله، فكيف تسمي نفسك حامداً والله هو الذي جعلك تحمد، فينبغي عليك حينئذ أن تحمد الله أن وفقك لحمده، فإذا فعلت ذلك ولاحظت أن الحمد الثاني أيضا من توفيق الله، فتشعر أنك عاجز حتى أن تشكر ربك على نعمة بغير عونه وفضله، فيترتب على ذلك خضوعك وتواضعك لله، ويظهر هذا التواضع بين إخوانك المسلمين، فيحسن به الخلق وتزيد به العلاقات الإنسانية حميمية.
والكلمة الثالثة هي (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة تعد الميثاق بينك وبين الله، وبها دخلت دين الله عز وجل، وهي تعني أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، فلا حق لأحد في الخلق مهما عظم أن يُعبد، ويُتوجه إليه. وفي الحقيقة بقولك هذه الكلمة تدخل الإسلام، وبترديدها ينجلي قلب المؤمن ويزداد إيماناً.
وهذه الكلمة تعني أن نعبد الله لأنه ليس لنا إله غيره سبحانه، وبهذا أرسل الله جميع الرسل قال تعالى : (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [المؤمنون :32]، وهي أفضل كلمة قالها أنبياء الله جميعهم عليهم السلام بما فيهم نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال : (أفضل ما قولته أنا والنبيون من قبيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له) [مالك في الموطأ والترمذي في سننه] وهي كلمة تشتمل على أمرين، الأمر الأول : أن لا نتوجه بالعبادة والقصد لغير الله. والأمر الثاني : أن نتوجه بالعبادة والقصد لله ولا نقف على المعنى السلبي فحسب، فإن تركك لعبادة غير الله لا يكفي، بل ينبغي أن تعبد الله فعلاً بإقامة الفروض والمحافظة عليها، وفعل المندوبات وهذا هو الجانب الإيجابي في التوحيد وهي عبادة الله عز وجل.
أما الكلمة الرابعة فهي (الله أكبر) ويستفاد من هذه الكلمة أنه ينبغي أن يكون الله هو أكبر شيء في حياة الإنسان، وأنه القضية الأولى لديه هي (رضا الله) فالله ورضاه أكبر من أي شيء، ولذلك يفتتح الإنسان بها صلاته مذكراً نفسه بأنه لا ينبغي أن يشغله شيء عن ذكر الله، فإن الله أكبر من أي شيء يشغله، ويجدد العهد في الصلاة كلما انتقل من ركن إلى ركن أو من ركن إلى سنة داخل الصلاة دائما يقول لنفسه : الله أكبر، من الدنيا وما فيها، فلا ينبغي أن ينشغل بالأصغر عن الأكبر.
فالله أكبر تعني أن قدر الله في قلب كل مؤمن ينبغي أن يكون أكبر من قدر أي شيء آخر، لأن الله هو الحقيقة الوحيدة في هذا الكون. بمعنى أنه الموجود بغير حاجة لأحد، فكل وجود غيره يحتاج إليه فهو مظهر من مظاهر وجوده سبحانه، فالله أكبر كبيراً.
والكلمة الخامسة فهي (لا حول ولا قوة إلا بالله) وتعني أنه لا يحول ولا يمنع بينك وبين كل ضر أو خير إلا الله، كما أنه لا تصلك ولا يصل أحد خيراً إلا بقوة الله، فبقوة الله وحده تحدث الأشياء، وبحول الله وحده تتمنع الأشياء عن الحدوث؛ لأنه في الحقيقة لا حول ولا قوة لأحد في هذا الكون إلا لله سبحانه وتعالى.
وهذه الكلمة لما فيها من حقائق عالية ومعان غالية كانت كنزاً من كنوز الجنة، فقد قال النبي صلى الله عليه لعبد الله بن قيس : (قال يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله) [أخرجه البخاري]، وينبغي لمن يذكر الله بهذه الكلمة أن تحدث له تسليماً وإخباتاً وخضوعاً لله وحده، ولا يخشى من غير الله حيث لا فعل له في الكون ولا قوة ولا حول.
وتلك الكلمات الخمس من الكلمات العشر هي التي قال عنها العلماء (الباقيات الصالحات) التي ذكرها الله في كتابه حيث قال : (المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف :46] وقال سبحانه : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًا) [مريم :76] قال النبي صلى الله عليه وسلم : (استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الملة. قيل : وما هي ؟ قال : التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله) [أخرجه الحاكم في المستدرك].
رزقنا الله الاستمساك بالباقيات الصالحات، وذكر الله بهن دائما، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين (يتبع)
يعرف الذكر في اللغة بأنه مصدر ذكر الشيء يذكره ذكرا وذكرا, وقال الكسائي : الذكر باللسان ضد الإنصات ذاله مكسورة, وبالقلب ضد النسيان وذاله مضمومة , وقال غيره : بل هما لغتان.
ويستخدم في اللغة بعدة معان منها : جريان الشيء علي اللسان إذا نطق باسمه وتحدث عنه قال تعالى : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى :15]. ومنها : استحضار الشيء في القلب قال تعالى : (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف :63].
نقل صاحب القاموس في بصائره عن الراغب الأصفهاني قوله : «الذكر تارة يراد به هيئة للنفس بها يمكن الإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة, وهو كالحفظ, إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه, والذكر يقال باعتبار استحضاره, وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول. ولذلك قيل : الذكر ذكران : ذكر بالقلب, وذكر باللسان, وكل واحد منهما ضربان : ذكر عن نسيان, وذكر لا عن نسيان, بل عن إدامة حفظ. وكل قول يقال له ذكر. ومن الذكر بالقلب واللسان معا قوله تعالى : (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة :200].
أما في الاصطلاح فللذكر معنيان الأول عام وهو يشمل كل أصناف العبادات؛ حيث إنها تشتمل على ذكر الله, سواء كان ذلك الذكر بالإخبار المجرد عن ذاته, أو صفاته, أو أفعاله, أو أحكامه, أو بتلاوة كتابه, أو بمسألته ودعائه, أو بإنشاء الثناء عليه بتقديسه, وتمجيده, وتوحيده, وحمده, وشكره وتعظيمه. وعليه فتسمى الصلاة ذكراً وتلاوة القرآن ذكراً والحج ذكراً وكل أصناف العبادات.
ويكون بمعنى أخص وهو إنشاء الثناء بما تقدم, دون سائر المعاني الأخرى المذكورة. ويشير إلى الاستعمال بهذا المعنى الأخص قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت :45] فرغم أن الصلاة ذكر بالمعنى الأعم، إلا أن المراد هنا هو المعنى الأخص حيث فرق الله بين الصلاة والذكر، وكذل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة : (من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) [رواه الترمذي] وكذلك على الرغم من أن القرآن ذكر بالمعنى الأعم، إلا أن المراد في الحديث من الذكر المعنى الأخص حيث فرق بينهما.
وقد ورد الحث على الذكر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة : 152]، وقوله سبحانه : ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب : 35]، وقوله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال : 45]، وقوله سبحانه وتعالى : ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت : 45].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحة عامة : « لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة]، ومن الواقع المحسوس أن اللسان لا يكون رطبا مع كثرة الذكر بل يجف، ولكن هذا الجفاف المحسوس الملحوظ الذي هو عند الله هو الرطوبة المحمودة وهذا مثيل لقوله صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ » . [متفق عليه] وقوله صلى الله عليه وسلم : « لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِهِ - إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . [أخرجه البخاري].
وكان شأن المسلمين في الذكر الاهتمام بما أسموه بالكلمات العشر المباركات وهي كلمات علمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنواجه بها الحياة كلها وهي «سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله [وهذه الخمسة أسموها الباقيات الصالحات] استغفر الله، ما شاء الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، توكلت على الله ».
فنواجه بـ (سبحان الله) كل عجيب فالدنيا مليئة بالعجائب منها عجائب ناجمة عن قدرة الله في الكون، أو في أفعال العباد، وهي كلمة نقولها ننزه الله بها عن كل نقص ونصفه بكل كمال مطلق كل هذا في كلمة واحدة قال تعالى : (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم :17] وكذلك بعد الانتهاء من أفضل العبادات وهي الصلاة فشرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ننزه الله سبحانه ونقول : (سبحان الله) ثلاثاً وثلاثين مرة، فسبحان الله أحد مكونات الذكر الجامع الذي استنبطه أهل الله من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الذكر والتنزيه والتسبيح دائما، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين (يتبع)