علمنا في المقال السابق أن الإسلام ينظر لغير المسلمين نظرة تكامل، وسلام، واندماج مع الاحتفاظ بالهوية، وذكرنا أن تاريخ انتشار الإسلام نظيف وأن نتائج المعارك التي شنها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتي كانت في مجملها رد فعل من المسلمين في إطار الدفاع المشروع النفس والعقيدة كانت نتائجها من شهداء وقتلى من المشركين لا يتجاوز ثلاثمائة شخصا.
وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم فإننا لا نجد أي جيش من جيوش المسلمين في أرض غير بلادهم، في حين أننا نرى القوات الأمريكية والإنجليزية تحتل العراق وأفغانستان، ونرى القوات الإسرائيلية وهي تحتل الأراضي بعد سنة 1967 بالرغم من كل القرارات الدولية المتعلقة بذلك، والتي تدعو فيها إسرائيل إلى ترك الاحتلال.
إن هذه المشكلة وهذا الواقع غير منقول، إن المسلمين في كثير من بقاع العالم، وهم أكثر من مليار وثلاثمائة مليون أي ربع سكان الأرض في حالة سلام مع النفس ومع الجيران، وفي حالة سلام مع الله؛ إلا أن ضغوطا سياسية وأهواء اجتماعية وجهل ديني عميق حرك طائفة من الشباب ممن لم يدرسوا أبدا الشريعة ولم يتخرجوا في معاهدها من أجل تفريغ الإحباط الذي أصيبوا به من موقف المتشددين ضد الإسلام، ولم نعد هذه الحالة مبررا للجرائم التي يرتكبونها وإنما عندما بحثنا بحثا علميا هادئا عن سبب هذا التناقض بين تصرفات أولئك وبين ما يدعو إليه الإسلام توصلنا إلى هذه النتيجة من أن الجهل والإحباط والأهواء السياسية هي التي دفعت أولئك، وليس ذات الدين أو مقرراته وأحكامه.
ويقوم الإعلام بتكريس الإسلام فوبيا والتركيز على تصريحات هذه الفئة القليلة دون الاهتمام بما عليه كل المسلمين في الشرق والغرب.
ومن هذا كله يتضح أن الإسلام كعقيدة ودين لا يمنع المسلمين الذين يعيشون في أركان الأرض من أن يندمجوا في مجتمعاتهم التي اختاروا أن يعيشوا فيها، وأن يوالوا هذه المجتمعات، بل إن القرآن يقرر أن هذا هو الحال الذي خلق الله الخلق عليه قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات :13].
غير أن هذا الفهم لا ينفي حدوث الصراع أو إمكانية حدوثه ووقوعه، ولكن هناك فرق بين أن نجعله أصلا للخلقة لا يمكن الفرار منه، وبين أن نجعله حالة عارضة يجب أن نسعى لإنهائها حتى تستقر الأمور على الوضع الأول الذي خلقه الله.
والمسلمون يجدون في كل حالة بيان الشرع الجلي الذي يجعلهم على نور من ربهم في كل تصرفاتهم، فإذا ما اضطرهم غيرهم للدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم وعن أرضهم فيجدون في كتاب ربهم وسنة نبيهم النصوص التي توضح لهم كيفية الجهاد في سبيل الله وتحدد معالم قتال النبلاء للدفاع وليس للعدوان.
فصحيح أن القرآن الكريم قال : ﴿ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة : 8] إلا أن قال : ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة :9].
فالإسلام دعا إلى السلام بغير استسلام وبغير ذل وخنوع، وإذا ما واجهت الأمة الاعتداء عليها وجاءها عدوها يحتل الأرض وينتهك العرض ويدنس المقدسات، عندئذ تنشأ حالة الصراع المؤقت الذي يؤمن المؤمن أنه لا يستمر وأن الأمر لابد وأن يعود إلى الاستقرار والسلام، ولكنه رغم كل ذلك يتعامل مع هذا الواقع، ويجد في كتاب ربه من الآيات ما تعلمه كيف يتعامل في هذه المواقف.
يقول ربنا في بداية الإذن للمسلمين بالوقوف في وجه أعدائهم : ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج :39 ، 40].
ثم ينقل ربنا عباده المؤمنين لمرحلة الإعداد للحفاظ على هذه الحرمات التي أراد المفسدون انتهاكها، فيقول سبحانه : ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال :60] .
وينبه ربنا على أن القتال في سبيل لله لا يكون إلا للمعتدين الذين يقتلون الآمنين، وينهانا سبحانه عن الاعتداء في قوله سبحانه : ﴿وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ﴾ [البقرة :190 ، 191].
والنبي صلى الله عليه وسلم : يقول : (المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) [رواه ابن ماجه].
لذا يتبين لنا أن الجهاد في سبيله غايته الفلاح وإنهاء الفساد في الأرض والخروج عن مفهوم القتل الذي جعله الله علامة على خذلان ابن آدم وعقابه إلى مفهوم القتال؛ لرفع العدوان، ورفع الطغيان، وعدم السكوت على إنكار المنكر، وعدم السكوت على الإفساد الخسيس للأرض.
والإسلام يأمر بالعدل في كل حال، يقول تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة :8]، ويقول سبحانه : ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل :90].
فالإسلام لا يقبل بفتنة تعصف بالدين، ولا احتلال يعصف بالدنيا، ولا هذا الهراء الذي يمارسه الصهاينة في فلسطين، ولا الأمريكان في العراق، إننا نؤمن بالله واليوم الآخر ونعلي راية الجهاد على وجهها، ونؤمن الله متم نوره كما أخبر سبحانه : ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ [الصف :8]
هكذا يجد المؤمن في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أساس سنة التكامل وأنها الأصل الذي يدعو العالمين إليه، وإذا ما طرأ الصراع ووقع عليه الظلم يجد كذلك في نصوص الوحي الشريف المنهج القويم لدفع العدوان ورد الظلم وأخذ الحقوق.
إنها الوسطية التي أخبرنا بها ربنا في كتابه، وجعلها سمة هذه الأمة الوارثة لميراث الأنبياء، قال تعالى : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة :143]، هذه الوسطية هوية ذاتية لهذه الأمة ، إذ الجعل الإلهي هو الذي يمد الأشياء بحقائقها وهوياتها ولوازمها الذاتية، و مظاهر الوسطية في الإسلام لا تخطئها عين الباحث المنصف : فعقيدة الإســلام وسط بين إنكار الألوهية وتعدد الآلهة، والعبادة في الإسلام وسط بين الأديان التي تعول على التأمل والتفكر ، وتستبعد الشعائر والعبادات، والأديان التي تلغي كل شيء لحساب العبادة والانقطاع والرهبنة والهروب من الحياة، إن على المسلم أن يعبد الله وهو في قلب الحركة والصراع مع الحياة ، فهو مكلف بشعائر يومية أو سنوية أو مرة واحدة في العمر ، ليكون دائم الصلة بالله تعالى ، ثم هو مكلف بعمارة الأرض والمشي في مناكبها والأكــل مما رزقه الله.
والإسلام وسط في نظرته للإسلام المكون من روح ومن مادة، ومطلوب منه أن يتوازن بين مطالب هذين القطبين ، فلا يجور على أحدهما لحساب الآخر. والإسلام وسط في تشريعاته الضرورية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فحيثما وقعت عيناك على جانب من جوانب الإسلام: عقيدة وشريعة وأخلاقاً، فسوف تجده عدلاً وسطاً بين طرفي الإفراط والتفريط.
: الوسطية تمثل صمام الأمن والأمان في هذا الدين ، ومن ثم فإن الخروج عنها إلى أي من الطرفين المتقابلين يصيب هذا الدين في مقتل ، يستوي في ذلك الخروج إلى طرف التقصير والتفريط ، والخروج إلى طرف الغلو والإفراط ، وضابط الفرق بينهما : أن التفريط نقص عن المطلوب الشرعي ، والإفراط زيادة عنه ، بما يعني أن كل زيادة عن المطلوب الشرعي إفراط أو تشدد وغلو ، وكل نقص عنه تفريط أو تقصير .. والتشدد والتقصير كلاهما قبيح ومذموم ، لأنهما يمثلان خروجاً عن الوسط الذي هو العدل .. والذي يتشدد ويغالي ويحرم الحلال ليس أحسن حالاً ولا أفضل من الذي يتميع ويبتدع ويحل ما حرم الله . كلاهما معتد على حرمة الإسلام ، وكلاهما خارج عن حدوده ومعالمه ، وكلاهما كاذب يزعم لنفسه حق التشريع في الدين بما لم يأذن به الله ، وكل محاولة من هذا القبيل _ إفراطاً أو تفريطاً _ إنما هي في واقع الأمر محاولة لتفريغ حقيقة الإسلام من مضمونها كما أراده الله تعالى لهذه الأمة وكما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته الشريفة.
والوسطية دعوة للاتحاد والقوة ، وهو مقصد أساسي في الدين الإسلامي ، والسبب في ذلك أن الوسطية أمر ميسور للجميع لأنه لا خلاف عليه ويمكن الالتفاف حوله في جميع الظروف والأحوال وأن التنوع في إطار الوسطية أمر مقبول ولا يقدح أبداً في وحدة المسلمين ، بخلاف التشدد فإنه يصعب على كثيرين ، ويفرز اختلافات وانقسامات تبدو معها الأمة الواحدة وكأنها أمتان أو أمم مختلفة ، وهو ما يرفضه الإسلام ويبغضه ويحذر منه أمة الإسلام، قال تعالى : ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران :103]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالجماعة ، لأن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار» [رواه أحمد والترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان ذئب الإنسان ، وإنما يأكل الذب من الغنم القاصية» [رواه أحمد]، ويقول صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين ابعد» [الطبراني في الأوسط]
وما أحسن ما قال ابن القيم في مدح الوسطية : «والأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به؛ فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك» [الفوائد لابن القيم].
وإذا كان عصرنا ينبذ التطرف في الفكر أو في السلوك فإن الإسلام الذي جاء يدعو إلى الوسطية يرفض كل شكل من أشكال السلوك المتطرف، ويدعو إلى هذه الوسطية في كل شيء بلا إفراط أو تفريط.
الصراع والصدام من قيم المجتمعات الغربية، وهو أيضا مكون مهم في العقلية الغربية؛ حيث ينظرون إلى الصراع على أنه الأصل في العلاقات بين المخلوقات، فأصل العلاقة عندهم بين الإنسان والكون، الرجل والمرأة، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والعامل وصاحب العمل، والمؤجر وصاحب الملك هي الصراع.
أما النموذج المعرفي الإسلامي قام على قيمة السلام والاستقرار، واعتمد التكامل –كسنة إلهية- أحد أهم مكونات العقلية الإسلامية، فالمسلم يقر بأن بين المخلوقات اختلافات ومفارقات، ولكنه يرى ذلك التباين والاختلاف للتنوع وليس للتضاد، فالليل والنهار يشكلان يومًا واحدًا، لكل منهما خصائص، والذكر والأنثى لكل منهما خصائص، ولكل منهما وظيفة، والحاكم والمحكم لكل منهما وظيفة، والغني والفقير، وأغلب الثنائيات الخلقية أو القدرية، فالخلقية كالليل والنهار والذكر والأنثى، والقدرية كالحاكم والمحكوم والغني والفقير، سميناها قدرية لنفرقها عن الخلقية، وإن كان فيها سعي للإنسان واختيار وكسب، إلا أنها من فضل الله وقدره أيضا.
وفهم سنة التكامل يجعل أصل الخلق عند المسلم هو التكامل وليس الصراع، ولذلك يفهم العلاقة بين الذكر والأنثى على أنها خلقت للتكامل، بخلاف التوجه الذي يدعو إلى أن الأصل هو الصراع، وأنه يجب على المرأة أن تصارع الرجل لتحصل على حقوقها، وأن المحكوم يجب أن يصارع الحاكم للحصول على حقوقه، وأن الإنسان يجب أن يصارع الكون حتى يحصل منه منفعته، على ما استقر في الفكر الإغريقي من فكرة صراع الآلهة وانتصار الإنسان في النهاية عليها.
وهذا الفهم لسنة التكامل لا ينفي حدوث الصراع أو إمكانية حدوثه ووقوعه، ولكن هناك فرق بين أن نجعله أصلا للخلقة لا يمكن الفرار منه، وبين أن نجعله حالة عارضة يجب أن نسعى لإنهائها حتى تستقر الأمور على الوضع الأول الذي خلقه الله.
والصدام ليس من صالح المسلمين، ولا البشرية في مجملها، والداعين إليه إنما يدعون إلى فساد في الأرض وبعضهم يظنه أو يعتقد جازمًا أنه واقع لا فكاك منه، وأنه يتعامل معه ولا يدعو له، والأمر عندنا غير ذلك، فالصراع أمر موجود ولكنه طارئ عارض، وليس هو أساس العلاقة بين الإنسان والكون، ولا بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل العلاقة هي التكامل، والتعاون والتعارف.
فالغرب يتبنى نظرية صدام الحضارات التي لابد فيها من غالب ومغلوب، أو لابد فيها من استعمار وهيمنة، وأن المكون العقلي لهذا التيار لن يتخلى عن هذا، وهو مخالف لجل الأديان في العالم، والتي ترى أن الأصل هو الوفاق لا الشقاق، وأن الصراع أمر حادث لكنه عارض، لا ندعو إليه في مبادئنا، بل نتعامل معه كحقيقة واقعة وليس كهدف مراد.
والسلام من أسماء الله التي تتبع قسم الجمال، والذي علاقة المسلم معه التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله». فالمسلم لابد أن يسلم نفسه ويزكيها من كل النقائص والعيوب، كما أنه لابد أن يسلم الناس من شروره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [رواه مسلم]. فالتخلق بالسلام مع النفس ومع الأهل والناس أجمعين يحقق مراد الله على أرضه من نشر الحق والعدل والإيمان.
ويعتقد المسلمون أن السلام قضية متكاملة تحيطهم من كل جانب، فهم يؤمنون بأن السلام اسم خالقهم سبحانه وتعالى، قال سبحانه : ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر :23].
ويؤمنون بأن طُرق ربهم وسبله هي طرق السلام وسبله، وأن الله يهدي من اتبع رضاه هذه السبل، قال تعالى : ﴿يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة :16].
ويؤمنون أن الجنة جزاء المؤمنين يوم القيامة هي دار السلام، وموطن السلامة الأبدية من كل خوف وحزن، قال تعالى : ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام :127]. وقال سبحانه : ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس :25].
ويؤمنون أن أعظم ليالي الدهر التي تتنزل فيها الملائكة ويستجاب فيها الدعاء والعبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، هي ليلة سلام حتى نهايتها، قال تعالى : ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر :5].
ويؤمنون أن السلام حالة يحتاجها الإنسان في كل وقت وحين، ويشتد احتياجه لها في وقته مولده ووقت موته، ووقت بعثه، ولذا يحكي القرآن عن الأنبياء ومنهم عيسى عليه السلام أنه قال : ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا﴾ [مريم :33]، وأكد الله أن المؤمن في وقت الاحتضار يحتاج السلام منه سبحانه ومن الصالحين فقال تعالى : ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة :90].
ويؤمنون بأن قول السلام يطمئن المؤمنون ويتبعه رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذا خاطب ربنا نبيه في القرآن، فقال سبحانه : ﴿فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام :54]
ويعتقد المسلمون كذلك أن السلام بشرى المؤمنين عند الوفاة وتحيتهم في الجنة من الملائكة الكرام، قال تعالى : ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل :32]. بل إنهم لا يسمعون في الجنة إلا السلام، قال تعالى : ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًا﴾ [مريم :62]، كما إنهم يعتقدون أن السلام هو تحيتهم عند لقاء السلام سبحانه وتعالى : ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب :44]. وقال تعالى : ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [يونس :10]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد :23]. وقال تعالى : ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [إبراهيم :23]. وقال سبحانه ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر :45].
كما أن السلام هو تحية الأنبياء والملائكة في الحياة الدنيا : ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود :69].
ويعتقد المسلمون أن الصبر على الأذى والدعاء بالسلامة لمن يجهل عليهم هو السلوك القويم، والخلق العالي، يقول سبحانه : ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان :63]، فهم دائما يعفون ويصفحون ويسالمون الناس، اقتداء بنبيهم حيث أمره ربه بذلك فقال تعالى : ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف :89].
كما أنهم يعتقدون أن السلام هي الكلمة الأخيرة التي يختم المسلمون صلاتهم وهم يعتقدون أنهم عندما يختمون الصلاة يواجهون الحياة، فكأنهم يواجهنا أول ما يواجهنا به بالسلام.
والسلام عندهم ضد الحرب، وهناك دعوة صريحة واضحة في القرآن الكريم في شأن أولئك الذين يعتدون على الناس وعلى المسلمين يقول فيها القرآن الكريم ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنفال :61]. وهناك دعوة صريحة في القرآن الكريم يقول فيها الله سبحانه وتعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة :208] وهي آية تدل على أن السلام من الرحمن وأن ضده من الشيطان.
واليهود يحسدوننا على السلام كلمة نفشيها فيما بيننا وفيما بيننا وبين العالمين، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ السَّامُ يا محمد فقال : النبي صلى الله عليه وسلم وعليك. فقالت عائشة : فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فسكت. ثم دخل آخر فقال: السام عليك. فقال : وعليك. فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ثم دخل الثالث فقال : السام عليك. فلم أصبر حتى قلت : وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش قالوا قولا فرددنا عليهم إن اليهود قوم حسد وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين ». [رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي واللفظ لابن خزيمة].
فالسلام في الإسلام قضية عقائدية سلوكية تعبدية تحيط بالمسلمين في كل حياتهم، ومما يشاع عن الإسلام بغرض الإساءة إليه في هذه الأيام أنه دين إرهاب أو قتل، ويحاولون جاهدين أن يلصقوا الأعمال الإجرامية بتعاليم ذلك الدين السمح.
ذلك على الرغم من أن الإسلام نظر إلى الآخر (أو لغير المسلم) منذ نشأته الأولى نظرة تكامل وتعاون، وكيف لا وكان الآخر في أول الدعوة الإسلامية هو مجموع البشر إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لدين لا يقوم على التسامح والتعاون ينتشر هذا الانتشار الرهيب الملحوظ في سنوات معدودة بين العرب ويستمر عبر القرون، ويقود الإنسانية بأسرها قروناً عدة إلى فضائل الأخلاق وتعمير الأرض ؟
وقد وضع الإسلام قواعد واضحة للعائلة البشرية؛ حيث أعلن أن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، مما يعني وحدة الأصل الإنساني، فقد قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا ًً﴾ [النساء : 1]، والناس جميعاً في نظر الإسلام هم أبناء تلك العائلة الإنسانية، وكلهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، فالإنسان مكرم في نظر القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه، أو لونه، أو جنسه، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ﴾ [الإسراء :70].
ودستور الإسلام في التعامل مع غير المسلمين يتلخص في قوله تعالى : ﴿ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة : 8] ، فالآية واضحة في أننا نحن المسلمين عندما لا يريد الآخرون أن ينضموا إلى مدرسة الإسلام، فعلينا صلتهم، والعدل معهم، ومعاملتهم المعاملة الطيبة، بناءً على مبدأ الاحترام المتبادل، والعلاقات الإنسانية والمصالح المشتركة.
وفي السنة كانت كذلك دعوة الإسلام للسلام صريحة فعن عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاثة من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم» [رواه الطبراني في الكبير، وذكره البخاري تعليقا].
وما شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف، ويكفي في الرد على هذه الحالة من الافتراء، ما أمر الله به من العدل والإنصاف، وعدم خلط الأوراق، والبحث عن الحقيقة كما هي، وعدم الافتراء على الآخرين، حيث قال سبحانه في كتابه العزيز (لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) [آل عمران :71].
ومقارنة بما ذكر من وحشية في الحروب، وسفك الدماء وخراب ودمار للبلاد والعباد من حروب المعتدين، نجد أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نظيفة من هذه التهم بل إن تحركاته العسكرية التي بلغت نحو ثمانين غزوة وسارية كانت كلها بسبب دفع الظلم ورد العدوان، فلم يحدث القتال الفعلي في كل هذه التحركات سوى في سبع مواقع فقط في سيرته صلى الله عليه وسلم أثناء نشره للدعوة الإسلامية.
وسوف تجد نتائج مذهلة في هذه المواقع منها : إن المحاربين كانوا كلهم من قبائل مضر أولاد عمه صلى الله عليه وسلم ولم يقاتله أحد من ربيعة ولا قحطان، وأن عدد القتلى من المسلمين في كل المعارك 139 ومن المشركين 112 ومجموعهم 251 وهو عدد القتلى من حوادث السيارات في مدينة متوسطة الحجم في عام واحد، وبذلك يكون عدد القتلى في كل تحرك من تلك الثمانين 3.5 شخص وهذا أمر مضحك مع ما جبل عليه العرب من قوة الشكيمة والعناد في الحرب أن يكون ذلك سبب لدخولهم الإسلام وتغير دينهم. (يتبع)
تكلمنا عن مفهوم الوحي مقالات سابقة، وعن الإيمان بالكتب السماوية والرسل، وفي هذه المرة نتأمل في حال المسلمين لنبرز العلاقة بين ترك الوحي وترك الآخرة.
إذا كان معنا العهد الأخير من الله، وإذا كنا نؤمن بجميع الديانات السماوية التي سبقتنا ونؤمن برسل الله أجمعين فما الذي حدث ؟
قال سبحانه ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾([1]). وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾([2])، وقال عز وجل : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾([3]).
فأراد الله أن يكون الدين الإسلامي هو الدين الخاتم شريعة، كما كان هو الدين الوحيد عقيدة، بالإضافة إلى اشتراك الدين الإسلامي في أصول العبادات والأوامر والنواهي مع جميع الشرائع السابقة له؛ فكل الكبائر التي حرمها الله في الأديان السابقة حرمها في الإسلام كقتل النفس، والزنا، وشهادة الزور ..... وكذلك أصول الشرائع والعبادات التي أمر بها في الأديان السابقة كالصلاة والزكاة أمر بها في الإسلام؛ وإنما كيفية الصلاة ومقدار الزكاة هو الذي يختلف باختلاف الشرائع.
فالإسلام هو الدين الذي اجتمعت فيه عقيدة الإسلام وشريعته، وأصول جميع الشرائع السابقة؛ ولذلك خاطب الله هذه الأمة بأنه أكمل لها الدين وأتم عليها النعمة ورضي لها الإسلام دينا، فدل ذلك على أن دين الإسلام هو دين هذه الأمة، كما أنه هو دين الأنبياء والرسل أجمعين عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾([4]). وقال عز وجل : ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾([5]). قال سبحانه: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾([6]). وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾([7]) وقال سبحانه حكاية عن بلقيس ملكة سبأ : ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([8]).
ففساد المسلمين فساد للأرض، وصلاحهم صلاح للأرض، وذلك لأن الإسلام هو خاتم الأديان، وسيدنا محمد ﷺ هو خاتم النبيين، وتلك الأمة التي آمنت بكل الأنبياء وبنبيها الخاتم هي آخر الأمم. فحملها الله مهمة الدعوة ونشر كلمته الأخيرة لجميع البشر، وحملها مهمة الإصلاح وإعمار الكون، يقول الله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾([9]). وقال سبحانه : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾([10]).
فأمة الإسلام هي الأمة الشاهدة، وهي الأمة التي تحملت تكاليف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فسد المسلمون وتركوا ما كلفهم الله به من مهام لإصلاح الأرض فسدت الأرض، ولقد فطن المسلمون الأوائل لهذه المهمة، وكانت تلك الصورة واضحة عندما بينها ربعي بن عامر t بكلمات قلائل حينما سأله رستم قائد الفرس : ما أنتم ؟ فأجابه بقوله : « نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام »([11]).
فترتب على المسئولية التي تحملها المسلمون والنور الذي منحه الله إياهم، تحديد وظيفتهم على الأرض، وهي إنقاذ البشرية، ونقلها إلى طريق الله وإخراجها من الظلمات إلى النور، فإذا ترك المسلمون وظيفتهم وفسدوا والعياذ بالله، فسد العالم تبعًا لهم؛ وذلك لأن معهم النور الذي سيضيء الطريق للناس، فإذا أظلموا وانطفأ النور الذي معهم فمن يضيء الطريق بعدهم، ولكن الله متم نوره، قال تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾([12]).
أين أمة الإسلام ؟ كان ينبغي أن نكون في أعلى قمة الهرم، فهي تمتلك الكنز الذي لا تنتهي عجائبه ولا يخلق عن ثرة الرد، ونحاول أن نتأمل في واقعة أيام عزة المسلمين وتفوقهم لنعلم مدى ابتعادنا عن مصدر عزتنا.
إنها واقعة «صاحب الحق» وصاحب الحق رجل لا نعرف اسمه، كان في إحدى المعارك مع الفرس، وقد رعف أن الغلول [وهي سرقة شيء من الغنائم] حرام، وأن كل ما وجد من مال فعليه أن يسلمه إلى القائد، وكان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وجاء الرجل وسلم علبة، هذه العلبة كانت فيها جوهرة التاج، وهي أعلى جوهرة في الأرض، تاج كسرى، وما أدراك ما كسرى حينئذ ؟ إيوان كسرى كان طوله أكثر من ثمانمائة متر، تدخل من أوله فتأخذك الهيبة، حتى إذا وصلت إلى عرشه سجد له المعظمون له، فمالكم بتاجه الذي على رأسه وجوهرته ؟
سلم الرجل الجوهرة إلى خيمة القائد، فتح سعد هذه العلبة فوجد فيها تلك الجوهرة النفيسة، وتعجب أن يكون أحد من البشر يرى هذا ولا يخفيه، فأمر بإحضار الرجل، فجاء الرجل وهو يقبض على ثيابه بيديه، وتعجب سعد المفترض أن يدخل فيسلم أو يصافح القائد، لكن الرجل كان منشغلا بثيابه البالية عن مصافحة سعد، فقال له سعد : أبيدك شيء ؟ قال : لا، إنما أنا أستر عورتي، يخاف أن يترك ثيابه حتى لا تظهر عورته.
فلماذا سلم هذا الرجل الفقير تلك الجوهرة الثمينة ؟ لأنه كان يتذكر الله رب العالمين، ويعلم أن فعله إنما هو جهاد في سبيله لا من أجل دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، ولا أرض يضمها إلى أرضه، ولا سلطان يتوخاه ويبتغيه، إنما هو الجهاد في سبيل الله، الذي عرف أنه ليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت.
به وبإخوانه النبلاء فتحت الأرض على مراد الله؛ لأنهم أخرجوا الدنيا من قلوبهم، فما الذي حدث في زماننا ؟
حدث أمران : الأول : أننا قد تركنا الوحي. والثاني : أننا قد تركنا الآخرة.
وبتركنا للوحي والآخرة دخلنا في متاهة لا نعرف كيف نبدأ ولا كيف نسلك، ولا نعرف كيف نقوم الأفكار، ولا كيف ننتقد النظم، ولا كيف ننشئ المناهج، ولا كيف نربي أبنائنا، ولا كيف نتفاوض مع عدونا، ولا كيف نسيطر على حالنا، ولا نعرف شيئا مطلقا.
هل نحج أعداء أمتنا في جذبنا من الإيمان بالوحي إلى شهوات الدنيا التي ملأت القلوب، فهل نحن فعلا بدأنا بترك الوحي وما تضمنه وتركنا الآخرة ما دعا الله إليه فيها ؟ هل أصبحنا كفقراء اليهود فقدوا الدنيا والآخرة هل صدق فينا قوله تعالى : ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾ [الإسراء :45] ؟ هل نحن كمن قال الله فيهم : ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء :46] ؟
يبدو أننا في عزلة تامة عن القرآن الكريم نسمع أصواتا ولا ندرك أحكاما، نسمع التلاوة ولكننا لم نجعلها هداية نهتدي بها، لم نجعله منهج حياة، لم نبدء في بناء حضاراتنا من ذلك المنطلق البديع.
العقلية القائمة عند أعداءنا يعلمها الله، والرؤية الكلية للكون والإنسان والحياة وما قبل ذلك وما بعده يعلمها الله يقول تعالى : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ [الإسراء :47] فقوله [نحن أعلم بما يستمعون به] ولم يقل يستمعون إليه، إن هناك شيئا يستمعون من خلاله للقرآن، هو أن القرآن من عند محمد، وأنه صناعة بشرية، وأننا لا ينبغي أن نلتفت إليه ولا نقف عنده كثيرا، ولا نستهديه ولا نجعله دستور حياة.
هل صدر أعداءنا لنا تلك الرؤية فأصبحنا إذا صدقنا القرآن صدقناه على أنه إيمانا جملية لا يتحكم في مورد ولا يتحكم في مصدر ؟ يبدو ذلك. فانظر إلى قوله تعالى : ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ [الإسراء :47 : 51]
إن الربط بين ترك الوحي وترك الآخرة إعجاز، فهذا الذي شهد به التاريخ الإسلامي، بدأ الناس بنسيان الآخرة، وصدقوها تصديقا باهتا، ثم بعد ذلك انحلوا من عقدة الوحي، وصدقوه تصديقا جمليا، ولم يجعلوا الآخرة هي الأساس وهي الحيوان [أي الحياتين] لم يجعلوها كذلك، بل جعلوها شيئا عابرا، والأمر ليس كذلك إذا استحضرت الآخرة ومعناها وما ذكره الله عنها في كتابه الكريم لا يمكن أن تقع في معصيته سبحانه، ولا يمكن أن يمتلئ قلبك إلا همة وإقبالا على الله، ولقد مهد نسيان الآخر الطريق لنسيان الوحي.
فلا سبيل لنا إلا الرجوع للإيمان بالآخرة وتذكرها دائما، والإيمان بالوحي وجعله منهجا للحياة ومعيارا للتقويم في كل شئون حياتنا ذلك قبل أن نتشابه مع الذين ذكرهم الله في كتابه فقال : ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان :27 : 31].
لا سبيل لنا إلا أن نحي الإيمان في قلوبنا، ولا تتحول العقائد إلى مفاهيم قائمة في الذهن، بل نريد أن تكون منطلقا للعمل، نريد أن يعيش المسلمون مستحضرين ربهم في حياتهم، منكشفة لهم الحقائق على وجهها، من كون هذه الحياة الدنية فانية، وأن أمر الله فينا هو العبادة والعمارة والتزكية، فلابد أن نعبد الله وأن نعمر الأرض، وأن نزكي النفس، ولا كذلك أن ندعو الناس إلى رب العالمين، ولا بد أن ندرك أن الله قد حل لنا حدودا وأمرنا بأوامر ونهانا عن نواه ينبغي أن نتقيد بها.
إذا تمكنا من ذلك جمع الله لنا سعادة الدارين وانتهى الفساد المستشري في أوساط الناس، نسأل الله السلامة والنجاة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عرف الإسلام المعاهدات السلمية في السنوات الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة ، إذ عقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقيات سلمية مع الجماعات غير الإسلامية. وقد اعتبرت معاهدة الحديبية قدوة ومثالاً لدى الخلفاء والفقهاء عند عقد الاتفاقيات ، وإجراء المفاوضات ، ومدة المعاهدات السلمية مع غير المسلمين .
عقدت معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة ، قريش ، في عام (6 هـ /627 م) ، وكانت مواد المعاهدة تتضمن ضماناً من كلا الطرفين بعدم مهاجمة الطرف الآخر . فرسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجة إليه ، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعاً عنيفاً وحروباً ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين .
وكان الرسول ﷺ قد عقد معاهدات أخرى مع اليهود والمسيحيين ، سواء المقيمين داخل الجزيرة العربية أو خارجها ، وخارج حدود دولة المدينة . فقد عقد ﷺ اتفاقية سلمية مع نصارى نجران عام (10 هـ/ 631م) ، ومع يهود فدك وأيْلة وتيماء ([1]) ، ومع بني صخر من كنانة([2]) .
وكانت تلك الاتفاقيات تضمن لهم حكماً إدارياً ذاتياً واستقلالا عن دولة المدينة . لقد كان بإمكانهم الاستمرار بتطبيق قوانينهم على أراضيهم . ولم تكن الجزية إلزامية في كل الاتفاقيات والمعاهدات مع أهل الكتاب ، ففي معاهدة المدينة بين الرسول ﷺ ويهود المدينة وأطرافها ، وهي أول معاهدة سلمية للدولة الإسلامية ، لم تتضمن دفع جزية ، بل يمكن اعتبارها «معاهدة صداقة» ، وبروتوكولاً ينظم العلاقة والصلاحيات والامتيازات الممنوحة لليهود داخل الدولة الإسلامية . وكان من شأنها ترسيخ الأمن والسلام ، إذ لم يسبقها عداء أو حرب مع اليهود ، لولا نكث اليهود لها فيما بعد ([3]).
كما أن المعاهدة التي عقدها الرسول ﷺ مع بني ضمرة، لم تتضمن دفع جزية ، بل اقتصرت على نصرة الطرفين أحدهما للآخر ، وعدم مهاجمته([4])، وعقدت نفس المعاهدة مع بني غِفار ، وبالشروط نفسها([5]).
أما العلاقات السلمية مع الحبشة ، الدولة المسيحية ، فقد استمرت قروناً دون معاهدة مكتوبة . ففي العهد المبكر للإسلام ، هاجر إلى الحبشة حوالي 80 صحابياً هرباً من تعذيب قريش لهم، وبحثاً عن ملجأ آمن ، حيث أمضوا هناك سنوات . فكان موقف المسلمين هو الشكر والعرفان بالجميل ، حتى إنهم اعتبروا الحبشة مصونة عن الجهاد والفتوحات العسكرية ، فلم يتعرضوا لها ، حتى في أوج قوة الدولة الإسلامية في العصر العباسي، ويعود ذلك إلى موقف الطرفين السلمي ، ففي حين امتنع المسلمون عن مهاجمة الحبشة استجابة لحديث ينسب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مضمونه : " لا تهاجموا الحبشة ما دامت لم تهاجمكم ".
من ناحية أخرى ، اعتمدت الحبشة سياسة سلمية ، فلم تفكر بمهاجمة الدولة الإسلامية ، رغم أنها لديها خبرة في ذلك ، إذ كانت تحتل اليمن لقرون طويلة قبل الإسلام ، وأسست فيها حكومة حبشية مسيحية . وحاول أبرهة الحبشي مهاجمة مكة عام 570 م، سعياً لهدم الكعبة المقدسة . وبقيت تلك الحادثة التاريخية ماثلة في أذهان العرب، حتى سمي ذلك العام بعام الفيل.
وقد عقد الخلفاء المسلمون بعد النبي ﷺ معاهدات سلمية رغم أن القوة التي كان يتمتع بها المسلمون وقتها تسمح لهم باستمرار القتال . فقد عقد حاكم مصر ، عبدالله بن سعد بن أبى سرح ، في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، معاهدة سلمية مع أهل النوبة (السودان) تضمنت إقرار السلم بعد معركة طاحنة «فسألوه الصلح والموادعة ، فأجابهم إلى ذلك على غير جزية ، لكن على هدية ثلاثمائة رأس في كل سنة ، وعلى أن يهدي المسلمون إليهم طعاماً بقدر ذلك([6]).
وبقيت تلك المعاهدة سارية المفعول ، يحترمها الطرفان ، لمدة 600 عام ، حتى وصول الحكم الفاطمي في مصر (969 ـ 1172 م). فإذا كان سبب قبولها عجز المسلمين عن فتح بلاد النوبة ، فإن استمرارها رغم وصول المسلمين إلى درجة القوة أكبر دليل على اعتقادهم بمشروعيتها ، وعلى أن السلام يمكن أن يقع بين المسلمين والكافرين بدون اشتراط الجزية، إذا التزم الكافرون بعدم الإعانة ضد المسلمين وبعدم التعرض للدعوة الإسلامية([7]).
وفي عام (28 هـ/ 648 م) عقد المسلمون معاهدة سلمية مع سكان جزيرة قبرص ، والذين لم يدفعوا الجزية ، ولم يعتبروا من أهل الذمة . فكانوا يؤدون خراجاً قدره 7200 دينار سنوياً ، ثم نقضوا العهد لمساعدتهم الروم ضد المسلمين ، فغزاهم معاوية عام (33 هـ/ 654 م) ففتح الجزيرة وأقرهم على الشروط السابقة . ولما تولى عبد الملك بن صالح ولاية قبرص ، قام بعض أهلها بالثورة عليه ، فاستشار عبد الملك الفقهاء في شأن إلغاء معاهدتهم لنكثهم العهد ، فأشار عليه أكثر الفقهاء ـ ومنهم الإمام مالك ـ بالإبقاء على العهد والكف عنهم . وعلل موسى بن عيين ذلك بأن أهل قبرص ليسوا أهل ذمة رغم أنهم كانوا يدفعون خراجاً إلى المسلمين . وهكذا بقيت قبرص على شروط الصلح رغم نقضها العهد ، ولم يلتزم أهلها بعقد الذمة وبدفع الجزية لمصلحة قدرها المسلمون ([8]).
وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، عقد المسلمون معاهدة صلح مع الجراجمة ، وهم قوم غير مسلمين ، كانوا يسكنون جبل اللكام على الحدود بين بيزنطة والدولة الإسلامية . وكانوا يعيشون شبه مستقلين ، مع استعداد مسبق لخدمة الإمبراطورية البيزنطية . وقد نصت الاتفاقية المعقودة معهم «على أن يكونوا أعواناً للمسلمين ، وعيوناً (جواسيس) ومسالح (دوريات عسكرية) في جبل اللكام . وأن لا يؤخذوا بالجزية (لا يدفعوا الجزية) ، وأن ينفلوا (يُعطوا) أسلاب (غنائم) من يقتلون من عدو المسلمين ، إذا حضروا معهم حرباً في مغازيهم»([9]).
لقد كان الجراجمة يمثلون خطراً جدياً دفع الخليفة الأموي الأول معاوية إلى دفع مقابل لهم لتفادي شرهم([10]).وفي سنة (59 هـ/ 679 م) ، خسر معاوية معركة بحرية مع الروم البيزنطيين ، اضطر بعدها للتصالح مع بيزنطة، ودفع مبلغ 3 آلاف قطعة ذهبية سنوياً مع خمسين عبداً وخمسين جواداً([11]).
وفي العصر العباسي عقد المسلمون العديد من المعاهدات السلمية مع الدول المسيحية مثل بيزنطة وفرنسا وروما. وكانت عواصم تلك الإمبراطوريات تشهد حضوراً متواصلاً للمبعوثين والسفراء المسلمين ، كما استقبلت الحواضر الإسلامية كقرطبة والقاهرة وبغداد سفارات مسيحية مماثلة . وقد وصلت العلاقات السلمية مع أوروبا ، أحياناً ، إلى درجة عقد أحلاف سياسية ـ عسكرية مع الأباطرة المسيحيين . ففي عام 197هـ/ 812م ، وقع الخليفة الأموي في إسبانيا ، الحاكم ، اتفاقية مع شارلمان ملك فرنسا . وكان للأخير علاقات وثيقة مع هارون الرشيد.
وأحد أهم أسباب نجاح المسلمين في علاقتهم الدولية هو الوفاء بالعهود؛ شدد الإسلام على وجوب الوفاء بالعهد، وعده من أسباب القوة لأنه من أسباب الثقة وقوة التعارف، قال الله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾([12]). ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾([13]). ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ﴾([14]). ﴿ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ ([15]).
﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾([16]). ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ﴾([17]). ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾([18]).
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالعهود عامة، وعلى الوفاء بالعهود التي يعقدها رؤساء الأمم في تنظيم العلاقات الدولية خاصة، قال عليه السلام : " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"([19]).
وقد كان بينه وبين المشركين عهد، فوفى به، فذكر له بعض المسلمين أنهم على نية الغدر به، فقال عليه السلام : "وفوا لهم، ونستعين بالله عليهم" ، وكان ينهى عن الغدر بمقدار حثه على الوفاء، وكان يعتبر أعظم الغدر غدر الحكام، يقول عليه الصلاة والسلام: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة"([20]).
وإذا كانت المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء، فإن الإسلام حث على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذاً في أسباب الضعف.
وهكذا يكون الإسلام قد وثق أصول القانون الدولي العام الإسلامي أحكم توثيق، وبناها على الوجدان الديني للدولة الإسلامية؛ حيث لا يكون الوفاء للأقوياء، فقط، بل يكون هذا الوفاء للأقوياء والضعفاء على السواء.
ولا نعلم ديناً ولا تشريعاً، قد رفع من شأن «العهد» إلى هذا المستوى من القداسة، وقد كان لقاعدة «حرمة المعاهدات وقدسيتها في السلم والحرب» أثرها في العمل على استقرار السلم والأمن الدوليين، من جهة، وعلى تأصيل روح الثقة فيمن يتعامل سياسياً مع الدولة الإسلامية، على الصعيد الدولي من جهة أخرى، مما يعتبر بحق من أهم خصائص سياسة الإسلام الخارجية العادلة.
([1]) حميد الله ،State", p. 266 of Conduct "Muslim.
([2]) سيد قطب ، «في ظلال القرآن» / ج 10 / ص 123.
([3]) ورغم أن الكتابات والدراسات تعتبرها مثالاً على الاتفاقيات الخارجية ، إلا أنها ليست كذلك، لأن اليهود لم يكونوا طرفاً دولياً بل هم مواطنون تابعون للدولة الإسلامية.
([4]) علي بن حسين علي الأحمدي ، «مكاتيب الرسول» / ص 385.
([5]) علي بن حسين علي الأحمدي ، «مكاتيب الرسول» / ص 353.
([6]) أبو الحسن البلاذري ، «فتوح البلدان» / ص 238.
([7]) فيصل المولوي ، «الأسس الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين» / ص 86.
([8]) فيصل المولوي / مصدر سابق / ص 86 87 .
([9]) البلاذري ، «فتوح البلدان» / ص 164.
([10]) طلعت الغنيمي ،p. 44 Law", International of Conception "The Muslim.
([11]) طلعت الغنيمي ،p. 44 Law", International of Conception "The Muslim.
([12]) سورة النحل الآيتان : 91 ، 92.
([13]) سورة المائدة الآية : 1.
([14]) سورة الإسراء الآية : 3.
([18]) سورة البقرة الآية : 177.
([19]) رواه أحمد في مسنده، ج 3 ص 135، وابن حبان في صحيحه ج 13 ص 139، والبيهقي في سننه ج4 ص97، والطبراني في الأوسط ج 2 ص 383.
([20]) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه ج 3 ص 1164، ومسلم في صحيحه ج 3 ص 136.
نعيش في عصر غريب عجيب، فقد الناس فيه المعيار والمقياس الذي يقاس به الحق، ويقاس به الباطل، والذي ينكر به المنكر، ويُرد به الخطأ، وخيمت علينا حالة من التيه والتغبيش، فنسينا أن مردنا هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسينا أن في هذا الكتاب حكم ما بيننا، نسينا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف كتاب الله، حيث قال : إنها ستكون فتنة، قال : قلت فما المخرج ؟ قال : كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهدى (أو قال العلم) من غيره أضله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي تناهى الجن إذ سمعته حتى قالوا : (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعى إليه هدي إلى صرط مستقيم) [رواه البيهقي في الشعب].
ونحن نرى في القرآن دساتير كثيرة تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بوضع المبادئ والأسس لهذه المناحي من مناحي الحياة، ولكنها لا تدخل في التفاصيل الجزئية، لمرونتها وهي التي في هذا المقام يمكن أن نسميها (نسبية جزئية) أي أنها ليست نسبية مطلقة تصل إلى حد اختلاف التضاد، بل هي نسبية جزئية، تشتمل على اختلاف التنوع الذي نقدر معه على تحصيل تلك المرونة.
ولذا أمر الله رسوله أن يحكم بين الناس بكتابه فقال تعالى : ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة :49].
بل عد ربنا الانحراف عن منهجه والاحتكام لمبادئ ما أنزل الله بها من سلطان جهل وجاهلية، فقال تعالى : ﴿أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة :50].
فربنا يحذرنا من أن نأخذ ديننا من غيرنا، وإن الفتوى التي تصدر من العلماء لا بد وأن يكون لها بيئة، ولا بد وأن تكون بينة، وأن يراعى فيها المبادئ القرآنية والسنن الإلهية والنموذج المعرفي للمسلمين، فلا ينبغي للعالم أن يتأثر بمناهج الغرب ومبادئهم، وإن كان لا بد عليه أن يطلع على تلك المبادئ ويعرفها ويراعيها، ولكن لا يتأثر بها ويجعلها منطلقا له أو إطارا مرجعيا.
وابتعاد المسلمين عن منهج ربهم يؤكد ضياع المقياس من أيديهم فذهبوا شذر مذر، وتفرقوا ، وفي تلك الآيات المتتابعة التي ترشدنا لمتابعة حكم الله ومنهجه المعاني العظيمة، فذكرنا قوله تعالى : ﴿أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة :50] أن المسألة تحتاج إلى يقين وإذا اختل اليقين تحول إلى ظن، واختل الإيمان بالله وموعوده، والله جعل الجنة لمن صدق بموعوده، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة».
ومنيحة العنز هي أن تعطي جارك عنزتك يحلبها يوما أو يومين ثم يردها بحالها إليك فلا تتكلف شيئا، فما بالك بأدنى تلك الخصال إن كانت هذه أعلاها، عمل قليل مع صدق في التوجه ويقين بالوعد والموعود يدخل المسلم جنة ربه بسلام، هكذا أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ثم يحذرنا ربنا في الآية التالية عن موالاة أعدائه، ويشتد التحذير بأنه سبحانه أخبرنا أن جزاء تلك الموالاة يجعلنا مثلهم، بل منهم عند ربنا، فيقول تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة :51] في مفاصلة واضحة وحكم مبين، بل يشتد الوعيد بعد هؤلاء الواقعين في موالاة أعداء الله سبحانه وتعالى من الظالمين الذين لا يهديهم الله.
وعنوان هؤلاء الظالمين -الذين في قلوبهم مرض- عبر التاريخ هو «نخشى أن تصيبنا دائرة» يقول تعالى : ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة :52] فهؤلاء يخشون الناس ولا يخشون ربهم، يقول تعالى : ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء :77].
والصالحون يخشون ربهم، ولا يخشون أحدا إلا الله، يقول تعالى : ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب :39]، والله يطلب منا ألا نخشى أحدا غيره، ويطمئن قلوبنا لذلك فيقول تعالى : ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة :3].
ثم يبين لنا عاقبة من يترك دين الإسلام، ويوالي أعداء الله، بأن الله يستبدلهم، ولا يضرونه شيئا، ويصف لنا صفات من يخلفهم فيؤكد لنا أن من بين صفاتهم أنهم رحماء بينهم، أشداء على الأعداء في وقت البأس ووقت احتدام المعارك إذ الشدة ممدوحة حينئذ، ويبين أنهم لا يخافون كالذين يخشون على أنفسهم من الدوائر، فيقول تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة :54]
إن متابع القنوات الفضائية، وقارئ الصحف والمجلات، ومن يراقب حركة الناس ومشاكلهم يتأكد أننا نعيش في فوضى عارمة، فيرى ذاك يعترض على الدين باسم الدين، ويحلل الحرام، ويحرم الحلال باسم الدين، ويرى الفتاوى التي تنطلق من الجهل والسطحية.
ولا سبب لذلك كله إلا غياب النخبة والحكماء الذين يضبطون الأمور، الذين يتخصصون في شتى المجالات فيخلصون لله في تخصصاتهم ويتعاملون مع شئونهم بمهنية عالية وحياد علمي، فمفهوم النخبة مستقر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومستقر كذلك عند العقلاء، ولكنه يتعرض من بعض تيارات ما بعد الحداثة في العصر الحاضر لكثير من الرفض، ومحاولات ضخمة لتحطيمه واقتلاعه من فكر الناس وواقعهم.
وهذا التيار لا يعتمد على تجربة بشرية مستقرة، ويدعونا إلى شيء جديد لا نعرف ملامحه ولا إلى أي طريق يقودنا إليه، وما النتائج أو المصائب التي ستترتب عليه، وذلك أنه مخالف لسنة الله في كونه، من أنه سبحانه فضل بعض الأزمان على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأشخاص على بعض، وفضل بعض الأحوال على بعض، وجعل من هذا التباين سببًا لدفع الناس، وتعارفهم، ولعمارة الأرض، ولحراكهم عبر حركة التاريخ.
فهم يدعون إلى الشعبية والقضاء على النخبة، فهم يريدونها فوضى مدمرة لا تصلح أمر الناس أبدا، وكأننا في ذلك الواقع الذي يحكيه الأفوه الأودي في قصيدته؛ حيث يقول
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُمْ ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا
إذا تَوَلَّى سَراةُ القومِ أَمْرَهُـــمُ نَما على ذاك أَمْرُ القومِ فازْدادُوا
فتوجيه القرآن والسنة وحكمة الشعر تحكي واقعًا معيشًا لا فكاك منه، وطاعة هذه الأمور هي نوع من الحكمة قال تعالى : (يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [البقرة :269]، وبدون ذلك يضيع الرشد والرشاد، ويصدق قول الأفوه الأودي في نفس القصيدة؛ حيث يقول :
كيفَ الرشادُ إذا ما كنتَ في نَفَرٍ لهُمْ عنِ الرُّشْدِ أَغْلالٌ وأَقْيادُ ؟
ولعل من أسباب فقد المقياس انعدام الحياء الذي يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط.
ولعل من أسباب تلك الفوضى التي تفشت كذلك تطبيق الرؤية السلبية والمرفوضة للحرية التي ترى أن الحرية هي التحرر من القيود والضوابط جميعها، بحيث يستطيع أن يفعل الإنسان كل ما يريد، وهو الأمر الذي يحول الاجتماع البشري إلى حالة من الشتات والضياع، لا يمكن تصورها فضلا عن قبولها.
أما الرؤية الإيجابية، والمفهوم الصحيح للحرية يرى أن الحرية تعني استقلال الإرادة والحرية في التعبير بما يتلائم مع الاجتماع البشري، والالتزام بالضوابط التي يتفق عليها جماعة البشر كالضوابط الدينية والأخلاقية، والعرفية التي يتصالح عليها المجتمع، والحرية بهذا المنظور توجه على أنها الوجه الآخر من المسئولية، فقبل أن يعلم الإنسان أنه يتمتع بالحرية، يعلم أنه مسئول عن تلك الحرية وتلك الاختيارات والأقوال والأفعال أمام المجتمع البشري الذي يعيش به.
وبذلك يتبين لنا أن تقييد حرية الفرد من مقتضيات قيام المجتمع الإنساني، خاصة مع تشابك المصالح واختلاف الأهواء، وتظل الحرية معنى نسبيًا يتفاوت بتفاوت الزاوية التي ينظر منها إليها حتى لو تحدد نطاقها، وأعطيت وصفا معينا (سياسيا أو اقتصاديا أو دينيا .. إلخ)، فقد يكون المقصود الحرية من قيد معين بالمعنى السياسي أو الحرية بقصد تحقيق غرض معين بالمعنى الاجتماعي.
وبهذا المعنى كانت حرية التعبير عند فقهاء المسلمين حرية ملتزمة لا يجوز العدوان على مقدسات الآخرين حتى لو عبدوا الوثن، قال تعالى : (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام :108]. وقال تعالى في صفات عباد الرحمن : (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [الفرقان :63]. وقال تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة :83].
لذا ترى المسلمين وعقلاء الأرض استنكروا ما فعلته تلك الصحيفة الدنماركية من إساءة لسيد الأكوان رحمة الله للعالمين، فهم احترموا عباد البقر، والأحجار، وتركوا أذيتهم في معتقداتهم ومقدساتهم، فإذ بعباد البشر يتسافلون على مقدسات الموحدين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم قالوا : ربنا الله، فحسبنا الله ونعم الوكيل، سيغنينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى ربنا منقلبون.
فبهجر القرآن، وضياع الحياء، وسواد المفهوم السلبي للحرية، والقضاء على النخبة عمت الفوضى، وتشتت الناس، وفسد الأمر، ولن ينصلح مرة أخرى إلا بالعودة إلى كتاب القرآن والتخلق بالحياء، والمحافظة على النخب في كل المجالات، وتطبيق المفهوم الإيجابي للحرية.
نسأل الله أن يصلحنا ويصلح بنا، ويجعلنا سببا للصلح والإصلاح في الأرض، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لا شك أن الوفاء بالعهد قيمة إنسانية وأخلاقية ممدوحة، وهو من صفات الله سبحانه وتعالى، والوفاء بالعهد في حق الله من باب التفضل علينا والرحمة بنا، إذ لا يسأل عما يفعل، ولا يفرض أحد عليه شيئا، وإنما أراد الله أن يؤكد لنا رحمته بنا، فأخبرنا أنه يوفي بعهده الذي وعدنا به، فقال تعالى : ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء :122]، وقال سبحانه : ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ [البقرة :80]، وقال سبحانه وتعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًا فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [التوبة :111].
وقد ذم ربنا من ينقض العهود فقال تعالى : ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ [البقرة :27]، وقال تعالى : ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنفال :55، 56]. وقال تعالى : ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف :102]
وامتدح الله من لا ينقض العهد والذين يوفون به، فقال سبحانه : ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ﴾ [الرعد :20]، وقال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون :8]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة :177].
فما هو العهد ؟ وما هو العقد ؟ وما هي البيعة ؟ وما هو الوعد ؟ العهد في اللغة : الوصية، يقال : عهد إليه إذا أوصاه، والعهد : الأمان والموثق والذمة واليمين، وكل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد، والعهد : العلم، يقال : هو قريب العهد بكذا أي قريب العلم به، وعهدي بك مساعدا للضعفاء : أني أعلم ذلك.
والعهد يكون بمعنى الأمر، ومعنى اليمين، قال أبو بكر الجصاص : « العهد ينصرف على وجوه : فمنها الأمر ، قال الله تعالى : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } وقال : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم } والمراد الأمر. وقد يكون العهد يمينا ، ودلالة الآية على أن المراد في هذا الموضع اليمين ظاهرة. لأنه قال : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } ولذلك قال أصحابنا : إن من قال : «علي عهد الله إن فعلت كذا» أنه حالف. وقد روي في حديث حذيفة حين أخذه المشركون وأباه فأخذوا منه عهد الله أن لا يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدما المدينة ذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : { تفي لهم بعهدهم وتستعين الله عليهم}. وروي عن عطاء والحسن وابن سيرين وعامر وإبراهيم النخعي ومجاهد إذا قال : علي عهد الله إن فعلت كذا فهو يمين» [أحكام القرآن للجصاص 3/181، 182].
أما العقد فهو كما ذكر الجرجاني : ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول شرعا، والصلة : أن العقد إلزام باستيثاق بخلاف العهد فإنه قد يكون باستيثاق وقد لا يكون، ولذا يقال : عاهد العبد ربه، ولا يقال : عاقد العبد ربه، إذ لا يجوز أن يقال : استوثق من ربه.
وأما الوعد فقد قال ابن عرفة : إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل. قال أبو هلال العسكري : والفرق بين الوعد والعهد أن العهد ما كان من الوعد مقرونا بشرط نحو إن فعلت كذا فعلت كذا.
والبيعة صفة على إيجاب المبايعة والطاعة، أي التولية وعقدها، والبيعة صفة أيضا على إيجاب البيع، والبيعة بالمعنى الأول أخص من العهد.
ولذا فهو ضد الغدر وهو ترك الوفاء بالعهد، أو نقضه . قال : غدره وغدر به غدرا: أي خانه ، ونقض عهده.
ويترتب على تلك المعاني اللغوية، والفروق اليسيرة بين تلك الألفاظ درجات العهود والوعود، فالعهود درجات تبعا لطرف العهد، فأعلى درجات العهود وأقدسها عهد الله سبحانه وتعالى، وقد توعد سبحانه وتعالى من أهمله واشترى به ثمنا قليلا العذاب الأليم، فقال سبحانه : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران :77]، وقال سبحانه : ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ [الأحزاب :15].
وأمر ربنا بالوفاء به، فقال تعالى : ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام :152]. وقال سبحانه : ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل :91].
ورغب سبحانه في الوفاء بعهده فقال تعالى : ﴿وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل :95].
فعهد الله هو أعلى درجات العهود قداسة والتي يتحتم على المؤمن الوفاء بها، وذلك لعظم المعاهد سبحانه وتعالى، ثم تأتي درجات العهود مع البشر، فأعلاها العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجلى هذا العهد في سيرته الشريفة فيما يعرف بالبيعة له، قال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح :10]، وقال تعالى : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح :18]
ومنه ما أرشد ربنا نبيه إليه من قبول مبايعة النساء والاستغفار لهن، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الممتحنة :12].
ثم تأتي بعد ذلك العهود التي تعقد بين البشر، ويحدد درجاتها على قدر المنافع العامة المترتبة على الالتزام بها، والمفاسد العامة المترتبة على نقضها، فكلما كان العهد يعصم الدماء ويقر السلام ويملأ الأجواء بالأمان كان أعظم من غيره.
ولقد عد العلامة ابن حجر الهيتمي عدم الوفاء بالعهد من الكبائر، وجعله الكبيرة الثالثة والخمسين، فقال : «ومما يدل على تأكد العهود وأن الإخلال بالوفاء بها كبيرة الحديث المتفق عليه : {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر}. وفي الحديث : {لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان}. وروى البخاري : { يقول الله - تعالى - ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره}. وروى مسلم : { من خلع يدا من طاعة الله لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية }، ومرت أحاديث كثيرة في هذا المعنى» [الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/182].
وقد سألني سائل –وهو يعلم أن الإسلام قد نظم لنا حياتنا وبنى فينا الإنسان الذي يرضى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- عن أساس من أسس العلاقات الدولية وعن الوفاء بالعهد والوعد مع غير المسلمين والمنحلين والفاسقين : إلى أي مدى يلتزم المسلم بهذه العهود ؟ والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة :1].، ويقول سبحانه : وقال تعالى : ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء :34].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» [رواه البخاري ومسلم]
فإلى أي حد يفي المسلم بعقوده وعهوده ومعاهداته ووعوده حتى لا يكون خائنا ؟ فالخيانة من صفات النفاق، ولا يكون كاذبا، فالكذب من صفاتهم كذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن أبعد الأخلاق السيئة عن المسلم الكذب، فقد قيل: « يا رسول الله، المؤمن يكون جبانا ؟ قال: نعم، قيل: يكون بخيلاً ؟ قال: نعم، قيل: يكون كذابا ؟ قال: لا» [رواه مالك في الموطأ، والبيهقي في الشعب]، وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : «يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب» [رواه البزار وأبو يعلى]، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب أبعد ما يكون عن المؤمن، وكذلك الخيانة والغدر.
فما هي تلك القواعد الذهبية التي تحكم المؤمن في معاهداته ووعوده ؟ يضع ربنا لنا الأسس القويمة الأصيلة التي يسير عليها المسلم إلى يوم القيامة، وهي تمثل سنة من السنن الإلهية التي أجراها الله في كونه لا تتخلف ولا تتبدل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أولى تلك القواعد : إتمام العهد إلى نهاية مدته، فلكل عهد مدة يلتزم المسلم بالعهد ولا يغدر ولا يخون، قال تعالى : ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ [التوبة :4].
الثانية : أن هناك أقوام ليس لهم عهد كالمشركين مثلا، قال تعالى : ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ [التوبة :7].
الثالثة : أن هناك من يستثنى من هذا الحكم العام، كمشركي مكة، قال تعالى : ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ [التوبة :7].
الرابعة : أن العهد ينتقض ويكون بلا أثر إذا نقضه الآخر، ويكون المسلم في حل من الالتزام به، وعندئذ يأذن له بحق الرد إن شاء أو فعل ما تستوجبه مصلحة المسلمين، فالاستقامة على العهد مرتبطة باستقامة الطرف الآخر قال تعالى : ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ [التوبة :7]. وعليه فيحق للمسلم الرد بالمثل في ذلك، قال تعالى : ﴿الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة :194].
الخامسة : أن الأقوام الذين لا عهد لهم استحقوا ذلك بسبب سلوكهم، وأنهم يستخدمون العهد للغدر والخداع، فيوضح ربنا ذلك حيث يقول تعالى : ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة :8]. فإن حقيقة هؤلاء القوم العدوان، فهم ليسوا بمعاهدين، بل إنهم المعتدين، يقول تعالى : ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ﴾ [التوبة :10].
وكأن التاريخ يعيد نفسه، وها نحن نرى الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وها نحن نرى معتقلات التعذيب السرية في الدول الأوروبية وفي جوانتنامو فتحت للمسلمين مخالفة كل الشرائع السماوية والأرضية، ونرى الاحتلال العسكري الأمريكي والصهيوني، ونرى القتل وقصف الأراضي المسلمة في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، هؤلاء لديهم خططهم وحساباتهم، ونحن لسنا في حسابهم، فلن يعقدوا عهدا إلا لتضييع الوقت والانقضاض علينا مرة بعد المرة، وما سايسبيكوا منا ببعيد ؟
وفي الختام سيظل الوفاء بالعهد سمة من سمات شخصية المسلم، إذ ضده بعيد كل البعد عن المسلم، فضد الوفاء الغدر والخيانة والكذب، والمسلم لا يطبع على هذه الخلال أبدا، والمسلم يدعو إلى دين الله بأخلاقه التي تربى عليها من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والوفاء بالعهد من أهم الأخلاق التي تفتح قلوب الآخرين للإسلام.
رزقنا الله الوفاء بالعهود معه ومع خلقه حتى يرضى عنا ويرضينا سبحانه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في المقال السابق عن علاقة التوبة بحياة القلوب، وعن معنى توبة العبد إلى ربه، وحقيقة التوبة النصوح، ونتكلم هذه المرة عن التوبة باعتبارها مفهوم شامل يتعدى حقيقة الرجوع إلى الله، والبعد عن المعاصي.
فإن التوبة أصبحت كلمة إذا ما سمعها المؤمن اختزل معناها وجعلها قاصرة بمعاص خاصة، وجعلها أمرا غيبيا يتعلق باليوم الآخر، والتوبة أعظم من ذلك تشمل هذا وتزيد عليه كثيرا.
فالتوبة حالة نقد ذاتي، وحالة من مراجعة النفس، وحالة من الرقابة الإدارية، إلا أننا إذا سمعنا هذه الألفاظ -النقد الذاتي ومراجعة النفس ومحاولة الرقابة والإدارة- ظننا أن هذه الألفاظ لا علاقة لها بالتوبة؛ لأن مفهوم التوبة أصبح قاصرا عند أغلب الناس على الإقلاع عن معاص بعينها، وليس الأمر كذلك.
كما أننا إذا سمعنا مصطلحات الرقابة الإدارية، والإدارة، والنقد الذاتي نفهمها في إطار مدلولاتها الغربية، لأنها مصطلحات أطلقها أهل الحضارة الغربية للتعبير عندهم عن معاني خاصة، إلا أننا نرى أن التوبة تشمل هذه المعاني مجتمعة.
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التوبة، وكان يقول : « إِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً ». [رواه ابن ماجه في سننه].
فرسول الله يتوب أكثر من سبعين، وهو الذي مدحه البوصيري -رحمه الله- فقال :
والفريقين من عرب ومن عجم |
| محمد سيد الكونين والثقلين |
لكل هول من الأهوال مقتحم |
| هو الحبيب الذي ترجى شفاعته |
مستمسكون بحبل غير منفصم |
| دعا إلى الله فالمستمسكون به |
ولم يدانون في علم ولا كرم |
| فاق النبيين في خَلق وفي خُلق |
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسمِ |
| فهو الذي تم معناه وصورته |
فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ |
| منزهٌ عن شريـكٍ فـي محاسنه |
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم |
| دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم |
وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ |
| وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف |
حدٌّ فيعـرب عنه ناطقٌ بفـمِ |
| فإن فضل رسول الله ليس له |
فأي توبة كان يتوب، هل كانت التوبة حالة من النقد الذاتي، أو مراجعة النفس، أو المحاسبة، ربما كان ذلك كله، مع التأكيد أنه معصوم لا تصدر منه المعاصي فلا يحتاج إلى توبتنا نحن، وهي التوبة من الذنوب.
ذكرنا أن التوبة في اللغة هي الرجوع والعودة إلى الله، ومنها كذلك المراقبة، ومنها المحاسبة، فلو فهمنا التوبة وما تستلزمه من عمليات داخلية لأدخلناها عنصرا من عناصر الإدارة، وعنصرا أساسيا في الاقتصاد الذي يجري بين الناس، وعنصرا أساسيا في الحكم، وعنصرا أساسيا في السياسة الداخلية والخارجية.
والتوبة تقتضي الإقلاع والبعد عن الحالة التي لا ترضي الله سواء كانت هذه الحالة في علاقتك بربك من فعل لمحرمات أو ترك لواجبات، أو كانت هذه الحالة في علاقة بمن حولك كالإساءة للأهل والجيران وسوء الأخلاق والكذب والخيانة وشهادة الزور، أو كانت هذه الحالة في أدائك في عملك أو محافظتك على النظافة والنظام. وعلى أي الأحوال يجب عليك أن تكون في كل زمان ومكان في حالة يرضى عنها ربنا فلا يراك على حالة لا يرضاها.
ولكننا لن نتمكن من الوصول إلى حالات الرضا التي أمرنا الله بها بحولنا وقوتنا، فإن القوة لله وحده سبحانه وتعالى، قال تعالى : ﴿أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة :165]. فلا حول ولا قوة إلا بالله، والإيمان بذلك يورث التبرأ من القوة الموهومة والحول المزعوم لدى البشر، فيعلم الإنسان أنه لا حول ولا قوة له، فيلجأ إلى الله ويستمد منه القوة على طاعته، ويستمد منه الحول عن معصيته.
لأجل ذلك المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا عبد الله بن قيس قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها . كنز من كنوز الجنة) . أو قال: (ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة إلا بالله) [متفق عليه]؛ حيث تدل هذه الكلمة على حقيقة وجود الإنسان في الأرض، وحقيقة سعيه فيها.
والتوبة تكون بعد الاستغفار، ولن نقول إن التوبة بعد المغفرة، فالمغفرة التي يمن الله بها على العبد هي من ثمرات صدق التوبة، وإنما التوبة تكون بعد الاستغفار، والاستغفار هو طلب المغفرة من الله وطلب العون، مما يحقق معاني الالتجاء إلى الله، وبعد طلب المغفرة تأتي التوبة، قال تعالى : ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود :3].
والتوبة الحقيقية هي التوبة الصادقة، التي يتحرى فيها الإنسان الصدق مع نفسه، فلا يفعلها ليبعد عذاب الضمير عن نفسه فحسب، بل يفعلها بصدق وعزم مع الله، ولا يفعلها رياء بين الناس، فالتوبة الصادقة ليس فيها مخادعة، فإن المخادعة من صفات المنافقين، قال تعالى : ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة :9]، فالمؤمن صريح مع نفسه، فلابد من الشفافية.
والتوبة ينتج عنها المراجعة، ونلاحظ هنا خطورة تفريغ التوبة من معناها الدنيوي وقصرها على معناها الغيبي، فقد ذكرت الآية السابقة ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود :3]. وأجل مسمى أي إلى مدة حياتكم فإن أرجعنا لها الجانب الآخر يتضح لنا إعجاز القرآن ويتضح لنا عموم ألفاظه.
والتوبة إلى الله لا يمنعها كثرة الذنوب والكبائر، بل إن الله أتى بأرجى آية في كتابه الكريم مع شدة الإسراف على النفس، قال تعالى : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر :53 : 54].
وعلى المسلم أن يزيد من الرجاء عند الوقوع في الزلات، وليس العكس وهنا معنى لطيف تكلم عنه أهل الله، فإن نقص الرجاء عند الوقوع في الزلات علامة أن الاعتماد في الغفران لم يكن على الله، بل كان على العمل، وينبغي للمسلم أن يعتمد في رجائه وطلب المغفرة على صفات الجمال لله التي لا تنقص بالذنوب، فهو سبحانه الرحمن الرحيم الغفور الغفار التواب، نرجوه لأجل ذلك فلا ينقص الرجاء مع الذنوب، وفي هذا المعنى يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري -رضي الله عنه- : «من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل» وهي أولى الحكم التي بدأ به كتابه العظيم [الحكم العطائية] في إشارة إلى أن بداية الطريق تكون بالتوبة والاعتماد على الله وحده.
ولذا ترى النبي صلى الله عليه يقص على أصحابه قصة قاتل المائة، وهو يريد أن يتوب بعد كل هذه الذنوب، والله يقول : ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة :32]، فكم مرة قتل هذا الرجل الناس جميعا ؟ رغم كل هذه الذنوب أراد التوبة، وانتظره ربه، وفرح بعودته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل إلي يمشى أقبلت إليه أهرول» [رواه مسلم]
فما قصة ذلك الرجل ؟ يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : «كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال : لا .. فقتله فكمل به مائه , ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال : إنه قتل تسعه وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ قال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط : فأتاهم ملك بصورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتها كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة» [رواه مسلم].
وفي هذه القصة التي يرويها النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة يجب أن نتعلمها، أولا : أن الذي يُسأل عن أحكام الشرع العالم وليس العابد (الراهب) فعندما أخطأ من دله على الراهب حدثت جريمة أخرى في وقت يحتاج فيه الرجل إلى التوبة إذ به يقتل العابد الذي أفتى بجهل، فلا ينبغي لأحد أن يقصد كل من ظهرت عليه علامات العبادة أو الصلاح بالسؤال في الدين، فإن هذا الدين علم. كما أنه لا يجوز لكل من اقترب من ربه وسار في طريقه أياما أو شهورا أو سنين أن يظن أن له إفتاء الناس، فإن الإفتاء يكون للعلماء، ورأينا عندما ذهب إلى العالم انتهى الأمر، وتنزلت الرحمات، فهذا هو الدرس الأول الذي ينبغي أن نخرج به من هذه القصة.
الدرس الثاني أن هذه القرية قوم سوء، لأن يتمكن من قتل هذا العدد دون أن يجد من يردعه، ومن يأخذ على يده، فلم يكن هناك أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، ولا سلطات، ولا أي شيء فهذا جو فاسد لا يصلح لعبادة الله، فهم قوم سوء لأنه استخفهم ولم يقم لهم وزنا، قال تعالى : ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف :54]، وقال سبحانه : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة :78]
الدرس الثالث : أن التوبة حتى تستمر لا بد وأن يتهيأ لها بيئة صالحة، ومجتمع متضامن متناصح، ويظهر هذا المعنى في قول العالم لقاتل المائة : « انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء»، فالإنسان يحتاج على الطاعة معين، وعلى الخير ناصح أمين.
الدرس الرابع والأخير : أن الأعمال بالخواتيم، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي، أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة» [رواه البخاري ومسلم]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم» [رواه البخاري]. كل هذه الدروس نتعلمها من هذا الحديث، ويشتمل الحديث كذلك على كثير من الدروس والتفصيلات، ولعلنا ذكرنا أهمها.
فالمسلم مأمور بالمراجعة الدائمة للتوبة ؛ لأنه لا يزال يخطئ وسن الله سبحانه وتعالى فيه أن يستمر ذلك دائما، ويرشدنا سيد الخلق إلى أنه يفعل ذلك كل يوم، فلا نمل من التوبة إلى الله، ولا نمل من مصارحة النفس بالعيوب والتقصير، ولا نمل من الإقلاع بهمة متجددة لرب العالمين، ولا ننسى الآخرة، ولا ننسى التوبة من هذه المعاصي.
إن ترك نقد الذات ومراجعة النفس والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى يؤدي إلى عذاب كبير لعلنا نعيش بعضه في أيامنا هذه، فإن صلاح إنسان واحد لا يكفي لصلاح المجتمع أو لنهضة الأمة وصحوتها، فلا بد من أن تكون توبتنا إلى الله جماعية، ومراجعتنا شاملة لقضايا الإنسان في كل مكان وفي كل مجال.
أراد الله توبة نصوحا، ولعل مادة "نصوحا" تذكرنا بمعنى النصح، فالدين النصيحة، والنصح له أركان وشروط، والنصح يكون المجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي لا تشيع فيه الفواحش والمنكرات والفساد.
فاختزال معنى التوبة في المعنى الغيبي وحده بتر لمراد الله، وبتر لأوامره وإرشاداته، نسأل الله أن يعيد علينا التوبة بمفهومها الشامل على مستوى الفرد والمجتمع إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
للقلب حياة وموت، وله إبصار وعمى ، قال تعالى : ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِى فِى الصُّدُور﴾ [الحج :46]. والله يريد من المؤمن أن يحيا قلبه ويبصر فيتعرف على الحقائق، وقلوب البشر ليست واحدة، فالقلب قد يكون غليظا قاسيا وقد يكون رقيقا، قال تعالى : ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة :74]. وكان قلب رسولنا رقيقاً حنوناً، قال تعالى : ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران :159].
يكون القلب سليمًا، ويكون سقيمًا مريضًا، قال تعالى : ﴿فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة :10]. وقال تعالى : ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْروفًا﴾ [الأحزاب :32]، ولا يفلح إلا صاحب القلب السليم، قال تعالى : ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء :89].
والقلب مكشوف لله يعلم ما به على حقيقته، حتى إن حاول الإنسان الكذب على الخلق، فلا يؤثر ذلك في علم الله به، قال تعالى : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ﴾ [البقرة :204]
والقلب يكون منبعًا للطاعات، كما يكون منبعًا للآثام - والعياذ بالله - وذلك في حالة فساده، قال تعالى : ﴿وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة :283].
والإنسان لا يملك قلبه، ولا يملك أن يغير ما به، بل القلب ملك لله يصرفه ربنا ويقلبه كما يشاء، فالله يحول بين الإنسان وقلبه، قال تعالى : ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال :24].
والقلب هو المعتبر عند الله في الإيمان والكفر، فقد يضطر إنسان للنطق بالكفر تحت التعذيب والآلام، فأخبرنا ربنا أن هذا الإكراه لا يؤثر في حقيقة إيمانه؛ لأن العبرة بإيمان القلب واطمئنانه، قال تعالى : ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل :106].
والقلب يغفل باتباع الهوى، ومعاندة شرع الله، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعدم متابعة هذا الصنف من الناس أصحاب تلك القلوب، فقال تعالى : ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف :28].
والقلب يتقلب من شدة الخوف كالبصر، والمؤمن يخشى ذلك اليوم الذي يتقلب فيه قلبه وبصره، قال تعالى : ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ [النور :37].
ذكرنا ما سبق من الآيات عن القلب، لأن تحقيق التوبة الصادقة شرط لإحياء القلب، ودخول الأنوار فيه، والإقبال على ربه سبحانه وتعالى، قال تعالى : ﴿مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ [ق :33].
والتوبة في اللغة العود والرجوع, يقال : تاب إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه . وإذا أسند فعلها إلى العبد يراد به رجوعه من الزلة إلى الندم, يقال : تاب إلى الله توبة ومتابا: أناب ورجع عن المعصية, وإذا أسند فعلها إلى الله تعالى يستعمل مع صلة ( على ) يراد به رجوع لطفه ونعمته على العبد والمغفرة له, يقال : تاب الله عليه : غفر له وأنقذه من المعاصي. قال الله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة :118].
وفي الاصطلاح التوبة هي : الندم والإقلاع عن المعصية من حيث هي معصية لا; لأن فيها ضررًا لبدنه وماله, والعزم على عدم العود إليها إذا قدر. وعرفها بعضهم بأنها الرجوع عن الطريق المعوج إلى الطريق المستقيم. وعرفها الغزالي بأنها : العلم بعظمة الذنوب, والندم والعزم على الترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي.
وهذه التعريفات وإن اختلفت لفظًا هي متحدة معنىً. وقد تطلق التوبة على الندم وحده إذ لا يخلو عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الندم توبة» [رواه أحمد، وابن ماجة، وابن حبان، والبيهقي في الكبرى، والحاكم في المستدرك]، والندم توجع القلب وتحزنه لما فعل وتمني كونه لم يفعل.
والتوبة من المعصية واجبة شرعًا على الفور باتفاق الفقهاء ; لأنها من أصول الإسلام المهمة وقواعد الدين , وأول منازل السالكين , قال الله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور :31].
والإنسان يحتاج للتوبة دائمًا لأن الله قد أمر بتوبة مخصوصة وهي التوبة النصوح فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم :8]
وقد اختلفت عبارات العلماء في معنى التوبة النصوح, وأشهرها ما روي مرفوعًا عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «التوبة النصوح أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله عز وجل ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع » [ذكره الأصبهاني في العظمة] وأن التوبة النصوح هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع. وقيل : هي الندم بالقلب , والاستغفار باللسان , والإقلاع عن الذنب , والاطمئنان على أنه لا يعود.
فلابد من المراجعة الدائمة لأنها عظيمة النفع في ترقي الإنسان وخلاصه من الدنايا، ولقد ضرب لنا المصطفى مثلاً من نفسه؛ حيث قال : « يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة » [رواه الترمذي]، وسنة الله في طبيعة البشر اقتضت أن تكون تلك التوبة والمراجعة دائمة، ولا ينبغي أن نمل من كثرة التوبة إلى الله، ولا نمل من مصارحة النفس بالعيوب والقصور، لا نمل من الإقلاع بهمة متجددة لرب العالمين.
والله يحب من عبده إذا أخطأ أن يرجع عن خطئه، حتى لو تكرر الخطأ أو الخطيئة، فهو يقبل التوبة من عبادة ويعفو عن كثير، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) [رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك]. والتوبة فلسفة كبيرة في عدم اليأس، وفي وجوب أن نجدد حياتنا وننظر إلى المستقبل، وأن لا نستثقل حمل الماضي، وإن كان ولابد أن نتعلم منه دروسًا لمستقبلنا، لكن لا نقف عنده في إحباط ويأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. التوبة فيها رقابة ذاتية تعلمنا التصحيح وتعلمنا التوخي والحذر في قابل الأيام، وهي من الصفات المحبوبة؛ فلنجلعها ركنًا من أركان الحب.
والتوبة تخرج الإنسان من ذنوبه، وكأنه لم يفعل ذنبا قط، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ» [رواه ابن ماجه]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار والتوبة إليه ليترقى في درجات القرب، وليعلمنا كثرة الاستغفار، فقال صلى الله عليه وسلم : « إِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً ». [رواه ابن ماجة في سننه].
والتوبة منها توبة عن المعاصي والذنوب، ومنها الإنابة وهي أعلى من التوبة، حيث يخرج الإنسان كل ما سوى الله من قلبه، فيفرغ قلبه من السوى، وينشغل بالله سبحانه وتعالى وحده.
ثم تترقى الإنابة إلى أن تكون أوابا، والأوبة هي الرجوع التام إلى الله سبحانه وتعالى، ويتأتى ذلك بإقامة الدين في النفس، قال تعالى : ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم :30 : 32]
وتتأكد التوبة وتستلزم مع الغفلة والتقصير والشهوة قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران : 135].
وشروط التوبة أولاً : أن يقلع الإنسان عن الذنب ويفارقه ويبتعد عنه، ثم يندم القلب على ما فرط واقترف في حق الله، ثم يعزم بإخلاص ويعاهد الله على عدم العودة للذنب مرة أخرى.
ومن أعمال التوبة التي تؤكد صدقها في القلب وقبولها من الرب سبحانه وتعالى، صلاة التوبة التي سنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال : « مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْباً فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ » . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ [رواه أبو داود].
والتوبة من خصائص المجاهدين في سبيله لأنهم يتشوفون إلى لقاءه، فلا تهون نفس الإنسان عليه إلا بلقاء الله، والنظر إلى وجهه الكريم يوهن علينا الدنيا وما فيها بمن فيها، ومن كمال الاستعداد للقاء الله الخروج من كل حال لا يرضى عنه ربنا، ولذلك يسارع المؤمن إلى التوبة، ويسارع إلى الإقلاع عن المعصية لأنه مجاهد في سبيل الله.
وترك التوبة ظلم للنفس، قال تعالى : ﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [سورة: الحجرات]، فاستحق تارك التوبة وصف الظلم، فهو ظالم لنفسه بوقوفه حائلا بينها وبين ربها، والتوبة لا تصح إلا بعد معرفة الذنب، وحتى يكمل لك معرفة الذنب لابد أن تنظر إلى ثلاثة أشياء؛ أولها: أنك تخليت عن حفظ الله لك، وأسقطته واجترأت على الذنب. ثانيها : أنك فرحت به عند فعله بدل أن تحزن. ثالثها : أنك أصررت على عدم الرجوع فور فعله مع تيقنك بنظر الحق إليك.
ويقول صاحب المنازل كلاماً عالياً في التوبة نذكره بنصه : «وحقائق التوبة ثلاثة أشياء: تعظيم الجناية وذلك بالنظر إلى من عصيت، واتهام النفس في التوبة، وطلب إعذار الخليقة. وسرائر حقيقة التوبة ثلاثة أشياء : تمييز الثقة من الغرة، ونسيان الجناية، والتوبة من التوبة أبدا؛ لأن التائب داخل في الجميع من قوله تعالى : ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ ﴾ [النور : 31]، فأمر التائب بالتوبة.
ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء: أولها : النظر إلى الجناية والقضية، فيعرف مراد الله تعالى فيها إذ خلاه وإتيانها، فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين : أحدهما : أن يعرف عزته في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول المعذرة منه، وفضله في معرفته. والثاني : ليقيم على العبد حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجته. واللطيفة الثانية : أن يعلم أن طلب النصير الصادق سيئة لم تبق له حسنة بحال؛ لأنه يسير بين مشاهدة المنة وتطلب عيب النفس والعمل. واللطيفة الثالثة : أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة؛ لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم.
فتوبة العامة لاستكثار الطاعة، فإنه يدعو إلى ثلاثة أشياء : إلى جحود نعمة الستر والإمهال، ورؤية الحق على الله تعالى، والاستغناء الذي هو عين الجبروت، والتوثب على الله تعالى، وتوبة الأوساط من استقلال المعصية وهو عين الجراءة والمبارزة، ومحض التزين بالحمية والاسترسال للقطيعة، وتوبة الخواص من تضييع الوقت، فإنه يدعو إلى درك النقيصة، ويطفئ نور المراقبة، ويكدر عين الصحبة، ولا يتم مقام التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة مما دون الحق، ثم رؤية تلك التوبة، ثم التوبة من رؤية تلك العلة» [منازل السائرين].
والتوبة بداية الطريق إلى الله، وأصل المقامات، فمن لا توبة له لا مقام له، وتثمر التوبة النصوح الصادقة: محبة الله تعالى. وهي حالة يجدها العبد في قلبه تُلطف العبارة، وتحمله تلك الحالة على التعظيم لله وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه والاهتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام الذكر له بقلبه.
رزقنا الله التوبة في كل وقت وحين، وجعلنا من الأوابين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أراد الله سبحانه وتعالى لهذا الإسلام أن يكون الدين الخاتم، وأرد للقرآن أن يكون الكلمة الأخيرة إلى العالمين، فحفظه الله سبحانه وتعالى، فقال : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر : 9].
وقد تعرض القرآن الكريم لمحاولات التحريف فلم تفلح، ولمحاولات الترجمة الخاطئة السيئة النية فلم تؤثر فيه، ولمحاولة الطباعة المحرفة، فبقي كما هو، ولمحاولة تقليده ومحاكاته بسيء الكلام وركيكه فلم يزحزح عن مكانته، بل إن كل ذلك أكد معجزته الباقية عبر الزمان، وأعلى من شأنه في صدور الناس، وكان كل ذلك بالرغم مما اشتمل عليه من العدوان والطغيان سببًا في تمسك المؤمنين به، وبابًا جديدًا للدعوة إلى الله ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وبدلا من إبادة المسلمين التي أرادها مشركو مكة ومن بعدهم الفرس والروم ومن بعدهم الفرنجة والتتار ومن بعدهم الاستعمار والتعصب في الشرق والغرب بدلاً من ذلك انتشر الإسلام وأصبح عدد المسلمين أكبر أتباع دين، وقد شهدت بتلك الحقيقة موسوعة جينز للأرقام القياسية، وهم يقدرون الآن بمليار وثلاثمائة مليون نسمة.
وذلك لأن الله أراده مصدراً للأحكام، ومصدراً للأفكار، ومصدراً لمناهج العلوم، ومصدراً لطريقة التعامل مع الكون والأشخاص، فجعله الله كتاب هداية للعالمين، وجعله حجة قائمة إلى يوم الدين، وجعله لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، ولا يبلى ولا يصاب بالقدم ولا يخرج عن حد الزمان، فهو متجدد كل تجدد، فكان القرآن رسولاً من عند الله سبحانه وتعالى، لأنه كلام الله. وكلام الله نبوة مستمرة تتنزل على المسلمين في كل حين لهدايتهم إلى أقوم طريق.
وقد تختلف الأفهام في استخراج الأحكام والهداية من القرآن ولا تجد في السنة ما يحسم خلافهم، ففي المسائل الفقهية التعبدية وغيرها من المعاملات التي تقتصر على الأفراد نعلم أن هذا الخلاف من الرحمة والسعة، ولكن في المسائل التنظيمية لابد من اجتماع كلمة المسلمين للوصول إلى رأي واحد حتى يتم تنفيذه بين جماعة المسلمين.
من هنا ظهرت أهمية الشورى كوسيلة للاستفادة من وجهات النظر المختلفة، ومن الخبرات المتعددة، ومن العلوم المتباينة لإنتاج القرار السليم الذي لابد أن يكون موافقا لشرع الله، ومحققا لمصالح الأمة. فما هي الشورى ؟ وكيف يحققها المسلمون ؟
الشورى لغة يقال : شاورته في الأمر واستشرته : راجعته لأرى رأيه فيه. واستشاره : طلب منه المشورة. وأشار عليه بالرأي. وأشار يشير إذا وجه الرأي, وأشار إليه باليد : أومأ.
فالشورى التي نقصدها يمكن أن نصيغ تعريفها بشكل عصري بأنها : استطلاع للآراء من أهل الحكمة والخبرة للوصول إلى أفضلها. وفي ثقافة المسلمين لابد من تحقيق موافقة شرع الله، وتحقيق مصالح الأمة، فإن هذين المعيارين لابد وأن يكونا نصب عين كل من سعى لإصدار قرار يخص المسلمين في حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وجميع مناحي الحياة.
والشورى تتعين في حالة الاحتياج لرأي واحد، ولكن –كما ذكرنا- في حالة الأبحاث العلمية والدراسات المختلفة والتي تثمر تعدد الآراء فإن هذا ثراءً علمياً لا ينبغي أن نلغيه ونقول لابد أن نخرج برأي واحد، بل متعة العلم في تعدد الآراء وعرض أدلة كل رأي.
ولذا لا ينبغي أن يختلط علينا مدح الخلاف بين العلماء في المسائل التي تخص الأفراد من أمور العبادات الشخصية، وبين مدح الشورى للخروج برأي واحد في المسائل التي تخص مجموع المسلمين. مثلا هل نقيم معاهدة مع دولة ما لتحقيق مصالح المسلمين أم لا ؟
لذا لا ينبغي أن نسمع ممن اختلط عليهم الأمر أن العلماء لابد وأن يجلسوا للخروج برأي واحد في كل مسألة من مسائل الفقه، فليس هذا هو محل الشورى؛ فإذا كانت المسائل تخص كل فرد بشكل شخصي، فله أن يفعل ما يراه موافقاً لظروفه وحاله.
ولذا نرى ثناء السلف والعلماء على هذا الخلاف عبر الزمان. قال الإمام القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : «لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عيه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمل عمله»([1]).
قال سفيان الثوري رحمه الله : «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه»([2]).
ي الروضة في أصول الفقه لا تنهه بعة المذاهب الفقهية الإسلامية.ى كمذهب الثوريين، والإمامية، والإباضية، والظاهريةضارتهم.د والنوقال الإمام أحمد بن حنبل : «لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم»([3]).
قال الإمام الحنبلي ابن قدامة المقدسي : «وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام, مهد بهم قواعد الإسلام, وأوضح بهم مشكلات الأحكام, اتفاقهم حجة قاطعة, واختلافهم رحمة واسعة»([4]).
وقد صنف رجل كتاباً في الاختلاف. فقال له الإمام أحمد : «لا تسميه الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة»([5])، وقال كذلك : «إن للمفتي إذا استفتى وكانت فتواه ليس فيها سعة للمستفتي أن يحيله إلى من عنده سعة»([6])، وقال ابن العربي : «إن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية»([7]).
ذلك فيما يخص الاختلاف في المسائل الفردية في أمور العبادات والمعاملات، وعودة للحديث عن الشورى - وهي بيت القصيد- نرى أن الله قد ذكر الشورى في كتابه الكريم في ثلاثة مواضع، كان الموضع الأول في الحديث عن التشاور بين الأبوين في مسألة إتمام رضاعة المولود، وذلك للخروج بالقرار السليم الذي يتناسب مع حالهما ومصلحة المولود، فقال تعالى : ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ [البقرة :233].
والموضع الثاني في السياق القرآني الذي يوجه فيه ربنا سبحانه وتعالى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم للعفو عن المؤمنين والاستغفار لهم، ومشاورتهم في الأمر، قال تعالى : ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران :159]. والشورى في هذا الموضع ليست شورى على مستوى الأسرة، وإنما شورى على مستوى القرار السياسي والاجتماعي في الدولة المسلمة.
أما الموضع الثالث كان في سياق الثناء على المؤمنين بعدة خصال هي الاستجابة لله سبحانه وتعالى، وإقامة الصلاة، واعتمادهم الشورى مبدأ لاتخاذ القرارات فيما يخص الصالح العام، ثم الإنفاق من رزق الله في أوجه الخير، قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى :38]. ذكر الله تلك الفضائل في نسق واحد، فقرن بين الاستجابة لله والصلاة والزكاة مما يلفت المؤمن عندما يتدبر كتاب ربه ويقارن بين سياقاته المختلفة. فجعل الله أمر الشورى أساساً من أسس الأمة. والشورى ليست كلمة بل هي منهج حياة.
ولقد ذكرت الشورى في وصف اتخاذ القرار من ملكة سبأ دون التصريح بلفظ الشورى أو التشاور أو غير ذلك، فقال تعالى حكاية عنها : ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل :32].
في تلك المواضع القرآنية بيان على أن الشورى ممدوحة شرعاً، وأن الله طلبها من المؤمنين كسبيل لتحقيق الأصلح في الأمور كلها.
ومن السنة يروى سيدنا عبد الله بن عباس فيقول : لـمّا نزلت «وشاورهم في الأمر» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما إن الله ورسوله غنيان عنهما، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن شاور منهم لم يعدم رشدا، ومن ترك المشورة منهم لم يعدم عناء» [رواه البيهقي في شعب الإيمان].
وبقاء الشورى بين المسلمين علامة على أن الحياة خير من الموت لنا، أما ذهابها فمن علامات انتهاء الخير في الدنيا وأن الموت خير لنا من الحياة. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» [رواه الترمذي].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشدِ الأمور» [رواه البيهقي في شعب الإيمان]. وعنه صلى الله عليه وسلم : «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد» [رواه الطبراني في الصغير والأوسط]
وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم تجسيداً للعمل بمبدأ الشورى مع أصحابه رضوان الله عليهم، فثبت في سيرة النبي العطرة أنه أشار عليه الحباب بن المنذر بتغيير موقعه، فاستجاب صلى الله عليه وسلم لمشورته تطييباً لخاطره واحتراماً من القائد لآراء أصحابه ورعيته وأثنى صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ خيراً حينما أشار عليه ببناء عريشٍ له صلى الله عليه وسلم وبعد انتهاء غزوة بدر استشار أصحابه بشأن أسرى المشركين [راجع السيرة لابن هشام 2/266 : 272].
وقد سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هديه فكان حال أبي بكر رضي الله عنه دائما المشورة مع أصحابه، وكذلك كان عمر بن الخطاب من بعده، ولمكانة أمر الإمارة أكد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حتمية استشارة المسلمين في ذلك القرار المهم، فعن عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : «قال عمر اعقل ثلاثاً: الإمارة شورى, وفي فداء العرب مكان كل عبد عبد وفي ابن الأمة عبدان وكتم ابن طاووس الثالثة» [ابن عبد الرزاق في مصنفه].
وقد أكثر عمر بن الخطاب من أمر الشورى وبالغ فيها,. وما أحسن ما امتدح به شوقي عمر بن الخطاب والشورى حيث قال :
يا رافعـًا رايــة الشُّـورى وحـارسَهـا |
| جزاك ربُّكَ خيـرًا عـن مُحِبِّــيـهَا |
رَأْي الجماعةِ لا تَشْقَى البـــلادُ بـــهِ |
| رَغْـَم الخـِلاف ورَأْي الْفَـرْدِ يُشْقِيهَا |
ولقد قال الماوردي كلاماً بديعاً في المشورة ننقله بنصه : « اعلم أن من الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمراً ولا يمضي عزماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح, ومطالعة ذي العقل الراجح. فإن الله تعالى أمر بالمشورة نبيه صلى الله عليه وسلم مع ما تكفل به من إرشاده, ووعد به من تأييده, فقال تعالى : ﴿وشاورهم في الأمر﴾ . قال قتادة : أمره بمشاورتهم تألفا لهم وتطييبا لأنفسهم. وقال الضحاك : أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى : أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «المشورة حصن من الندامة, وأمان من الملامة». وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «نعم المؤازرة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد». وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «الرجال ثلاثة : رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه, ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي, ورجل حائر بأمره لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً ». وقال عمر بن عبد العزيز : «إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يضل معهما رأيٌ ولا يفقد معهما حزم ». وقال سيف بن ذي يزن : «من أعجب برأيه لم يشاور, ومن استبد برأيه كان من الصواب بعيدا ». [أدب الدنيا والدين]
فعلينا أن نعمل على أن تكون العلاقة بيننا هي علاقة التشاور. والتشاور يحتاج منا إلى أخوة صادقة، وإلى قلوب مفتوحة، وإلى حرية في الرأي، وإلى التزام بالشرع، يحتاج منا أن نكون أمة واحدة. والأمة مفهوم لم يأت في دين من الأديان قبل الإسلام. والشورى من وسائل جمع كلمة المسلمين، ومن وسائل تجميع صفوفهم، وترك الشورى فيه ترك للوحدة وعمل على الفرقة التي ذمها الله في كتابه، فقال تعالى : ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران :103]، وقال سبحانه ينهانا أن نتبع سنن الذين كفروا : ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران :105].
وأرشدنا ربنا بالسير على صراطه المستقيم وعدم التفرق في السبل المختلفة، فقال سبحانه : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام :153].
والوحدة وعدم الفرق من أوامر الله الثابتة في جميع الشرائع، قال تعالى : ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [الشورى :13].
فالشورى هي سبيل الوحدة وعدم الفرقة. وبالبعد عن الشورى نفتقد الخبرات الأصيلة، والآراء المخلصة، ونضيع مصالح الأمة بين الاستبداد والإعجاب بالرأي. رزقنا الله الشورى، وجعل أمرنا شورى بيننا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) جامع بيان العلم وفضله، ج4 ص 80.
([3]) الآداب الشرعية لابن مفلح ج1 ص 166، وغذاء الألباب للسفاريني ج1 ص 223.
([4]) المغني، لابن قدامة، ج1 ص1.
([5]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج30 ص 79.
كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على خلق عظيم، وقد شهد له ربه سبحانه وتعالى في قرآنه بذلك فقال تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم : 4]، وجعل الله أهم أهداف رسالته صلى الله عليه وسلم إتمام مكارم الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [أحمد والبيهقي والحاكم في المستدرك ومالك في الموطأ]. في أسلوب يوحي بأن رسالته صلى الله عليه وسلم قاصرة على هذا الغرض؛ وذلك لإعلاء مكانة مكارم الأخلاق في الإسلام.
وكان الحياء من أبرز الأخلاق الكريمة التي غرسها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وأمته من بعدهم من خلال قاله وحاله، وفي حياته كلها، والحياء لغةً : مصدر حي ، وهو : تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم. وهو ضد البذاءة والوقاحة، فالبذاءة: السفاهة والفحش في المنطق وإن كان الكلام صدقا. والوقاحة والقحة أن يَقلّ حياء الرجل ويجترئ على اقتراف القبائح ولا يعبأ بها.
أما الحياء في الشرع : خلق يبعث على اجتناب القبيح من الأفعال والأقوال ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. وقد يطلق ويراد به الخجل أيضًا،
وإن كان الخجل أصله في اللغة: الكسل والتواني وقلة الحركة في طلب الرزق، ثم كثر استعمال العرب له حتى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام. كما قاله ابن الأنباري. ويستعمل الخجل أيضا بمعنى : الاسترخاء من الحياء، ويكون من الذل، يقال : به خجلة أي حياء. وهو التحير والدهش من الاستحياء . يقال: خجل الرجل خجلا : فعل فعلاً فاستحى منه.
وقد قيل إن الفرق بين الخجل والحياء، أن الخجل معنى يظهر في الوجه لغم يلحق القلب عند ذهاب حجة، أو ظهور على ريبة وما أشبه ذلك فهو شيء تتغير به الهيئة، والحياء هو الارتداع بقوة الحياء، ولهذا يقال فلان يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال يخجل أن يفعله في هذه الحال؛ لأن هيئته لا تتغير منه قبل أن يفعله، فالخجل مما كان والحياء مما يكون، وقد يستعمل الحياء موضع الخجل توسعا.
والحياء بمعناه الشرعي مطلوب من المسلم باتفاق، وإنما بمعناه العام، أو معناه اللغوي والعرفي فتجري فيه جميع الأحكام التكليفية: فإن كان المستحيي منه محرمًا، فالحياء منه واجب، وإن كان المستحيي منه مكروه فالحياء مندوب، وإن كان المستحيي منه واجبًا فالحياء منه حرام، وإن كان المستحيي منه مباح فهو عرفي أو جائز. فالحياء من تعلم أمور الدين وما يجب على الإنسان العلم به ليس بحياء شرعي .
وقد حث الإسلام على الحياء باعتباره خلقًا محمودًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع حتى شاع الذم بعبارة (قليل الحيا) في الاستعمال اليومي، مع حذف همزة الحياء؛ لأن العرب تقصر كل ممدود ولا تمد بالضرورة كل مقصور.
وقد تفشت قلة الحياء بين الأفراد والمجتمعات وعلى المستوى الدولي كذلك، فصار الناس لا يستحيون من الله، ولا من الناس، وعلى المستوى الدولي فمن قلة الحياء التي نراها في التصرفات الدولية، حيث يحتل المحتل الأراضي ويسلب الخيرات ويسرق الوثائق والمستندات التاريخية ويعذب السجناء ويلتقط لهم الصور أثناء التعذيب حتى يبعثها لأهله مفتخرًا بنفسه أن عذب البشر. وهذا من خسة أخلاقه حيث ذهب الحياء.
ومن قلة الحياء على مستوى المجتمع أن يطلب المناصب القيادية أسافل الناس، بعد كل ما قدموه من فاحشة وسمعة سيئة، ويصدق فيهم قول - النبي صلى الله عليه وسلم- في علامات فساد الزمان وأهله : (يأتي على الناس سنوات خدعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيهم الرويبضة. قيل يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم : وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) [وابن ماجة].
وقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري] وكان الحياء ينشئ ثقافة سائدة تمنع من الانحراف وتضبط إيقاع العمل على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي، وانعدام الحياء يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى ما يشبه الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط.
وعلى ذلك فمن العبارات الشائعة - وهي خطأ- قولهم (لا حياء في الدين) ويقصدون أن الإنسان يجب عليه أن يسأل في كل شيء دون خجل يصده عن التعلم فلا يخجل من عدم معرفته ولا يخجل أن يعرف كل شيء في جميع المجالات، فليس هناك حدود للمعرفة والعبارة الصحيحة التي حرفت من أصلها إلى هذه العبارة الجديدة الخاطئة هي (لا حرج في الدين) وهناك فارق كبير بينهما؛ فصحيح أنه لا حرج في الدين، فإن اليسر يغلب العسر، ومن طبق الدين لا يجد فيه ضيقًا ولا تضيقًا فقد قال الله تعالى : (فإن مع العسر يسراً * إن المعسر يسرا) [الشرح : 5،6] وفي الحديث الشريف : ( أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما) [رواه مسلم]. والقاعدة الفقهية الأم (المشقة تجلب التيسير).
والحياء المذكور في القرآن جاء على ثلاثة أنحاء الأول : ما أسند إلى الله تعالى قال سبحانه : (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً) [البقرة : 26].وذلك أن هذا ليس بحال الحياء؛ لأنه مجال تعليم كما سبق والحياء إنما هو خلق يمنع صاحبه من السوء وإظهار المعصية وحب إشاعة الفحشاء، ولا علاقة له بالخجل من السؤال في العلم وطلب التعلم؛ لأن العلم وطلبه من الحق. قال تعالى : (والله لا يستحي من الحق) [الأحزاب : 53] والثاني : حياء منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فيستحي منكم) [الأحزاب : 53] وهو حياء من كمال خُلقه ورحمته بأتباعه؛ حيث يقول لهم (أنا لكم بمنزلة الوالد). [أبو داود وابن أبي شيبة]. والثالث جاء منسوبًا إلى النساء العفيفات اللائي تربين في بيوت النبوة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص : 25]
والحياء في خصال البشر نوعان، نوع مكتسب، ونوع غريزي، وقد جمع النبي صلى الله عليه سلم بينهما في أخلاقه وسلوكه، قال القرطبي : «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي وكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم» [المفهم شرح مسلم]. ولذا فقد وصفه أصحابه رضوان الله عليهم فقالوا : «كان النبي صلى الله عليه وسلم : أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه» [متفق عليه].
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحياء ورغب فيه، وحفز المؤمنين على التخلق به وأعلمهم أن هذه الصفة هي من صفات الله سبحانه وتعالى على ما يليق به جل وعلا، فقد روى سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين» [رواه الترمذي].
والحياء هو من الأخلاق التي تميز الإسلام وأهله، ولذا يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم : «إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء» [ابن ماجة، والطبراني في الكبير]
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحياء جزء من الإيمان، وأن نقيضه وهو الفحش جزء من الجفاء، وأن الحياء في الجنة فقال : «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار» [صحيح ابن حبان].
وخصه صلى الله عليه وسلم بالذكر ضمن شعب الإيمان بعد ذكر أعلى الشعب وأدناها، وذلك لبيان مكانته، فقال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول: لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» [متفق عليه]
بل جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قرين الإيمان، في قلب المسلم، وفي نزعهما من قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم : «الحياء والإيمان قرنا جميعا ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» [الحاكم في المستدرك، والمصنف لابن أبي شيبة].
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يعظ أخاه في الحياء ، فقال له صلى الله عليه وسلم : «دعه فإن الحياء من الإيمان» [متفق عليه].
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نطبق خلق الحياء مع الله سبحانه وتعالى ، فيقول «استحيوا من الله حق الحياء. قال : قلنا : إنا نستحيي والحمد لله، قال : ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى، وتتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» [رواه الترمذي].
فالحياء كله خير، ولا يأتي إلا بالخير. والذي أخبر بذلك هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير». [متفق عليه]. وفي الحديث «الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير» [رواه مسلم]
كل هذه الأحاديث تؤكد على قيمة الحياء العظيمة في الإسلام، وأن الحياء هو خلق الإسلام حقا؛ لأنه باعث على أفعال الخير ومانع من المعاصي، ويحول بين المرء والقبائح ، ويمنعه مما يعاب به ويذم، فإذا كان هذا أثره فلا شك أنه خلق محمود، لا ينتج إلا خيرا.
وقد قال العلماء : الحياء من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح،
وأولى الحياء : الحياء من الله، والحياء منه ألا يراك حيث نهاك، ويكون ذلك عن معرفة ومراقبة.
وقال الجنيد رحمه الله : «الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى : الحياء» . وقال ابن القيم : ومن كلام الحكماء أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيى منه، وعمارة القلب بالهيبة والحياء، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير.
وإذا كان الحياء العرفي يمنع صاحبه من التعلم فهو حياء مذموم ولا يكون هو المطلوب من المسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" [ رواه مسلم]. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : «جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، إذا رأت الماء» [رواه البخاري].
وكذلك الحياء من مواجهة الظلمة، والفساق وزجرهم، وترك الجهر بالمعروف، والنهي عن المنكر حياء ليس بحياء، وإنما هو عجز ومهانة، وتسميته حياء : من إطلاق بعض أهل العرف : أطلقوه مجازاً لمشابهته الصورية للحياء الشرعي.
وقد اعتنت الشريعة بحفظ مال المسلم الحيي، حتى وإن وافق على التفريط في حقه حياءً، فلا يجوز للآخذ أخذه. وقد صرح الشافعية والحنابلة أنه : إذا أخذ مال غيره بالحياء كأن يسأل غيره مالاً في ملأ فدفعه إليه بباعث الحياء فقط، أو أهدي إليه حياءً هدية يعلم المهدى له أن المهدي أهدى إليه بها حياءً: لم يملكه، ولا يحل له التصرف فيه، وإن لم يحصل طلب من الآخذ. فالمدار مجرد العلم بأن صاحب المال دفعه إليه حياءً، لا مروءة، ولا لرغبة في خير.
ومن هذا : لو جلس عند قوم يأكلون طعاماً، وسألوه أن يأكل معهم، وعلم أن ذلك لمجرد حيائهم، لا يجوز له أكله من طعامهم، كما يحرم على الضيف أن يقيم في بيت مضيفه مدة تزيد على مدة الضيافة الشرعية وهي ثلاثة أيام فيطعمه حياء.
فللمأخوذ بالحياء حكم المغصوب، وعلى الآخذ رده، أو التعويض عنه، ويجب أن يكون التعويض بقيمة ما أخذ أو أكل من زادهم، وقال ابن الجوزي : هذا كلام حسن لأن المقاصد في العقود معتبرة.
وما أحوجنا في هذا العصر أن نتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، وأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياء، حتى ندعو إلى هذا الدين بالخلق الحسن، فيدخل الناس في دين الله أفواجا كما حدث من قبل، نسأل الله أن يرزقنا وجميع المسلمين الحياء، ويجمعنا على الهداية والطاعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.