تعرضنا في مقالات سابقة لبيان معنى الرؤية وحقيقتها، وكذلك أقسامها، ووصلاً بما سبق من حديثنا عن الرؤية نتكلم اليوم في الرؤيا وعلاقتها بالوحي والأحكام الشرعية، ولعل هذا الموضوع يكشف سبب اهتمام العلماء والفقهاء بالرؤيا.
ذهب جمهرة المفكرين إلى أن الرؤيا تنبع من نفس المعين الذي تستقي منه النبوة والولاية، وإن كان حظها منه أقل كماً وكيفاً. وقد اختلفت وجهات نظرهم في تفاصيل هذه الفكرة، وإن التقت آخر الأمر عند تأييدها.
فالنفس ذات روحانية، مدركة من غير آلات بدنية، وأدوات حسية، وتكون عندئذ أقل في الدرجة من نفوس الملائكة، أهل الأفق العالي، الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن أو غيره.
وهذا الاستعداد السالف يقوم في النفس ما دامت في البدن، وهو على صنفين :
أ- صنف خاص يتهيأ للأولياء.
ب- وآخر عام في البشر جميعا، وهو الرؤيا الصادقة.
أما الاستعداد الذي يتهيأ للأنبياء، فإنه يكون بانسلاخ النفس من البشرية إلى الملكية المحضة، وهي أعلى الروحانيات. فالرؤيا على هذا طور ضعيف من أطوار النبوة، وبينها وبين النبوة مرتبة واضحة المعالم، يقوم فيها إلهام الأولياء الذي يعتبر ضعيفا بالإضافة إلى الوحي النبوي قويا بالقياس إلى وحي الرؤيا.
وهكذا تنتظم الثلاثة في سمط واحد؛ فلنتحدث عن صلة الرؤيا بكل منهما على حدة؛ فإن مثل هذا الحديث يزيد العلاقة وضوحا، ويكشف لنا عن مكان الرؤيا في مجال الإدراك الغيي.
صلة الرؤيا بالبنوة :
للرؤيا صلة وثيقة بالنبوة، فكما ذكرنا من قبل أنها مبدأ الوحي، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن رؤيا الأنبياء وحي، أما نزول الوحي على لسان الملك إبان اليقظة فيكون للرسل فيما يقول بعضهم، وبها يمكن ادعاء النبوة، على أن لا يكون المدعي مكثراً في أحلامه، ولا كاذبا في أحاديثه، فإن قلت : رؤاه وكان صدوقا وجب أن يتريث حتى تتكرر الرؤيا، فيقطع بصحتها، على أن لا ينسخ بها بعد ذلك شرعا، ولا يستأنف عبادة بطلت، أليست الرؤيا وحي الله إبان النوم.
وقيل : إن الوحي قد نزل به، وهو نائم في الغار إذا جاءه الملك وفي يده صحيفة، وقال له : اقرأ، فأجاب مأخوذاً : ما أقرأ ؟ إلى آخر ما ترويه كتب السيرة.
وهكذا ينزل وحي الأنبياء في المنام أول الأمر، فإذا هدأت قلوبهم هبط عليهم الوحي إبان اليقظة، وإن ذهب البعض إلى أن الوحي قد ينزل على الرسول في يقظته لا في منامه، على أن الرأي الراجح عند المسلمين أن الرؤيا كانت إيذانا بدعوة الإسلام، وإرهاصا برسالته؛ كانت الرؤيا بدء الوحي، وأضحت اليوم بعد انقطاعه المظهر الباقي للنبوة، والتراث الذي خلفته لنا، فإن الرسالة قد انقطعت بعد الرسول « لا رسول بعدي ولا نبي » فلما شق هذا على الناس، قال : « وبقيت بعدي المبشرات » قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : « الرؤيا الصادقة يراها الرجل الصالح، أو ترى له ».
ومما ورد في القرآن من أمثلة الرؤيا للأنبياء رؤيا نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ - فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ - وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ - إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ - وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات : 101 : 107]
يقول الرازي في تفسيره لهذه الآيات : « إنه رأى في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح »
فإن قيل : إما أن يقال : إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أن كل ما رآه في المنام فهو حق وحجة، أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم. فإن كان الأول : فلم راجع الولد في هذه الواقعة ؟ بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور، وأن لا يراجع الولد فيه، وأن لا يقول له : ﴿ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾، وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد : ﴿ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ وأيضا فلم قلتم : إنه بقي في اليوم الأول متفكرا ؟ ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة.
وإن كان الثاني، وهو : أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يروه في المنام حق، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة ؟ والجواب: لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا متردداً فيه، ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح والله أعلم».
النموذج الثاني الذي ذكره الله في القرآن عن رؤيا أحد الأنبياء وهو سيدنا يوسف عليه السلام فقال تعالى : ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ - قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [يوسف : 4،5] إلى أن قال سبحانه في نهاية السورة : ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقاًّ ﴾ [يوسف : 100]
وقال القرطبي في تفسيره لهذه الآيات : « فإن قيل : إن يوسف عليه السلام كان صغيراً وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم، حتى يقول له أبوه : ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ ؟
فالجواب : إن الرؤيا إدراك حقيقة فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام، وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه، وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة»... إلى أن قال : « وأظن أن سبب نصيحة يعقوب بعدم قص الرؤيا على الإخوة كان ذكره لها أمامهم، وليس معصية منه لأبيه، وهذا الذكر أشعل نار الحسد في قلوبهم على يوسف، وأن معنى النهي ألت تقصص رؤياك التي من هذا النوع مرة أخرى على إخوتك، والله أعلم.
ويؤخذ من هذا كله أن للرؤى مكانة وتأثيرا وتأويلا حقيقيا، حتى ارتقت لمثابة طريقة لإثبات حكم الله، أو طريقة لوصول حكم الله إلى أنبيائه فهي عظيمة الشأن لنا فيها المبشرات بعد انقطاع النبوة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الرؤيا الصالحة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا فيما سبق عن الرؤية، ومعناها، وحقيقتها في اللغة وفي كتب الأصول والفقه، وكذلك الرؤيا في نظر السادة الصوفية، ووصلاً بما سبق نستكمل الحديث عن الرؤيا؛ حيث سنتناول أنواع الرؤيا وأقسامها بشيء من التفصيل.
فكما اهتم العلماء والفقهاء المسلمون بتعريف الرؤيا وبيان حقيقتها، اهتموا كذلك ببيان أقسام هذه الرؤيا وأنواعها فهذا ابن القيم يتناول تلك الأقسام في كتابه الروح حيث يقول : « فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع : رؤيا من الله، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس. والرؤيا الصالحة أقسام : منها إلهام يلقيه الله في قلب العبد، وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام. ومنها : مثل يضربه ملك الرؤيا الموكل بها. ومنها : التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم ».
ويقول ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل : الرؤيا أنواع : منها : ما يكون من قبل الشيطان، وهو ما كان الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط. ومنها ما يكون من حديث النفس، وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة، فيراه في النوم من خوف عدو، أو لقاء حبيب، أو خلاص من خوف، ونحو ذلك. ومنها : ما يكون من غلبة الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار والزهر والحمر، والسرور. ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران، ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه. وكرؤية من غلب عليه السوداء الكهوف، والظلم والمخاوف. ومنها : ما يريه الله ـ عز وجل ـ نفس الحال إذا ضغث من أكدار الحسد، وتخلصت من الأفكار الفاسدة، فيشرف الله ـ تعالى ـ به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد، وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق »
ويقول الإمام محي الدين ابن العربي في الفتوحات : « الرؤيا ثلاث : 1- منها بشرى. 2- ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيرتقم في خياله، فإذا نام أدرك ذلك بالحس المشترك؛ لأنه تصوره في يقظته فيبقى مرتسما في خياله، فإذا نام وانصرفت الحواس إلى خزانة الخيال أبصرت ذلك. 3- والرؤيا الثالثة من الشيطان، وروينا في هذا حديثا صحيحا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : « إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا ثلاث فالرؤيا الصالحة بشرى من الله تعالى، ورؤيا من تحزين الشيطان، ورؤيا مما يحدث الرجل به نفسه، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم ولتفل ولا يحدث به الناس » الحديث.
والمرئي على ما قاله بعض الصوفية سواء كان على صورته الأصلية أو لا، قد يكون بإرادة المرئي، وقد يكون بإرادة الرائي، وقد يكون بإرادتهما معا، وقد يكون لا بإرادة من شيء منهما :
فالأول : كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور، وظهور الكامل من الأناسي على بعض الصالحين في صورة غير صورهم.
والثاني : كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه إلى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به.
والثالث : كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم باستنزاله إياه، وبعث الحق سبحانه إياه ﷺ.
والرابع : كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم، من غير قصد وإرادة منهما»
ويلخص الشيخ محمد علي الصابوني أنواع الرؤيا فيقول: « والرؤيا المنامية من عالم الغيب فقد تكون حقيقة واقعة، وقد تكون أضغاث أحلام أو من تلاعب الشيطان. وقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام: أحدها حديث النفس كمن يهمه أمر في نهاره ويشتغل فكره بقضية ما فيراها في منامه، ويسميها علماء النفس أحلام الذاكرة كالعاشق الولهان يجد معشوقته في منامه. والثانية أضغاث أحلام لا حقيقة لها بل هي من رعونة النفس وتلاعب الشيطان بالإنسان. والثالثة الرؤيا الصادقة التي هي بشرى من الرحمن، وهي الرؤيا الحسنة التي يراها المؤمن في منامه أو يراها له أخ صديق ».
وفي الذخيرة للقرافي رحمه الله تعالى قال الكرماني الرؤيا ثمانية أقسام سبعة لا تعبر وواحدة تعبر فقط . فالسبعة ما نشأ عن الأخلاط الأربعة الغالبة على الرائي .
فمن غلب عليه الدم رأى اللون الأحمر والحلاوات وأنواع الطرب أو الصفراء رأى الحرور والألوان الصفر والمرارات . أو البلغم رأى المياه والألوان البيض والبرد . أو السوداء رأى الألوان السود والمخاوف والطعوم الحامضة . ويعرف ذلك بالأدلة الطبية الدالة على غلبة ذلك الخلط على ذلك الرائي .
الخامس : ما هو من حديث النفس ويعلم ذلك بجولانه في النفس في اليقظة.
السادس : ما هو من الشيطان ويعرف بكونه يأمر بمنكر أو معروف يؤدي إلى منكر كما إذا أمره بالتطوع بالحج فيضيع عائلته وأبويه.
السابع : ما يكون فيه احتلام .
والذي يعبر هو ما ينقله ملك الرؤيا من اللوح المحفوظ , فإن الله تعالى أمره أن ينقل لكل واحد أمور دنياه وأخراه من اللوح المحفوظ كذلك . انتهى ما قاله الكرماني رحمه الله .
وذكر الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة في تأليفه الذي أجاب فيه عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المدعى عليها التناقض والاختلاف حين تكلم على أقسام الرؤيا فقال : وإنما يكون الرؤيا الصحيحة التي يأتي بها الملك من نسخة أم الكتاب في الحين بعد الحين .
نستخلص من النقول السابقة أن الرؤيا لها أقسام، وتختلف هذه الأقسام باختلاف اعتبارات معينة، فمن كان يتكلم عن الرؤيا عموما بالأقسام الثلاثة الواردة في الحديث فهو يقلل في الأقسام، ومن كان يتكلم في تفصيل الرؤيا من الله ، وتفصيل حديث النفس فإنه يكثر من التقسيم.
وما اهتم العلماء المسلمون بهذا البعد في حياة الإنسان إلا لأهميته وتأثيره سلباً وإيجاباً على سلوكهم بين الناس وإلى الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العلي القدير أن يحسن سيرنا إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشريعة الإسلامية منهج ينظم جميع شئون الحياة المدركة في عالم الحس، فترى حكم الشرع يتطرق إلى جميع مجالات الحياة من الصناعة والتجارة والطب والحياة الاجتماعية، ولم يقتصر على العبادات أو العقائد كما يظن البعض.
بل إن الشريعة الإسلامية اهتمت ببعد آخر في حياة الإنسان، وهو النوم وما يحدث قبله من أمور ندب إليها الشرع كالوضوء قبله، وذكر الله، والنوم على الشق الأيمن، كما اهتمت بما يحدث في النوم من مشاهدات وخيالات ومبشرات ومحزنات، وهو ما يسمى بالرؤيا التي يراها النائم. فالشريعة الإسلامية لم تترك شيئا ولو بسيطاً ولو يراه بعضهم غير مهم إلا وفصلت فيه القول تفصيلاً قال تعالى : ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام : 38].
اهتمام العلماء ببيان حقيقة النوم :
قال ابن نجيم : والنوم وهو فترة تعرض مع العقل توجب العجز عن إدراك المحسوسات، والأفعال الاختيارية، واستعمال العقل، وهو المراد بقوله : «عجز عن استعمال القدرة» أي عن الإدراكات، أي : الإحساسات الظاهرة؛ إذ الحواس لا تسكن في النوم وعن الحركات الإرادية، أي : الصادرة عن قصد واختيار، بخلاف الحركات الطبيعية، كالتنفس ونحوه.
والكلام عن النوم بمثابة التقديم للكلام عن الرؤيا؛ إذ هي بيت القصيد ولذلك سيتم تناولها بشيء من التفصيل.
الرؤيا في اللغة :
والرؤيا بالهاء : خاصة بما يدرك بحاسة البصر، الرؤيا (بالألف) تستعمل فيما يدركه النائم غالباً، وتجمع على (رؤى) بضم الراء والتنوين، وقد تستعمل قليلا فيما يدرك بحاسة البصر.
الرؤيا في الشرع :
قال المازري : إن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات، فكأنه جعلها علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو، فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره، والجميع من خلق الله.
الفرق بين الرؤيا والحلم :
في الكلام السابق للمازري يقرر أن ما يراه النائم هو اعتقادات يخلقها الله في قلبه، وهذا يورد إشكالاً في فهم حديث النبي ﷺ : « الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان » [متفق عليه]؛ لأن الحلم يراه النائم، وحل هذا الإشكال أن الرؤيا أحاديث الملك الموكل بالأرواح، والحلم وسوسة الشيطان والنفس، فيكون المقصود أنها اعتقادات يخلقها الله في قلب النائم، فإن كانت بواسطة الملك فهي رؤيا. وإن كانت وساوس الشيطان فهي الحلم، والخالق لهما على الحقيقة هو الله لأن الفاعل في الكون الله وحده سبحانه وتعالى.
الرؤية عند الصوفية :
ذكر بعض أكابر الصوفية : « إن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال، وهو قد يتأثر من العقول السماوية، والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية، فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني، وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط، فيظهر فيه صور تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ، وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية إلى إيجاد صورة من الصور، كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلا قويا، فتظهر صورته في خياله، فيشاهده، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي».
وقال الإمام محيي الدين بن العربي : « اعلم أن مبدأ الوحي الرؤيا الصادقة، وما هي بأضغاث أحلام، وهي لا تكون إلا في حال النوم، قالت عائشة رضي الله عنها : « أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح». [متفق عليه]. وإنما بدئ الوحي بالرؤيا دون الحس؛ لأن المعاني المعقولة أقرب إلى الخيال منها إلى الحس؛ لأن الحس طرف أدنى، والمعنى طرف أعلى، وألطف، والخيال بينهما، والوحي معنى، فكان بدء الوحي إنزال المعاني المجردة العقلية في القوالب الحسية المقيدة في حضرة الخيال في نوم كان او يقظة، وهو من مدركات الحس في حضرة المحسوس، فإذا أراد المعنى أن ينزل إلى الحس فلابد أن يعبر على حضرة الخيال قبل وصوله إلى الحس، والخيال من حقيقته أنت يصور كل ما حصل عند صورة المحسوس.
فإن كان ورود ذلك الوحي الإلهي في حال النوم سمي رؤيا، وإن كان في حال اليقظة سمي تخيلا، أي : خيل إليه؛ فلهذا بدئ الوحي بالخيال، ثم بعد ذلك انتقل الخيال إلى الملك من خارج، فكان يتمثل له الملك رجلا، أو شخصا من الأشخاص المجركة بالحس، فقد ينفرد هذا الشخص المراد بذلك الوحي بإدراك هذا الملك، وقد يدركه الحاضرون معه، فيلقي على سمعه حديث ربه، وهو الوحي، وتارة ينزل على قلبه ﷺ فتأخذه البرحاء (أي شدة الكرب من ثقل الوحي) وهو المعبر عنه بالحال، فإن الطبع لا يناسبه فلذلك يشتد عليه، وينحرف له مزاج الشخص إلى أن يؤدي ما أوحي به إليه ثم يسرى عنه فيخبر بما قيل له ».
فالرؤيا لا تختص بالأنبياء، بل هي لجميع المسلمين، وتتأكد مصداقيتها بتقارب الزمان كما ببشر بذلك النبي ﷺ حيث قال : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا ثلاث فالرؤيا الصالحة بشرى من الله تعالى، ورؤيا من تحزين الشيطان، ورؤيا مما يحدث الرجل به نفسه، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم ولتفل ولا يحدث به الناس » [متفق عليه].
علمنا في المرة السابقة كيف كانت جهود حكام المسلمين وأمرائهم في إعادة إعمار المسحد النبوي الشريف، ونتحدث في هذه المرة عن إعادة إعمار القبة النبوية الشريفة بشكل منفصل نظرا لأهميتها وخصوصية معناها في قلوب المسلمين، كما نتحدث بإجمال عن باقي التوسيعات.
ففي عام 678هـ أمر السلطان المملوكي المنصور قلاوون الصالحي بعمارة قبة فوق الحجرة النبوية الشريفة، فجاءت مربعة من أسفلها، مثمنة من أعلاها، مصنوعة من أخشاب كسيت بألواح بالرصاص. وفي الفترة من عام 755 – 762هـ جدَّد الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ألواح الرصاص التي على القبة الشريفة. وفي عام 765هـ عمل السلطان شعبان بن حسين بعض الإصلاحات في القبة الشريفة. وفي عام 881هـ أبدل السلطان قايتباي سقف الحجرة الخشبي بقبة لطيفة، جاءت تحت القبة الكبيرة.
وفي عام 886هـ احترقت القبة الكبيرة باحتراق المسجد النبوي الشريف، فأعاد السلطان قايتباي بناءها بالآجر عام 892هـ، ثم ظهرت بعض الشقوق في أعاليها فعمل لها بعض الترميمات، وجعلها في غاية الإحكام. وفي عام 974هـ أصلح السلطان سليمان القانوني العثماني رصاص القبة الشريفة ووضع عليها هلالاً جديدًا. وفي عام 1228هـ جدَّد السلطان محمود الثاني العثماني القبة الشريفة، ودهنها باللون الأخضر، فاشتهرت بالقبة الخضراء، بعد أن كانت تعرف بالبيضاء أو الزرقاء أو الفيحاء.
ثم كانت التوسعة السادسة للمسجد النبوي، وقد جمعت هذه التوسعة بين التوسعة، وبين إعادة الإعمار، فقد حصل الحريق الثاني للمسجد النبوي عام 886هـ فتمت الكتابة بذلك للسلطان الأشرف قايتباي، فحزن حزنًا شديدًا، وأرسل بالأموال والصناع والمواد اللازمة، وأمر بإعمار المسجد، وقد امتدت العمارة حتى رمضان 888هـ، وجرى زيادة على مساحة المسجد الأولى مقدارها : 120م2، وأصبحت المساحة الكلية للمسجد : 9010م2. وبلغ ارتفاع الجدران: 11م، وعدد الأروقة 18 رواقًا، وسدت معظم أبواب التوسعة العباسية، وبقي للمسجد 4 أبواب فقط، وزيدت مئذنة في المسجد فصار عدد المآذن خمسًا. وأحدثت شرفات ونوافذ وطاقات في الأجزاء العليا من الجدران للتهوية والإضاءة، وبقي للمسجد ساحة داخلية واحدة. أما الإنارة فهي كالسابق بقناديل الزيت الموزَّعة في أنحاء المسجد.
وبعد انتهاء البناء، حضر السلطان الأشرف إلى المدينة، وأوقف بعض الأوقاف على المسجد النبوي الشريف، ومنها: رباط، ومدرسة، وطاحون، وسبيل، وفرن، وغير ذلك.
وكانت التوسعة السابعة في عهد السلطان العثماني عبد المجيد، وأهم ما أضيف في تلك المرة هو الإنارة الكهربائية كانت الإنارة عن طريق 600 مصباح زيتي، ثم أدخلت الإنارة الكهربائية، وأضيء المسجد لأول مرة في 25 من شعبان 1326هـ، وزادت مساحة المسجد في هذه المرة حيث أصبحت المساحة الكلية للمسجد: 10303م2، وارتفاع الجدران: 11م، وعدد الأروقة: 19 رواقًا، والأبواب: 5 أبواب، والمآذن 5 مآذن، يتراوح ارتفاعها بين 47.50 و 60م، وأصبح عدد الأعمدة: 327 عمودًا، والقباب: 170 قبة. وبقي للمسجد ساحة داخلية واحدة، وبني في أقصى الجهة الشمالية من المسجد كتاتيب لتعليم القرآن الكريم، وفتح لها طاقات بشبابيك من حديد خارج المسجد وداخله، وتمت إنارة المسجد بوضع: 600 مصباح زيتي، موزعة في أنحاء المسجد.
ومنذ التوسعة الثامنة وحتى العاشرة فكانت بعد الدولة السعودية الحديثة، والتي أنشئت على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وكانت التوسعة الثامنة في عهد الملك عبد العزيز آل سعود (1370 -1375هـ) وبلغت المساحة المضافة في هذه التوسعة 6024م2. وقد احتفظت التوسعة بالأبواب الخمسة التي كانت في التوسعة المجيدية، وأضافت إليها مثلها، فأصبح مجموع الأبواب بعد هذه التوسعة عشرة أبواب، ثلاثة منها بثلاثة مداخل. وفي ركني الجهة الشمالية أقيمت مئذنتان ارتفاع الواحدة 72م تتكون من أربعة طوابق، وبهذا يصبح مجموع المآذن بعد التوسعة أربع مآذن.
ثم كانت التوسعة التاسعة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز (1393هـ) أضيفت مساحة 40.550م في الجهة الغربية الخارجية للمسجد على مرحلتين: الأولى: 35.000م2، والثانية: 5.550م2.
وكانت التوسعة العاشرة في 18 من رجب عام 1397هـ خصص الملك خالد الأرض الواقعة في الجنوب الغربي من الحرم النبوي الشريف لخدمات المصلين والزائرين، حيث أقيم على قسم منها مظلات للصلاة تحتها، والمساحة الباقية جعلت مواقف لسيارات المصلين والزائرين. بلغت مساحة هذه الأرض 43000م2.
التوسعة الأخيرة الكبرى التي قام بها خادم الحرمين الشريفين رحمه الله الملك فهد بن عبد العزيز، وكانت في الفترة ما بين (1405-1414 هـ) وبلغت مساحة تلك التوسعة الإجمالية 384000م مما جعل المساحة الكلية للمسجد الحالية 98327 مترا مربعا، مستوعبا نحو 167 ألف مصلي، يضاف إليها مساحة 67 ألف متر مربع وهي مساحة سطح المبنى الجديد، والذي يستوعب 90 ألف مصل، كما يمكن استخدام مساحة الساحات المحيطة، والتي تبلغ 235 ألف متر مربع، لاستيعاب 450 ألف مصل، وليبلغ إجمالي مساحة الحرم النبوي، شاملة الأسطح والساحات نحو 400327 مترا مربعا، بتضاعف قدره 25 مرة عن كامل التوسعات السابقة، ولتستوعب المساحة الجديدة أكثر من 707 آلاف مصل، في الفترات العادية، وما يزيد على المليون مصل في أوقات الذروة، وقد أصبح مجموع أبواب الحرم النبوي الشريف بعد التوسعة الجديدة 86 باباً.
فكانت هذه التوسعة أعظم التوسيعات، وكانت من أكبر حسنات الملك الراحل رحمه الله تعالى. (يتبع)
تكلمنا في مقالات سابقة عن بداية تاريخ المسجد، وكيفية بنائه، وذكرنا التوسعة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم توسعة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووصلا بما سبق نتحدث بشيء من الإجمال عن باقي التوسيعات.
ففي عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كانت التوسعة الثالثة، فمع مرور السنين ازداد عدد المسلمين، وضاق المسجد النبوي الشريف بالمصلين، وساءت حال أعمدته، فأمر الخليفة عثمان سنة 29هـ بزيادة مساحة المسجد وإعادة إعماره، فاشترى الدور المحيطة به من الجهات الشمالية والغربية والجنوبية، ولم يتعرض للجهة الشرقية لوجود حجرات زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها. وتم البناء بالحجارة المنقوشة (المنحوتة) والجص، وبنى الأعمدة من الحجارة، ووضع بداخلها قطع الحديد والرصاص لتقويتها، وبنى السقف من خشب الساج القوي الثمين المحمول على الأعمدة. وأصبحت المساحة الكلية للمسجد: 4071م2، بزيادة قدرها 496م2، وبلغ ارتفاع الجدران 5.50م، وعدد الأروقة: 7 أروقة، وعدد الأبواب: 6 أبواب، وعدد الأعمدة: 55 عمودًا، وله ساحة داخلية واحدة. وفي هذه العمارة ظهر لأول مرة بناء المقصورة في محراب المسجد لحماية الإمام، وبها فتحات يراه منها المصلون. وصارت إنارة المسجد تتم بواسطة قناديل الزيت الموزعة في أنحاء المسجد.
وكانت التوسعة الرابعة في عهد الوليد بن عبد الملك حيث أمر واليه على المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز سنة 88هـ بزيادة مساحة المسجد وإعادة إعماره، ووفر له المواد الضرورية والعمال اللازمين، فشرع عمر ببناء المسجد، واستمر البناء إلى عام 91هـ. وقد أحدثت هذه العمارة تغييرات كثيرة في مبنى المسجد، وأضافت إليه عناصر جديدة لم تكن موجودة من قبل، ومنها: بناء المآذن الأربعة على أركان المسجد، وإيجاد المحراب المجوف، وزخرفة حيطان المسجد من الداخل بالرخام والذهب والفسيفساء، وتذهيب السقف ورؤوس الأساطين، وعتبات الأبواب. وقد تمت التوسعة من جميع الجهات بما فيها الجانب الشرقي، حيث أدخلت الحجرات الشريفة، وعمل حولها حاجز من خمسة أضلاع، بلغت مساحة المسجد بعد هذه التوسعة 6440م2، بزيادة قدرها: 2369م2، وارتفاع الجدران: 12.50م، وعدد الأروقة: 17 رواقًا، وعدد الأبواب: 4 أبواب، وعدد النوافذ: 14 نافذة، وارتفاع المآذن يتراوح بين 27.50 و 30 مترًا، وله ساحة داخلية واحدة. وما زالت الإنارة تتم في المسجد بواسطة قناديل الزيت الموزعة في أنحائه.
وكانت التوسعة الخامسة في عهد الخليفة المهدي العباسي (161 - 165هـ)، وقد تركزت الزيادة على الجهة الشمالية للمسجد، واستمر البناء فيها حتى عام 165هـ، وكان مقدار الزيادة: 2450م2، وأصبحت المساحة الكلية للمسجد: 8890 م2. وبلغ ارتفاع جدران المسجد: 12.50م، وعدد الأروقة: 19 رواقًا، وعدد الأبواب: 24 باباً. وبلغ عدد النوافذ في المسجد: 60 نافذة، منها : 19 نافذة في كل من الجدارين الشرقي والغربي، و11 نافذة في كل من الجدارين الشمالي والجنوبي. وبذلك تحققت الإضاءة الطبيعية، والتهوية الجيدة للمسجد، وأما الإنارة ليلاً فكانت تتم -كالسابق- بواسطة قناديل الزيت الموزعة على أنحاء المسجد.
زار الخليفة المهدي العباسي المسجد النبوي الشريف سنة 160هـ، فرأى الحاجة إلى توسعته وإعادة إعماره، فأمر بذلك، ولما عاد إلى مركز الخلافة في بغداد أرسل الأموال اللازمة لذلك.
ثم توقفت التوسيعات فترة من الزمن بسبب ما أصابها من عدوان خارجي، وبسبب ما أصاب المسجد النبوي من حوادث أدت إلى الاتجاه إلى ما يسمى بإعادة إعمار المسجد، فقد حصل الحريق الأول للمسجد النبوي أول رمضان سنة 654هـ في عهد الخليفة العباسي المستعصم، ولما علم الخليفة بذلك بادر سنة 655هـ بإصلاح المسجد وإعادة إعماره، وأرسل الأموال اللازمة لذلك، ولكن البناء لم يتم بسبب غزو التتار وسقوط بغداد سنة 656هـ.
فتولى الأمر بعد ذلك السلاطين المماليك في مصر، فتمت عملية البناء والترميم سنة 661هـ، وعاد المسجد إلى ما كان عليه قبل الحريق، وكان ممن ساهم في بناء المسجد وتأثيثه ملك اليمن المظفر الذي أرسل منبرًا جديدًا بدلاً من المنبر المحترق. وأرسل الظاهر بيبرس سنة 665هـ مقصورة خشبية لتوضع حول الحاجز المخمس المحيط بالحجرات الشريفة، ثم بنى السلطان المملوكي المنصور قلاوون سنة 678هـ القبة التي فوق الحجرة الشريفة، وأصبحت منذ ذلك الحين علامة مميزة للمسجد النبوي. وفي عام 706هـ، أمر السلطان محمد بن قلاوون ببناء المئذنة الرابعة (مئذنة باب السلام التي هدمت في العهد الأموي).
كانت تلك الحوادث التي أصابت المسجد النبوي الشريف سببًا في تلك الجهود التي انصبت في إعادة إعماره. (يتبع)
عرفنا في المرة السابقة كيف اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مكان مسجده، وحجراته الشريفة، وقصة بناء المسجد يرويها الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث يقول : (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم إنه أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا متقلدين بسيوفهم، قال : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب.
قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته في مرابض الغنم، ثم إنه أمر بالمسجد قال : فأرسل إلى ملإ بني النجار، فجاؤوا، فقال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال أنس : فكان فيه ما أقول : كان فيه نخل، وقبور المشركين، وخرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال : فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال : فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وهم يقولون :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ** فانصر الأنصار والمهاجرة)
[رواه البخاري ومسلم].
فتم البناء وأسَّس النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في ربيع الأول من العام الأول من هجرته، وكان طوله سبعين ذراعًا، وعرضه ستين ذراعًا، أي ما يقارب 35 متراً طولاً، و30 مترًا عرضًا. وجعل أساسه من الحجارة، والدار من اللَّبِن وهو الطوب الذي لم يحرق بالنار، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبني معهم اللَّبِن والحجارة، وكان سقفه من الجريد، وله ثلاثة أبواب : الباب الأول: في الجهة الجنوبية. الباب الثاني: في الجهة الغربية، ويسمى باب عاتكة، ثم أصبح يعرف بباب الرحمة. الباب الثالث: من الجهة الشرقية، ويسمى باب عثمان، ثم أصبح يعرف بباب جبريل، وكانت إنارة المسجد تتم بواسطة مشاعل من جريد النخل، توقد في الليل.
ظلَّ هذا الوضع دون تغيير لمدة 17 شهرًا أو يزيد، وهي مدة صلاة المسلمين ناحية بيت المقدس، فلما نزلت آية تحويل القبلة في صلاة الظهر قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإجراءات اللازمة في مسجده الشريف، فأغلق الباب الكائن في الجدار الجنوبي -جدار القبلة الحالية- وفتح بدلاً منه بابًا في الجدار الشمالي -جدار القبلة سابقًا-.
مر المسجد النبوي بعشر توسيعات بعد توسعة النبي صلى الله عليه وسلم، فمجموع التوسيعات التي حدثت للمسجد إحدى عشرة توسعة، وكانت الأولى منها في عهد النبي، والباقي على امتداد التاريخ منذ عهد الخلفاء حتى هذه الأيام، فالأولى عندما عاد النبي –صلى الله عليه وسلم- من غزوة خيبر حيث قام بأول توسعة لمسجده الشريف على قطعة أرض اشتراها سيدنا عثمان بن عفان –رضي الله عنه- على نفقته؛ وذلك نظرًا لزيادة عدد المسلمين، وقد تم ذلك في المحرم سنة 7هـ، فزاد 20 مترًا في 15 مترًا تقريبًا، حتى صار المسجد مربعًا 50م×49.5م2، ومساحته الكلية 2475م2، بزيادة قدرها: 1415م2، وبلغ ارتفاع الجدران 3.50م، وعدد الأبواب: 3 أبواب، وعدد الأعمدة 35 عمودًا، وكانت الإنارة عبارة عن مشاعل من جريد النخل، إضافة لبعض الأسرجة التي توقد بالزيت.
والتوسعة الثانية كانت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 17 هـ، فقد كثر عدد المسلمين في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وظهر تصدع ونخر في بعض أعمدة المسجد، فقرَّر عمر -رضي الله عنه- عام 17هـ توسعة المسجد.
وقد امتدت التوسعة في ثلاث جهات: إلى الجنوب خمسة أمتار، وإلى الغرب عشرة أمتار، وإلى الشمال خمسة عشر مترًا. ولم يزد في الجهة الشرقية لوجود حجرات أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد هذه التوسعة، صارت مساحته الكلية: 3575م2، بزيادة قدرها: 1100م2، وارتفاع جدرانه 5.50م، وعدد أبوابه: ستة أبواب، وله ستة أروقة، وجعل له ساحة داخلية (صحن المسجد) فرشت بالرمل والحصباء من وادي العقيق. وجعل له ساحة أخرى خارجية، تسمى "البطيحاء"، وهي ساحة واسعة تقع شمال المسجد، أعدت للجلوس لمن يريد التحدث في أمور الدنيا وإنشاد الشعر، وذلك حرصًا من الخليفة عمر -رضي الله عنه- على أن يظل للمسجد هيبته ووقاره في قلوب المسلمين. وظلت إنارة المسجد تتم بواسطة الأسرجة التي توقد بالزيت.
فكانت هذه التوسعة مناسبة لازدياد عدد المسلمين، كما كانت مناسبة لأدوات العصر ومواد البناء وقتها. (يتبع)
تكلمنا في مقالات سابقة عن المدينة المنورة وأهم أماكنها المباركة، وقد أجلنا الكلام عن المسجد النبوي الشريف لعظم شأنه، وها نحن نفرد له مجموعة مقالات خاصة به.
فالمسجد النبوي الشريف أفضل بقعة على وجه الأرض، بل هو أفضل مكان في الوجود، وذلك لأن المسجد النبوي الآن يحتوي على القبر الشريف الذي يضم الجسد الطاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمكان الذي يضم جسد أعظم المخلوقات هو أفضل الأمكنة على الإطلاق، قال العلماء : إنه أفضل بقاع الأرض حتى المسجد الحرام، وحتى الكعبة المشرفة، وإنه أفضل من السماوات حتى العرش والكرسي، فمن ذلك ما ذكره الإمام السبكي، حيث يقول (أما المدفن الشريف فلا يشمله حكم المسجد، بل هو أشرف من المسجد، وأشرف من مسجد مكة (يعني بيت الله الحرام) وأشرف من كل البقاع، كما حكى القاضي عياض الإجماع على ذلك، أن الموضع الذي ضم أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا خلاف في كونه أفضل.. ثم قال : ونظم بعضهم :
جزم الجميع بأن خير الأرض ما ** قد أحاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ** كالنفس حين زكت زكا مأواها
[فتاوى السبكي، ج1 ص 278] والذي قال هذه الأبيات هو محمد بن عبد الله البسكري المغربي.
فهو أفضل البقاع، وهو وثاني مسجد الحرمين الشريفين، اختار موقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى المدينة مهاجرًا، وشارك في بنائه بيديه الشريفتين مع أصحابه رضوان الله عليهم، وصار مقر قيادته، وقيادة الخلفاء الراشدين من بعده، ومنذ ذلك التاريخ وهو يؤدي رسالته موقعًا متميزًا للعبادة، ومدرسة للعلم والمعرفة ومنطلقًا للدعوة، وظل يتسع ويزداد، ويتبارى الملوك والأمراء والحكام في توسعته وزيادته حتى الآن.
ومن المفيد أن نتعرف على لمحة تاريخية عن ذلك المسجد العظيم، فبعد أن أقام النبي صلى الله عليه وسلم أيامًا بقباء، وبنى فيها مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، وقد تكلمنه عنه في مقالة سابقة.
خرج منها راكبا ناقته متوجها حيث أمره الله، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في بطن الوادي، فخرج إليه رجال من بني سالم منهم العباس بن عبادة وعتبان بن مالك، فسألوه أن ينزل عندهم ويقيم، فقال : خلوا الناقة فإنها مأمورة.
ونهض الأنصار حوله حتى أتى دور بني بياضة، فتلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو في رجال منهم، فدعوه إلى النزول والبقاء عندهم، فقال عليه السلام : دعوا الناقة فإنها مأمورة، ومضى حتى أتى دور بني ساعدة، فتلقاه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ورجال من بني ساعدة، فدعوه إلى النزول والبقاء عندهم، فقال صلى الله عليه وسلم : دعوا الناقة فإنها مأمورة.
ومضى حتى أتى دور بني الحارث بن الخزرج، فتلقاه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبدالله بن رواحة، فدعوه صلى الله عليه وسلم إلى البقاء عندهم، فقال دعوا الناقة فإنها مأمورة، ومضى صلى الله عليه وسلم حتى أتى دور بني عدي بن النجار، وهم أخوال عبدالمطلب، فتلقاه سليط بن قيس، وأبو سليط يسيرة بن أبي خارجة، ورجال من بني عدي بن النجار، فدعوه إلى النزول عندهم والبقاء، فقال دعوها إنها مأمورة.
ومضى صلى الله عليه وسلم حتى أتى دور بني مالك بن النجار، فبركت الناقة في موضع مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مربد تمر لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل، وكانا في حجر معاذ بن عفراء، وكان فيه وحواليه نخل وخرب وقبور للمشركين، فبركت الناقة فبقي عليه السلام على ظهرها لم ينزل، فقامت ومشت قليلا -وهو لا يهيجها- ثم التفتت خلفها فكرت إلى مكانها وبركت فيه واستقرت، فنزل عنها صلى الله عليه وسلم.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ناقته أخذ أبو أيوب رحله فحمله إلى داره، ونزل صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب في بيت منها عليته مسكن أبي أيوب، وكان أبو أيوب قد أراد أن ينزل له عن ذلك المسكن ويسكنه فيه، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد أيام سقط شيء من ماء أو غبار على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك البيت، فنزل أبو أيوب وأقسم على رسول الله وأبدى الرغبة له ليطلعن إلى منزله ويهبط أبو أيوب عنه، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكنًا عند أبي أيوب حتى بنى مسجده وحجره ومنازل أزواجه. (يتبع)
تكلمنا في المرة السابقة عن مسجد القبلتين، وجبل أحد، ووصلاً بما سبق نكمل الحديث عن ذلك الجبل العظيم الذي أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، يحتوي جبل أحد على مسجد وغار صغير، كما أن في ساحته مقبرة شهداء أحد.
وأول تلك الأماكن المباركة التي يحتوي عليها هذا الجبل مسجد جبل أحد أو مسجد الفسح، وهو مسجد صغير يقع أسفل الجبل، في طرف الشعب المؤدي إلى المهراس جنوب الغار الذي يبعد (100م) تقريباً.
وقد وصله العمران الآن، وأصبح وسط المنازل الشعبية، وقد تهدم أكثره، ولم يبقي إلا جزء بسيط منه، وهو محاط بالسياج، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد الصغير الذي بأحد في شعب الجرار على يمينك لازقا بالجبل. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بعد انتهى المعركة.
ويسمى هذا المسجد الفسح، قيل أن سبب تسميته بهذا الاسم أن المسجد كان ضيقًا فازدحم الناس للصلاة فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يجد البعض مكانًا يقف فيه للصلاة، فكانت هذه الحادثة سببًا في نزول قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة :11].
ومن معالم أحد كذلك حي سيد الشهداء، ويقع بسفح جبل أحد، ويبعد عن المسجد النبوي الشريف مسافة أربعة كيلومترات تقريباً شمالاً، ومن أبرز الأسماء التي عرف بها حي سيد الشهداء : حي الشهداء، وحي أحد، وحي سيدنا حمزة، ويمتد حي سيد الشهداء بمحاذاة جبل أحد بطول 8 كيلومترات تقريباً من الشرق إلى الغرب، ويخترقه وادي قناة ويتوسطه جبل الرماة ويحده من الشرق طريق المطار ومن الجنوب الخط الدائري الثاني ومن الغرب طريق العيون.
يعتبر موقع حي سيد الشهداء من المواقع التاريخية، وله مكانه عظيمة في نفوس المسلمين حيث يشرف عليه جبل أحد وفيه كانت معركة أحد المشهورة، ويضم ثراه أكثر من سبعين شهيداً، من أعظم شهداء الأرض ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء)، ومصعب بن عمير أول داعية بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، وحنظله بن عامر (غسيل الملائكة) وفيهم عبدالله بن جحش، وشماس بن عثمان، وعقيل أبن أبي أمية رضى الله عنهم أجمعين.
ومقبرة شهداء أحد تعد مزاراً يرتاده القادمون إلى المدينة وزوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك برًا لهؤلاء العظماء وصلة لهم، وتبركا به، وقبل ذلك كله إتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الحديث الذي يرويه العطاف بن خالد المخزومي، عند عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم : (زار قبور الشهداء بأحد، فقال: اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، وأنه من زارهم وسلم عليهم إلى يوم القيامة ردوا عليه. قال العطاف : وحدثتني خالتي أنها زارت قبور الشهداء، قالت : وليس معي إلا غلامان يحفظان علي الدابة. قالت : فسلمت عليهم فسمعت رد السلام. قالوا : والله إنا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضا. قالت : فاقشعررت، فقلت يا غلام ادن بغلتي فركبت) [أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال عقبه : هذا إسناد مدني صحيح ولم يخرجاه، يقصد البخاري ومسلم وهو على شرطهما].
وما زال في المدينة كثير من الأماكن المباركة والمساجد الأثرية التي يشتاق لها المسلمون، كالمساجد السبع وتقع هذه المساجد الصغيرة في الجهة الغربية من جبل سلع، عند جزء من الخندق الذي حفره المسلمون في غزوة الأحزاب للدفاع عن المدينة المنورة، وكانت هذه المساجد مواقع مرابطة ومراقبة في تلك الغزوة، وقد سمي كل مسجد باسم من رابط فيه، عدا مسجد الفتح الذي بني في موقع قبة ضربت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المساجد على التوالي من الشمال إلى الجنوب هي : مسجد الفتح، مسجد سلمان الفارسي، مسجد أبي بكر الصديق، مسجد عمر بن الخطاب، مسجد علي بن أبي طالب، مسجد فاطمة الزهراء، ويسمى أيضا الأخير بمسجد سعد بن معاذ.
وهناك مساجد أخرى غير تلك السبعة كمسجد الراية، والجمعة، والميقات، والإجابة، والعنبرية، والسجدة، المستراح، وكلها مساجد مباركة لتسميتها بهذه الأسماء علاقة بأحداث نبوية مباركة ، ونكتفي بما ذكرناه من أماكن مقدسة في مدينة رسول الله، رزقنا الله زيارتها وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمين.
تكلمنا في مقالة سابقة عن البقيع، وعن مسجد قباء باعتبارهما من أهم معالم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المسجد النبوي المبارك، والذي سنفرد له مقالات فيما بعد، ووصلا بما سبق نتكلم في هذه المرة عن مسجد ذي القبلتين، وجبل أحد.
مسجد ذي القبلتين هو المسجد الذي شهد نزول الوحي بتغير القبلة من المسجد الأقصى ببيت المقدس في القدس إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك ظهر يوم الثلاثاء النصف من شهر شعبان من السنة الأولى للهجرة النبوية المباركة، فمن ذلك الحين وهو يعرف المسجد يعرف بمسجد (ذو القبلتين) أو (مسجد القبلتين)، وفي ذلك التحويل إشارة لانتقال الريادة الدينية من القدس إلى مكة، ومن بني إسرائيل إلى العرب، ولقد أشار العهد الجديد لمسألة تحويل القبلة، ففي إنجيل يوحنا في حوار المرأة مع المسيح يقول : « قالت له المرأة : يا سيدي أرى أنك نبي ـ آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه ـ فقال لها يسوع : يا امرأة صديقني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون » [يوحنا : 4/ 19، 20، 21].
فجاء القرآن الكريم محققا لتلك النبوءة، قال تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة : 142] وقال سبحانه : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة : 144].
وهو مسجد ينسب لبني حرام من بني سلمة، وتذكر بعض المصادر أن بني سواد بن غنم بن كعب هم الذين أقاموه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف بمسجد القبلتين أو ذو القبلتين، بعد تحويل القبلة، ويقع في شمال غربي المدينة المنورة على مقربة من مسجد الفتح، ويقع في الجنوب الغربي من بئر رومة قرب وادي العقيق وفوق رابية مرتفعة قليلاً، ويبعد عن المسجد النبوي خمسة كيلو مترات بالاتجاه الشمالي الغربي. وفيه محرابان؛ الأول : مبني في الاتجاه الذي كان يصلي إليه النبي صلى الله عليه وسلم، نحو بيت المقدس في الركعتين الأوليتين من صلاة الظهر قبل نزول الآية التي تخبر بتغيير جهة القبلة.
جدد بناء المسجد في عهد عمر بن عبد العزيز (87 ـ93هـ ) ، وجدد ثانية في عهد السلطان القانوني عام 950هـ. وتم تطويره؛ وتوسعته فأزيلت الرابية وأقيم مكانها مبنى جديد واسع يتألف من طابقين؛ الطابق الأرضي: ويشمل: الميضأة، والمستودعات، والوحدات السكنية للإمام والمؤذن. أما الطابق العلوي : ففيه المصلى، ومساحته 1190مترًا مربعًا، وخصصت شرفة واسعة مساحتها 400 متر مربع للنساء تطل على ساحة المصلى، ورواق لتحفيظ القرآن الكريم، كما أقيم بجانبه فناء داخلي غرس بالأشجار.
ومن أهم معالم المدينة المنورة كذلك (جبل أحد) ، ويقع في الجهة الشمالية منها، وهو في الحقيقة سلسلة متصلة من الجبال يمتد من الشرق إلى الغرب، ويميل نحو الشمال قليلا، يبلغ طوله سبعة كيلومترات وعرضه ما بين 2- 3 كيلومترات.
ومعظم صخور جبل أحد من الجرانيت الأحمر، وفيه أجزاء تميل ألوانها إلى الخضرة الداكنة والسواد. وتتخلله تجويفات طبيعية تتجمع فيها مياه الأمطار، وتبقى معظم أيام السنة؛ لأنها مستورة عن الشمس، وتسمى هذه التجويفات (المهاريس).
وتنتشر على مقربة من جبل أحد عدة جبال صغيرة، أهمها جبل ثور في شماله الغربي، وجبل عينين في جنوبه الغربي. ويمر عند قاعدته وادي قناة ويتجاوزه غربًا ليصب في مجمع الأسيال.
ويرتبط اسم هذا الجبل بموقعة تاريخية وقعت في السنة الثالثة للهجرة، وسميت باسمه وهي "غزوة أحد"، وكان ميدانها الساحة الممتدة ما بين قاعدته الجنوبية الغربية وجبل عينين الذي يبعد عنه كيلومترا واحدا تقريبًا، ويسمى أيضاً جبل الرماة.
ورغم أن هذا الجبل تشرف بأنه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا الشرف تضاعف كثيرًا لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وإخباره بأن هذا الجبل أيضا يحبه ويحب المسلمين، فعن أبي حميد قال : (أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال : هذه طابة، وهذا أُحد جبل يحبنا ونحبه) [رواه البخاري ومسلم].
كما أن هذا الجبل الأشم استجاب في خضوع وطاعة لأمر حبيبه وسيده النبي صلى الله عليه وسلم عندما ركله برجله الشريفة لما اهتز أحد به هو وأصحابه، فقد صح عن أنس رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال : اثبت أحد، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان) [رواه البخاري ومسلم]. (يتبع)
مازلنا نتكلم عن تلك المدينة التي تشرفت وتشرف أهلها برسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطربت جبالها تحت قدميه فرحاً، وحن الجذع فيها شوقاً إليه، وضوعف أجر الصلاة في مسجدها، وشرع شد الرحال إليه، تمرها وترابها شفاء، بعض أجزائها من الجنة، أهلها جيران رسوله، من مات فيها كان آمناً.
أتكلم في هذه المرة عن بعض أماكنها المقدسة الشهيرة، فأهم ما يشرف المدينة النبوية الحرم النبوي الشريف الذي يشتمل على المسجد النبوي، والروضة الشريفة التي تضم الجسد الطاهر، وسوف نفرد للمسجد النبوي والقبر الشريف مقالات خاصة.
ويلي الحرم النبوي في العظمة البقيع، هو المقبرة الرئيسة لأهل المدينة المنورة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الأماكن التاريخية إلى مبنى المسجد النبوي، ويقع في مواجهة القسم الجنوبي الشرقي من سور الحرم النبوي، وقد ضمت إليه أراض مجاورة وبني حوله سور جديد مرتفع. وتبلغ مساحته الحالية 280 ألف متر مربع.
فالبقيع هو تلك المقابر التي ضمت الأجساد الطاهرة من آل البيت الكرام كالسيدة فاطمة الزهراء، وابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، وعمه العباس، وعمته صفية، وحفيده الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك يضم أجساد زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا خديجة وميمونة، كما يضم أجساد العديد من الصحابة أمثال عثمان بن مظعون، وأسعد بن زرارة، وغيرهم الكثير وقد يصل عدد من دفن في البقيع من الصحابة إلى عشرة آلاف صحابي.
وتستحب زيارة هذه المقابر لما في ذلك من صلة وبر وبركة بأصحابها، واتباعا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يزورها ويدعو لمن دفن فيه، فقد وردت الآثار الكثير في ذلك منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) [رواه مسلم]
ومن أهم الأماكن المقدسة في المدينة كذلك مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام، فقد خطه الرسول صلى الله عليه وسلم بيده عندما وصل المدينة مهاجرًا من مكة، وشارك في وضع أحجاره الأولى ثم أكمله الصحابة رضي الله عنهم، وقد أخبر ربنا في كتابه بأنه مسجد أسس على التقوى من أول يوم، فقال: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ) [التوبة :108] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصده بين الحين والآخر ليصلي فيه، وكأنه يأتيه خاصة في يوم السبت، فعن ابن عمر رضي الله عنها قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا، كان عبد الله يفعله) [رواه البخاري]
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارته والصلاة فيه، فقال : (من تطهر في بيته وأتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة فله أجر عمرة) [رواه ابن ماجة، والبيهقي، والطبراني في الكبير] ويقول صلى الله عليه وسلم : (من خرج حتى يأتي هذا المسجد ـ يعني مسجد قباء ـ فصلى فيه كان كعدل عمرة) [رواه أحمد، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه] .
وقد اهتم المسلمون بمسجد قباء على مر العصور، فجدده عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم عمر بن عبد العزيز الذي بالغ في تنميقه وجعل له رحبة وأروقة، ومئذنة وهي أول مئذنة تقام فيه، وفي سنة 435هـ جدده أبو يعلى الحسيني.
وظل الحكام والملوك يعتنون به وبتجديده حتى ذلك العهد؛ حيث امتدت التوسعة وأعيد بناؤه بالتصميم القديم نفسه، ولكن جعل له أربع مآذن عوضًا عن مئذنته الوحيدة القديمة، كل مئذنة في جهة وبارتفاع 47 متراً.
وبني المسجد على شكل رواق جنوبي وآخر شمالي تفصل بينهما ساحة مكشوفة ويتصل الرواقان شرقاً وغرباً برواقين طويلين، ويتألف سطحه من مجموعة من القباب المتصلة منها : 6 قباب كبيرة قطر كل منها 12 متراً، و56 قبة صغيرة قطر كل منها 6 أمتار، وتستند القباب إلى أقواس تقف على أعمدة ضخمة داخل كل رواق.
وقد بلغت مساحة المصلى وحده 5035 متراً مربعاً، وبلغت المساحة التي يشغلها مبنى المسجد مع مرافق الخدمة التابعة له 13500 متر مربع في حين كانت مساحته قبل هذه التوسعة 1600 متر مربع فقط، كما ألحق بالمسجد مكتبة.
وما زال الحديث متصلا عن باقي الأماكن المقدسة، كمسجد ذي القبلتين، وأحد. (يتبع)