المحافظة على المواقع الأثرية - الآثار الدينية
السؤال
هل الإسلام يَحُثُّ على المحافظة على المباني والآثار والمواقع التي شهدت أحداثًا تاريخيةً ذات طابعٍ دينيٍّ مهم، أو أن ذلك ممنوع؛ لأن تعظيم تلك الأماكن مُحَرَّم، وقد يكون من ذرائع الشرك؛ لأنه يؤَدِّي إلى أن يعتقد العوام بَرَكَةَ تلك الأماكن كما يَزعُم ذلك بعضُ المنسوبين إلى العلم؟
الجواب
المحافظة على الأماكن والمباني التاريخية والأثرية ذات الطابع التاريخي الديني من المطلوبات الشرعية والمستحبات الدينية التي حثت عليها الشريعة؛ لأن فيها تعظيمًا لِمَا عظَّمه الله تعالى من الأيام والأحداث والوقائع والأشخاص والأعمال الصالحة التي حصلت فيها أو ارتبطت بها؛ فهي تُذَكِّر المسلمين بماضيهم وتربط قلوبهم بوقائعه وأيّامه، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، فهذا أمر مُطْلَق بالتذكير بأيام الله؛ التي هي وقائع الله في الأزمنة السابقة، فكُلّ ما يحصل به هذا التذكير يكون وسيلةً لتحقيقه، فيكون مطلوبًا شرعًا؛ والقاعدة الشرعية «أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد»، و»أن المُطْلَق يجري على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده».
قال الإمام الزركشي في (البحر المحيط، 5/ 8، ط. دار الكتبي): «الخطاب إذا ورد مُطلَقًا لا مُقَيِّد له حُمِلَ على إطلاقه». اهـ.
ومن الفوائد الجليلة لهذا التذكير أيضًا: أنه يعطي دليلًا واقعيًّا على صحة هذه الوقائع التي حدثت فيها، أما إزالتها وهدمها فهو الذي يكون ذريعةً لإنكار هذه الأحداث مِن أصلِها، وادعاء أنها قضايا مفتعلة ليس لها أساسٌ واقعيّ.
ومن مقاصد الشريعة الربط بين العبادات والشعائر وبين الأماكن التي تذكر بأصلها التاريخي الديني؛ كالصفا والمروة التي كانت السيدة هاجر -رضي الله عنها- تتردد بينهما؛ فيقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
وقال تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، وقد جاء في تفسير المقام أنه الحَجَر الذي فيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحَجَر حين قام عليه ودَعَا الناس إلى الحج، أو رَفَعَ بناءَ البيت وهو موضعه اليوم. واتخاذه مصلى: أن يُدعى فيه، ويُتَقَرَّب إلى الله تعالى. (تفسير البيضاوي، 1/ 105، ط. دار إحياء التراث العربي)، فالأمر باتخاذه مُصلًّى يَلزم منه المحافظةُ عليه، وعلى تعيين موضعه، وإشهارُه بين الناس.
ويقول تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور: 36]؛ روى ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة -رضي الله عنهما-: ((أنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قرأ هذه الآية ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾، فقام إليه رجل، قال: أيّ بيوتٍ هذه يا رسول الله! قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر -رضي الله عنه-، وقال: يا رسول الله! وهذا البيت منها -مشيرًا إلى بيتِ عليٍّ وفاطمة -رضي الله عنهما-؟ فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: نعم، مِن أفاضلِها)) (الدر المنثور، 6/ 203، ط. دار الفكر).
قال الإمام أبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط، 8/ 48، ط. دار الفكر): «والظاهر أن ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ مُطْلَق؛ فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعِلم» اهـ.
ومن معاني الرفع في الآية الكريمة: التعظيم -كما هو مقرر في مَحَلِّه من كتب التفسير-؛ قال الحافظ ابن الجوزي في (زاد المسير، 3/ 298، ط. دار الكتاب العربي): «وفي معنى ﴿أَنْ تُرْفَعَ﴾ قولان: أحدهما: أن تُعَظَّم؛ قاله الحسن، والضحّاك». اهـ.
فإذا كان الله تعالى قد أذِن -أي: أَمَر- بتعظيم تلك الأماكن، فإن المحافظةَ عليها لَازمةٌ عن تعظيمها؛ إذ إن الإزالةَ منافيةٌ للتعظيم المستلزم لبقاء المُعَظَّم ليَحْصُل تعظيمُه، والتعظيم المطلوب أيضًا مُطْلَقٌ لا يمنع منه إلا ما منعه الشرع بخصوصه.
وروى البزار في (مسنده 12/ 230) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن آطام المدينة أن تُهدَم.
وروى الطحاوي في (شرح معاني الآثار، 4/ 194) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال: ((لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ))، وآطام المدينة هي: حصونها.
وبَوَّب على هذا الحديث الإمام الهيثمي في (مجمع الزوائد، 3/ 301، ط. القدسي)، فقال: «باب النهي عن هدم بُنيانها -أي: المدينة-». اهـ.
وقد جرى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- على التبرك بمواضع صلاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وذلك بإقرار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفعله؛ فكانوا يطلبون من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصلاة في بيوتهم؛ ليتخذوا موضع صلاته مصلًّى لهم؛ فأخرج البخاري ومسلم وغيرهما ((عن محمود بن الربيع الأنصاري -رضي الله عنه-، قال: سمعت عتبان بن مالك الأنصاري، ثم أحد بني سالم -رضي الله عنه-، قال: كنت أصلي لقومي بني سالم، فأتيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقلت: إني أنكرت بصري، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فلوددت أنك جئتَ، فصليت في بيتي مكانًا حتى أتخذه مسجدًا، فقال: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فغدا عليَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- معه بعد ما اشتد النهار، فاستأذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأذنتُ له، فلم يجلس حتى قال: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فأشار إليه مِن المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام، فصففنا خلفه، ثم سلم وسلمنا حين سلم)).
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتحرون أماكن صلاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومواضع سيره، وحله، وترحاله، وأثره فيتبركون بها، وينزهونها وينهون عن إهانتها. وبوَّب على ذلك الإمام البخاري في «صحيحه» بقوله: (باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-)، ثم روى عن موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، «وأنه رأى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يصلي في تلك الأمكنة». قال: وحدثني نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألتُ سالمًا، فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الرَّوْحَاء.
ومن ذلك غضب السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وغيرها من التابعين مما فعله مروان بن الحكم حين صلب رجلا يُسمَّى «ذبابًا» على موضع «ذباب» وهو موضع صلى فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان مضربًا لقُبَّته، وذلك تنزيهًا للأماكن التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عمَّا لا يليق بها.
فروى ابن شبة في (تاريخ المدينة 1/ 62، ط. جدة) عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب قال: بعثَت عائشة -رضي الله عنها- إلى مروان بن الحكم حين قتل ذبابًا وصلبه على ذباب: «تعِسْتَ؛ صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واتخَذْتَه مَصْلَبًا!» قال: وذباب رجل من أهل اليمن عدا على رجل من الأنصار... قال أبو غسان: وأخبرني بعض مشيختنا أن السلاطين كانوا يصلبون على ذباب، فقال هشام بن عروة لزياد بن عبيد الله الحارثي: يا عجبًا! أتصلبون على مضرب قبة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ فكف عن ذلك زياد، وكفت الولاة بعده عنه.
وأمَّا دعوى أن تعظيم هذه الأماكن مُحَرَّم، وقد يكون من ذرائع الشرك؛ لأنه يؤدِّي إلى أن يعتقد العوام بَرَكَة تلك الأماكن فليست بمُسَلَّمة؛ لأن الشرع لم يَمنع من مُطْلَق تعظيم غير الله، وإنما يَمنع منه ما كان على وجه عبادة المُعَظَّم كما كان يفعل أهل الجاهلية مع معبوداتهم الباطلة فيعتقدون أنها آلهة، وأنها تضر وتنفع مِن دون الله، وأما ما سوى ذلك مِمَّا يدل على الاحترام والتوقير والإجلال فهو جائزٌ إن كان المُعَظَّم مُستحِقًّا للتعظيم، ولو كان جمادًا من بناءٍ أو غيرِه؛ وقد روى البيهقي بسنده أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: ((اللهم زِد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة)).
وروى الدارمي عن عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- أنه كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: «كتاب ربي، كتاب ربي».
فتعظيم ما عَظَّمه الله تعظيمٌ بالله، والتعظيم بالله تعظيمٌ لله؛ كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، كما أن طاعة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم طاعةٌ لله تعالى الذي أرسله: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾[النساء: 80]، ومبايعته مبايعةٌ لله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].
أما كون ذلك من ذرائع الشرك؛ لأنه يؤدي إلى أن يعتقد العوام بَرَكَة تلك الأماكن، فهو مبني على خَلَلٍ في مفهوم الشرك؛ فالشرك تعظيمٌ مع الله أو تعظيمٌ مِن دون الله؛ ولذلك كان سجودُ الملائكة لآدم -عليه السلام- إيمانًا وتوحيدًا، وكان سجودُ المشركين للأوثان كفرًا وشركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لَمَّا كان سجودُ الملائكة لآدم -عليه السلام- تعظيمًا لِمَا عَظَّمه الله كما أمر الله كان وسيلةً مشروعةً يَستحق فاعلُها الثواب، ولَمَّا كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شركًا مذمومًا يَستحق فاعلُه العقاب.
واعتقاد وجود البَرَكَة أو حصولِها بواسطة مخلوقٍ مُعيّنٍ لا علاقة له بالشرك مِن قريبٍ أو مِن بعيد، فضلًا عن أن يكون ذريعةً له، إلا أن يُعتقد بأن ذلك المخلوق مؤثرٌ بذاته في إيجاد تلك البَرَكَة على وجه الاستقلال، أمَّا إن اعتقد الإنسان أن البَرَكَة مِن الله، وأنه هو الذي يجعلها في إنسانٍ مُعيّنٍ أو شيءٍ مُعيّنٍ أو بُقعةٍ مُعيّنة، وأن البَرَكَة توجد عند هذه الأشياء لا بها؛ لأنه لا مُؤثِّر في الوجود إلا الله، فهذا عين التوحيد؛ لأنه مِن توحيد الأفعال.
وقد تضافرت الأدلة التي تثبت وجود البركة في الذوات المخلوقة بإيجاد الله تعالى لها؛ وقد حكى الله تعالى لنا قصة إنزال التابوت -الذي كان يُتَبَرَّك به- على بني إسرائيل، بما كان فيه من آثار الأنبياء؛ فقال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248].
قال في «تفسير الجلالين»: «﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ الصندوق كان فيه صور الأنبياء، أنزله على آدم، واستمر إليهم، فغلبهم العمالقة عليه وأخذوه، وكانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه في القتال، ويسكنون إليه؛ كما قال تعالى ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾: طمأنينة لقلوبكم ﴿مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾؛ وهي نعلَا موسى، وعصاه، وعمامة هارون، وقَفِيزٌ من المَنَّ الذي كان ينزل عليهم، ورُضَاضٌ من الألواح» اهـ.
وتبرك الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حياته وآثاره المنفصلة منه بعد انتقاله، وحتى الأماكن التي كان يتردد عليها، معروفة مشهورة في كتب السنة والحديث.
ومنها ما رواه البخاري ((عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ أمَّ سليمٍ كانت تبسط للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نِطَعًا، فَيَقِيل عندها على ذلك النطع. قال: فإذا نام النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذت من عَرَقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في سُكٍّ. قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة، أوصى إلىَّ أن يُجعلَ في حنوطه من ذلك السُك، قال: فجعل في حَنُوطه)).
وروى البخاري عن ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة: «عندنا من شَعر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصبناه من قِبَلِ أنس، أو من قِبَلِ أهل أنس»، فقال: «لأن تكون عندي شَعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها».
وروى ابن السّكن عن ثابت البنانيّ أنه قال: قال لي أنس بن مالك -رضي الله عنه-: «هذه شَعرة من شَعر -رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم-، فضعها تحت لساني». قال: «فوضعتُها تحت لسانه، فدُفن وهي تحت لسانه». (الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر، 1/ 276، ط. دار الكتب العلمية).
وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/ 557، ط. دار الفكر) عن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم إذا خلَا لهم المسجد قاموا إلى رمانة المنبر القرعا، فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك.
ولم يكن هذا منحصرًا في تبرك المفضول بالفاضل، بل قد جاء ما يفيد مشروعية تبرك الفاضل بالمفضول؛ فروى الطبراني في الأوسط ((عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يبعث إلى المطاهر، فيؤتى بالماء، فيشربه، يرجو بَرَكَة أيدي المسلمين)).
بل قد ورد في الصحيح تَبرُّك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالمطر؛ فروى مسلم عن ((أنس -رضي الله عنه- قال: قال أنس: أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مطر، قال: فحَسَر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثوبَه، حتى أصابه مِن المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهدٍ بربه تعالى)).
ومن شأن العقلاء في كل الأمم احترام آثار سلفهم ومقدميهم، وقد جرى الصحابة والتابعون وعلماء الأمة وأئمتها من الفقهاء والمحدثين والمؤرخين على تعظيم هذه الأماكن والآثار الدينية، وعدوا ذلك تعظيمًا للشريعة، وجرى على هذا عملُ السلف والخلف، ولم يَقُل أحدٌ مُعتَبَر بمَنْعِ ذلك؛ لأنه شركٌ أو يؤدِّي إلى الشرك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل هناك فرق بين الفوائد البنكية والربا أم أن حقيقتهما واحدة؟
الجواب
البنك في الأصل من الكلمة الإيطالية: "بنكو" والتي تعني: مائدة، في إشارة إلى تلك المائدة التي كان يضعها الصيرفي في العصور الوسطى، ولهذه الإشارة علاقة بنشأة البنوك في العصر الحديث، وقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة "بنك"؛ وهي النطق الصوتي للكلمة الإنجليزية وأصبحت تكتب "بنك"، وتجمع على "بنوك" وأدخلت الكلمة معاجم اللغة العربية الثلاثة: الوجيز والوسيط والكبير، وعرفوه بأنه: مؤسسة تقوم بعمليات الائتمان بالاقتراض والإقراض. [المعجم الوسيط 2/ 976].
وترتبط حقيقة البنوك بعملية الصَّرف وعمل الصيارفة، والصَّرف في اللغة: يأتي بمعان، منها: رد الشيء عن الوجه، يقال: صَرَفَهُ يَصْرِفُهُ صَرْفًا إذا ردَّه، وصَرَفْتُ الرجلَ عني فانْصَرَفَ. ومنها: الإنفاق، كقولك: صَرَفْتُ المال، أي: أنفقته. ومنها البيع، كما تقول: صَرَفْتُ الذهب بالدراهم، أي: بِعْتُهُ، واسم الفاعل من هذا صَيْرَفِيٌّ وصَيْرَفٌ، وصَرَّافٌ للمبالغة، ومنها الفضل والزيادة. قال ابن فارس: الصَّرْفُ: فضل الدرهم في الجودة على الدرهم، والدينار على الدينار.
وفي الاصطلاح: عرَّفه جمهور الفقهاء بأنه بَيْعُ الثمن بالثمن، جِنْسًا بِجِنْسٍ أو بغير جِنْسٍ، فيشمل بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، كما يشمل بيع الذهب بالفضة، والمراد بالثمن ما خلق للثمنية، فيدخل فيه بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنقد.
وتساعد معرفة نشأة البنوك والنقود الورقية في إدراك حقيقتها، والوصول إلى حكم تعاملاتها؛ فكانت البداية تتمثل في عمل الصرَّاف الذي كان يقوم بتبادل النقود لسدِّ حاجة من يريد أن يستبدل الدينار بالدراهم مثلا أو العكس، أو تبديل الدنانير المكسورة أو غير ذلك.
وكان الصرَّاف دائمًا يحتاج لوجود كمية من النقد، فكان له الصندوق الذي يحفظ فيه أمواله؛ لتيسير هذه المبادلات والمعاملات اليومية؛ ونظرًا لصيانة هذه الصناديق التي لدى الصرَّاف وقربها من أماكن المعاملات، بدأ الناس في إيداع نقودهم بهذه الصناديق كأمانة للحفاظ عليها، مقابل أجرٍ يتناسب مع مدة بقاء الوديعة ومبلغها. وكان الصيارفة يعطونهم إيصالات ورقية تفيد بأن هذه الوديعة موجودة لديهم.
ولاحظ الصيارفة أَنَّ أصحابَ الودائع يتركونها فتراتٍ طويلةٍ بشكلٍ شبه دائم، حيث كان أصحاب الودائع يتعاملون بتلك الإيصالات الورقية بين الناس، بدلا من النقود المودعة لدى الصيارفة. وشجع هذا الحال الصيارفة في الإقراض من هذه الودائع مقابل فائدة، وبدأ الصيارفة لتشجيع المُودِعِين على إيداع المبالغ، يتنازلون عن أجرِ حفظ الودائع، وزيادة في التشجيع بدأ الصيارفة إعطاء المُودِعِين جزءًا من الفوائد التي تحصل من إقراض تلك الودائع ومع زيادة ثقة المتعاملين في هذه الإيصالات تمَّ تبادلها، وكانت هذه الإيصالات الورقية بداية نشأة النقود الورقية، والتي كانت في أصلها تعبر عن وجود قيمة ذهبية لدى الصيرفي، وهو ما كان يعرف بقاعدة الذهب.
وكانت إيطاليا أول دولة تعرف البنوك في شكل قريب من الشكل المعاصر، حيث أنشئ أول بنك في التاريخ عام 1157م في مدينة البندقية الإيطالية.
والبنك في عصرنا الحالي هو مؤسسة وسيطة قامت للتوفيق بين المُودِعِين الذين لديهم فائض ادخاري، والمستثمرين الذين لديهم حاجة لتلك المدخرات، على أن تتلقى تلك المؤسسة أموال المُودِعِين، وتدفعها للمستثمرين مقابل مبلغ مالي تأخذه من المستثمرين يتم توزيعه بين البنك وبين المودعين.
ويقوم البنك بوظائف أخرى هي: الاحتفاظ بودائع العملاء بالحسابات الجارية دون فائدة، والقيام ببعض الخدمات الخاصة بالأوراق المالية، مثل: شراء وبيع الأوراق المالية وحفظها، وتحصيل الكوبونات نيابة عن العملاء أو دفعها نيابة عن الشركات، وخصم الأوراق التجارية أو تحصيلها في ميعاد استحقاقها أو تسديد قيمة أوراق الدفع نيابةً عن العملاء، وشراء وبيع العملات الأجنبية.
ولم تكن الوظائف الثانوية للبنك -والتي تُعدُّ في أغلبها خدمات يقوم بها البنك نظير أجر، أو التجارة في العملات- مثار خلاف بين العلماء أو تخوف من شبهة ربا في تلك المعاملات. وإنما كانت وما زالت الوظيفة الأساسية للبنك منذ نشأتها في ديار المسلمين، هي مثار الجدل بين علماء الإسلام بشأن حِلِّها أو حرمتها، وتتلخص هذه الوظيفة في قبول الودائع المالية من المودعين ثم استثمارها، وإعطاء المودع نسبة محددة على مبلغ الوديعة.
وقد اختلف الفقهاء منذ ظهور البنوك في العصر الحديث في حكم هذه المعاملة؛ وهذا الاختلاف نظرًا لاختلافهم في التصوير والتَكْيِيف.
وهناك خمس نظريات تحاول تكييف وضع البنكنوت الحالي في صورة اقتصادية ليمكن الحكم عليه فقهيًّا؛ وهي: نظرية السندية، ونظرية العرضية، ونظرية البدلية، ونظرية إلحاقها بالفلوس، والنظرية النقدية أي أنه نقد قائم بذاته.
وإذا صَوَّرنا المعاملة بين البنك والمودعين على أنها قرض، فإننا نجد أيضًا العلماء قد اختلفوا في التَّكْيِيف، هل هو قرض على ذهب أم سلعة؟
قال بعضهم: الفلوس مَالٌ وهذا الورق البنكنوت وسيط، وبعضهم قال: لا، هذا ليس ربا بل بيع وأنها أوراق، ولا ربا في الفلوس ولو راجت رواج النقدين -والفُلُوسُ في الاصطلاح القديم: جمع فِلْس، وهو قطعة من نحاس ونحوه يتعامل بها [انظر: حاشية الترمسي على شرح المقدمة الحضرمية 7/ 8، ط. دار المنهاج ]-؛ كما نصَّ العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" [2/ 34، ط. دار المعرفة] بقوله: "(والنقد بالنقد) والمراد به الذهب والفضة مضروبًا كان أو غير مضروب (كطعام بطعام) في جميع ما سبق من الأحكام، فإن بِيعَ بجنسه كذهب بذهب اشترط المماثلة والحلول والتقابض قبل التفرق والتخاير، وإن بيع بغير جنسه كذهب بفضة جاز التفاضل أو اشترط الحلول والتقابض قبل التفرق أو التخاير... وعلة الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالبًا كما صحَّحه في المجموع، ويعبر عنها أيضًا بجوهرية الأثمان غالبًا، وهي منتفية عن الفلوس وغيرها من سائر العروض، لا أنها قيم الأشياء، كما جرى عليه صاحب التنبيه؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا، وليس مما يُقَوَّم بها، واحترز بـ"غالبًا" عن الفلوس إذا راجت، فإنه لا ربا فيها" اهـ.
فعِلَّة تحريم الربا في النقدين هي الثَّمَنِيَّةُ الغالبة التي يعبر عنها بجوهرية الأثمان غالبًا؛ لأنه لو كانت العلة معنى يتعداهما لما جاز إسلامهما في غيرهما، ولكن لما جاز إسلام الذهب والفضة في غيرهما من الأموال دل على أن العلة فيهما لمعنى لا يتعداهما، وهو أنهما من جنس الأثمان. [انظر: أسنى المطالب مع حاشية الرملي 2/ 22، ط. دار الكتاب الإسلامي].
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح المنهج" [3/ 46، ط. دار الفكر]: "(إنما يحرم) الربا (في نقد) أي ذهب وفضة ولو غير مضروبين كحُلِيٍّ وتِبْرٍ، بخلاف العروض كفلوس وإن راجت؛ وذلك لعلة الثمنية الغالبة، ويعبر عنها أيضا بجوهرية الأثمان غالبًا، وهي منتفية عن العروض" اهـ.
وقال الزركشي في "المنثور" [3/ 244، ط. وزارة الأوقاف الكويتية]: "ولو راجت الفلوس رواج النقود، فهل تعطى حكمها في باب الربا؟ وجهان، أصحهما: لا؛ اعتبارًا بالغالب" اهـ.
وورد في كتاب "الأم" للإمام الشافعي [3/ 15، ط. دار الفكر] نَصٌّ على أن العلة في النقدين الثمنية، حيث قال: "والذهب والوَرِقُ مباينان لكل شيء؛ لأنهما أثمان كل شيء، ولا يقاس عليهما شيء من الطعام ولا من غيره" اهـ.
وهذه العلة هي التي تسمى في اصطلاح الأصوليين بـ"العلة القاصرة"، وهي التي يكون التعليل فيها بنفس المحل، أو جزئه. ومثال كونها محل الحكم: قولنا: "الذهب ربوي لكونه ذهبًا" -كما هي قضيتنا-، ومثال كونها جزء محل الحكم قولنا: "الخمر حرام؛ لأنه معتصر من العنب فقط"، والمحل مركب من كونه معتصرًا ومن كونه مسكرًا، فالتعليل بالاعتصار تعليل بجزء المحل. [انظر: شرح الكوكب المنير ص 492، جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية العطار 2/ 282-284]
وقال الإمام النووي في "المجموع" [9/ 490، ط. المنيرية]: "أما الذهب والفضة فالعلة عند الشافعي فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما لا تتعداهما؛ إذ لا توجد في غيرهما" اهـ.
وقد لاحظ هذا القول ارتفاع الغطاء الذهبي سنة 1973م، وأن الدولار أصبح هو الغطاء البديل عن الذهب حيث هو غالب عملة الاحتياط، فلم تعد الأوراق النقدية سندًا لقيمة ذهبية.
ومن القائلين بذلك القول أيضًا: الظاهرية؛ حيث لم يتجاوزوا الأصناف الستة الربوية، وقالوا: لو كان الربا يجري في كل مكيل وموزون لقال صلى الله عليه وآله وسلم: المكيل بالمكيل والموزون بالموزون والنقد بالنقد؛ لأنه أعم وأوضح، ومناسب لما أوتيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من جوامع الكلم. وجرى على هذا القول أيضًا الأمير الصنعاني وابن عقيل الحنبلي. وعليه: فلا ربا في الفلوس ولا الأوراق النقدية ولا غيرهما مما جعل نقدًا، وعلة الربا تعبدية غير معللة.
وقال بعضهم: التصوير: أنها استثمار، والتكييف: أنها مضاربة فاسدة، فالحكم: الحرمة، والفتوى: جواز المعاملة؛ للضرورة.
وقال البعض: التصوير: أنها استثمار، والتكييف: أنها مُضَارَبَةٌ صحيحة، والحكم: الجواز؛ لأن هناك فرقًا بين الشخصية الطبيعية والشخصية الاعتبارية، فتحديد السعر من قبيل الشخصية الطبيعية حرام، أَمَّا مع الشخصية الاعتبارية فجائز، فإذا قيل: ما موجب الاختلاف بين الشخصيتين؟ قالوا: الشخصية الطبيعية لها ذِمَّةٌ واحدة ولها تعامل واحد، والاعتبارية لها ذمم كثيرة وتعاملات كثيرة، وعندها ما يُسمَّى (Backcasting) أي: التنبؤ للخلف، وعندها (Forecasting) أي: التنبؤ للمستقبل، وذلك عن طريق الحسابات الدقيقة وإلا يخرب السوق، فعن طريق التتبع الخلفي يقولون: أنا بالتجربة المتكررة أكسب كل يوم (2)- أول يوم (2)، ثاني يوم صارت (4)، الثالث صارت (6)، ... (8) إذًا غدًا لا بد أن يكون (10)؛ بناءً على الرؤية الخلفية، بجانب أن البنك المركزي في بعض الأحيان يضمن رأس المال.
والبنوك تختلف عن الشركات؛ فالشركة غالبًا لها أموال وتستثمرها في نشاط واحد، وقد لا تدري كيف تستثمرها أصلًا، أَمَّا البنك فالأمر فيه مختلف؛ لأن فيه تعاملات كثيرة جدًّا، إذا خسرت واحدة ربحت الأخرى.
وبعضهم صَوَّرَها على أَنَّهَا استثمار، وكَيَّفَهَا على أنها وكالة استثمارية، وهي وسيط استثمار، إذًا فالحكم والفتوى على الحِل.
وبعضهم احتار في التصوير: هل هي استثمار أم قرض؟ فالتَّكْييف: شُبْهَةٌ، والحكم: شبهة، والإفتاء: أنها شبهة، فيجري فيها ما يجري في الشبهات.
فالحاصل أن الخلاف قد وقع في تصوير هذه المسألة، والقواعد المقررة شرعًا: أنه إِنَّما ينكر ترك المتفق على وجوب فعله أو فعل المتفق على حرمته، ولا ينكر المختلف فيه. ويجب على كل مسلم أن يُدْرك أَنَّ الرِّبا قد حرمه الله سبحانه وتعالى، وأنه متفق على حرمته، ويجب عليه أن يدرك أن أعمال البنوك اختلف في تصويرها وتكييفها والحكم عليها والإفتاء بشأنها، وأن يدرك أن الخروج من الخلاف مُستحب، ومع ذلك فله أن يقلد من أجاز، ولا حرمة عليه حينئذٍ في التعامل مع البنك بهذه المعاملة.
إلا أن القول الذي ذهب إلى توصيف المعاملة بين البنك والمودِع والمستثمِر، أنها من قبيل الاستثمار هو الأولى بالاتباع، ونرى الأخذ به لرعاية مصالح الناس في هذا العصر والمحافظة على أموالهم وحقوقهم، فيجوز للمسلم أن يُودِعَ هذه الأموال التي يستثمرها له البنك في تمويل المشروعات الكبيرة، ويجوز له أخذ العائد الاستثماري عن هذا المبلغ، وإن كان مُحددًا، كما يجوز للبنك أن يأخذ كذلك العائد المتفق عليه مع أصحاب المشروعات الكبيرة التي قام البنك بتمويلها، فهذه المعاملة هي تمويل واستثمار، وليست قرضًا، ولذا فهي من العقود الجديدة غير المسماة التي يجوز استحداثها.
وهذا هو الذي أفتى به مجمع البحوث الإسلامية بمصر في جلسة الخميس 23 من رمضان 1423ﻫ، الموافق 28 من نوفمبر 2002م.
وكل ذلك إنما هو من خلال الحالة المصرية طبقًا لآخر تعديلات قانون البنوك، ونظام البنك المركزي وقواعد الجهاز المصرفي، وكل الأنظمة المشابهة لذلك في الدول الأخرى، أما النظم التي لا تشابه ذلك أو تعده قرضًا أو تجيز الإقراض مع الزيادة، فالأصل حينئذ هو الحرمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحساب الفلكي لمعرفة أوائل الشهور
الحساب الفلكي يُؤخَذ به في النفي لا في الإثبات؛ أي: أن الرؤية البصرية هي المعتمدة إلا إذا خالفت الحساب الفلكي المقطوع بدقته، فإذا خالفته لا تُعتَمَد، ولا تُعتَبر حينئذ شهادة مَن شَهِد برؤية الهلال لمخالفتها الحساب، وبهذا يتم الجمع بين الأصل وهو الرؤية البصرية المأمور بها كأصل للمسألة، والحساب الفلكي المقطوع بدقته في عصرنا.
وأما عن القضية المتعلقة باختلاف المطالع: فإن العلماء قد اختلفوا في اعتباره من عدمه في خصوص ما يترتب على رؤية الهلال في إحدى البلدان من وجوب الصوم أو الفطر على غيرها ممن لم يشاهد فيها الهلال.كما سيأتي ذكره فيما بعد.
فذهب الحنفية -كما نص عليه الإمام النسفي في «كنز الدقائق» (1/ 321، مع شرح تبيين الحقائق للزيلعي ط. دار الكتاب الإسلامي) والعلامة ابن عابدين في «تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان» (ص: 27- 28، ط. مطبعة معارف بدمشق)-: إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ بمعنى أنه إذا رأى الهلالَ أهلُ بلد ولم يره أهل بلد آخر وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان.
وذهب المالكية إلى أن رؤية الهلال بجماعة مستفيضة في بلد يلزم غيرها من البلاد مطلقًا؛ قال سيدي خليل في مختصره: «وعم إن نقل بهما عنهما» اهـ، أي: عَمَّ وجوب الصوم سائرَ البلاد القريبة والبعيدة إذا نقل بعدلين عن عدلين، أو الاستفاضة عن الاستفاضة، فإذا رؤي وثبت الهلال في مكان ما فإن هذه الرؤية تعم جميع الأقطار. (انظر: «شرح مختصر خليل للخرشي» 2/ 236، ط. دار الفكر، و»حاشية الدسوقي» 1/ 510، ط. دار إحياء الكتب العربية).
وعند الحنابلة أيضًا أنه لا عبرة باختلاف المطالع، قال العلامة ابن مفلح في «الفروع» (3/ 12، ط. عالم الكتب): «(وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد لزم الناس كلهم الصوم) لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره: فإن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضًا، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضًا» اهـ. وكذلك في «الإنصاف» للمرداوي (3/ 273، ط. دار إحياء التراث العربي).
ودليلهم: ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «صُوموا لرؤيته وأَفطِروا لرؤيَتِه»، فهو يخاطب سائر أهل الآفاق، ولم يقيد بأهل بلد دون غيرهم، فإذا وجب اعتبار رؤية أهل بلد في الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضًا.
قال العلامة البهوتي في «شرح منتهى الإرادات» (1/ 471، ط. عالم الكتب): «(وإذا ثبتت رؤيته) أي: هلال رمضان (ببلد لزم الصوم جميع الناس) لحديث: «صوموا لرؤيته»، وهو خطاب للأمة كافة» اهـ.
وأما الشافعية فذهبوا إلى أن هلال رمضان إذا رؤي في بلد ولم يُرَ في غيرها، فإنْ تقارَبَ البَلَدَان فَهُمَا كالبلد الواحد ويَلزم أهلَ البلد الآخر الصومُ، وإن تَبَاعَدَا فلا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «المنهج» و»شرحه» (2/ 308- 309، ط. دار الفكر): «(وإن رُئِيَ) الهلال (بمحَلٍ لزم حكمه محلا قريبًا) منه، (وهو) يحصل (باتحاد المَطلَع) بخلاف البعيد منه، وهو يحصل باختلاف المَطلَع أو بالشك فيه كما صَرَّح به في الروضة كأصلها، لا بمسافة القَصر» اهـ.
ونقل ابن المنذر أن رؤية الهلال لا تلزم غير أهل بلد الرؤية عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه. كما في «المجموع» للإمام النووي (6/ 282، ط. المنيرية).
ودليلهم: ما رواه مسلم عن كُرَيب بن أبي مسلم مولى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمْتُ الشامَ فقَضَيْتُ حاجتها واستهل عَلَيَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قَدِمْتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أَوَ لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الحديث ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم.
ومورد هذا النص في الشام والحجاز، وقد وجد بينهما مسافة القصر، واختلاف الإقليم، واختلاف المطالع، واحتمال عدم الرؤية.
فأما احتمال عدم الرؤية فهو احتمال بعيد؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لكريب: أنت رأيته؟ فقال له كريب: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية.
وأما احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم فليس متجهًا أيضًا؛ كما حققه العلامة الإمام محمد بخيت المطيعي «في إرشاد أهل الملة» (ص: 279، ط. مطبعة كردستان العلمية) بقوله: «إذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم، وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع؛ فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية: أن هذا يرى وهذا لا يرى، بل المراد: أن رؤية هذا للهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر؛ لأنه لا غروب ولا هلال في بلده، وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول» اهـ.
أما ما استدل به الأولون من تعلق الخطاب بمطلق الرؤية في حديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» فهو صحيح، لكنه لا يشمل إلا كل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب، أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب؛ بأن كان وقت الغروب عند الرائين هو وقت طلوع الشمس عند غيرهم، فلا يجب عليهم صوم؛ لانتفاء سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب، فليس الحديث بِدَالٍّ على عدم اعتبار المطالع.
والذي قرره مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من 30 سبتمبر إلى 27 من أكتوبر سنة 1966م بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية أنه: «لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدت الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية، وإن قَلَّ، ويكون اختلاف المطالع معتبَرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة» اهـ.
وتأكد هذا أيضا في قراره رقم [42] في جلسته الثانية في دورته الثامنة والعشرين التي عقدت بتاريخ 23 ربيع الآخر لسنة 1412هـ الموافق 31 من أكتوبر لسنة 1991م بشأن رؤية الهلال، ونصه: «أنه إذا تعذر دخول الشهر القمري، وثبتت رؤيته في بلد آخر تشترك مع المنطقة في جزء من الليل، وقال الحسابيون الفلكيون: إنه يمكث لمدة عشر دقائق فأكثر بعد الغروب، فإن دخول الشهر العربي يثبت» اهـ.
الانتماء للوطن لا يتنافى مع الانتماء للإسلام
السؤال
هل الانتماء إلى الوطن يتنافى مع الانتماء إلى الإسلام؟ وما الحكم إذا حصل تعارض بينهما؟ كأن صارت البلد التي يحمل جنسيتها تعادي الإسلام وتحارب المسلمين.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: فالانتماء مصدر «انتمى» ومعناه الانتساب إلى شيء، قال الأزهري: «انتمى فلان إلى فلان إذا ارتفع إليه في النسب» [تهذيب اللغة: 15/ 371، ط. دار إحياء التراث العربي]، والانتماء: هو حاجة الفرد لإقامة علاقات مع آخرين، والشعور بالانتماء لجماعة معينة كالأسرة والأصدقاء والوطن والمذهب وغير ذلك، فالإنسان يشعر بالحاجة إلى الانتماء التي قال عنها بعض الباحثين: إنها أحد الحاجات النفسية وهي أن يكون الفرد مخلصًا لأصدقائه، وأن يشارك في جماعة ودودة، وأن يفضل العمل مع الأصدقاء بدلا من العمل بمفرده، وهي إحدى الحاجات الظاهرة التي تتحقق في فعل صريح عندما تستثار في المواقف المختلفة [استكشافات في الشخصية الإنسانية لهنري موراي: ط. جامعة أكسفورد].
والانتماء تختلف روابطه باختلاف حاجة الفرد إليه، فهناك رابطة تجمع بعض الأفراد لعمل معين، ورابطة تجمع أفرادها للوطن الذي يعيشون فيه، ورابطة تجمع أفرادها للتعلم كالمدرسة، فكل هذه الروابط انتماءات للجماعة التي يعمل بها، تشبع الحاجات الاجتماعية لدى الأشخاص، وتشعره بقبول الآخرين له، فينتمي الشخص إلى أسرته، وإلى عائلته، وإلى منطقته، وإلى بلده، وإلى دينه، وإلى مذهبه، وهذا المعنى وهذا الشعور تقره شريعة الإسلام؛ لأن الشريعة تراعي دوافعه الفطرية، فالإنسان أصله واحد وهو آدم -عليه السلام- يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وخلق الله الناس شعوبًا وقبائل؛ لتتعارف وتتعاون وتتواد فيما بينها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ويبين الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره علة جعل الله الناس شعوبًا وقبائل فقال: «وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا، والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات؛ إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والقبائل مع الشعوب؛ لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها، فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظامًا محكمًا لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل، ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل، ثم بينه وبين جماعات أكثر، وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم». [التحرير والتنوير: 26/ 260، ط. الدار التونسية للنشر].
والانتماء إلى الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو البلد يوجب عليك حسن معاملة الناس، وهذا نراه في أمر الله سبحانه عباده بالإحسان إلى ذوي القربى، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الوالدين وأن نحسن القول إلى الناس فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
والانتماء إلى الوطن وحبه من الإسلام، حيث تجد في القرآن أن الله قرن بين مشقة قتل الأنفس والخروج من الوطن امتحانًا واختبارًا للمنافقين، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فإقران الله قتل الأنفس والخروج من الديار، يدل على مشقة الخروج من الديار.
يقول أبو حيان في تفسيره: «وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار؛ إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس» [تفسير البحر المحيط: 3/ 696، ط. دار الفكر]، وعاب الله على بني إسرائيل أنهم يقتلون بعضهم بعضًا، ويخرجون فريقًا منهم من ديارهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يُخرجوا من ديارهم أحدًا فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85].
وكان رسول الله -صلى الله عيه وسلم- يحب وطنه وبلده، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله عنه- قال: ((رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحزورة -موضع بمكة- فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)). وروى الترمذي أيضًا عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)) فهذان الحديثان يدلان على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب بلده ويحن إليها، والصحابة -رضي الله عنهم- ابتلاهم الله بالبعد عن أوطانهم التي عاشوا وتربوا فيها فأمرهم الله بالهجرة، وهاجروا -رضي الله عنهم-، وتحملوا مشقة الخروج عن الوطن، فكافأهم الله عز وجل بالرضا عنهم وإدخالهم الجنات قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100].
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وعَك أبو بكر وبلال -رضي الله عنهما-، قالت: فدخلت عليهما، قلت: يا أبت كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك، قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلـة * بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدَنْ يومــا مياه مَجَنَّة * وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطَفيل.
«ومياه مَجَنَّة، وشامة، وطَفيل، مواضع بمكة يشتاق إلى رؤيتها»، ثم قال بلال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة))»، وعلى هذا دأب العلماء ينسبون أنفسهم إلى أوطانهم وبلادهم التي ولدوا فيها ونشأوا فيها فيقولون: فلان البصري، وفلان المكي، وفلان المدني، والبغدادي، والعراقي ونحو ذلك، وأجمع العلماء على ذلك.
والانتماء إلى الإسلام دينا لا يعارض الانتماء إلى الوطن، ولا يتصور أن يكون هناك تعارض، فالإسلام دائرته أوسع من الوطن، ومن البلد، ومن القرية، بل ومن المذهب التعبدي، يقول تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، فآخى الله المؤمنين بعضهم ببعض فوق دائرة الوطن، فدائرة الإسلام أوسع وأشمل من دائرة الوطن، ولا يوجد تعارض بينهما، فلقد فرض الله التعاون بين المسلمين على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وأمر الله بالاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق على أي أساس، وعدم التعصب لمذهب، أو بلد، أو جماعة، أو غير ذلك، فالمؤمنون إخوة نتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
وروى أبو داود عن جبير بن مطعم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا مَن دعا إلى عَصَبيَّة، وليس منا من قاتل عصبيةً، وليس منا مَن مات على عصبية))، فالحديث دليل على النهي عن التعصب، فالتعصب فُرقة، والوحدة ألفة، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي نضرة في حجة الوداع عن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق فقال: ((أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبَلَّغتُ؟ قالوا: بَلَّغ رسول الله))، فالانتماءات المختلفة لا تعارض بينها، بل تتكامل وتتوافق بالتعاون وعدم التناحر وعدم التعصب.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإن الأصل في الانتماء إلى الوطن أنه لا يتنافى مع الإسلام، بل يتكامل ويتوافق بالتعاون وعدم التعصب تحت أخوة المؤمنين بعضهم بعضًا، فإذا شعر إنسان بالتعارض أحيانًا، فعليه حينئذ سؤال أهل العلم؛ ليدلوه على المخرج. والله تعالى أعلم.
فصل التوأمين الملتصقين
المبـــــــادئ
1- يجوز شرعًا إجراء عملية الفصل بين التوأمين الملتصقين بإذنهما إن كانت أهلية الإذن متحققة فيهما وإن كانا ناقصَي الأهلية فإن الحَقَّ في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب قوة التعصيب.
2- من القواعد الشرعية المقررة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، وأن الضرر لا يزال بالضرر المساوي أو الأشد.
3- يصح زواج التوائم الملتصقة، متى توفرت فيه شروطه وأركانه كان عقدًا صحيحًا.
4- من المقرر شرعا أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع.
الســــــــــؤال
- ما الحكم الشرعي في فصل التوأمين الملتصقين؟
- من تكون له سلطة الإذن بإجراء عملية الفصل: هل هي أسرة التوأمين، أو الأطباء، أو القضاء، أو التوأمان إذا بلغا؟ وما العمل إذا كانت هناك فرص كبيرة لنجاح عملية الفصل ورفضت أسرة التوأمين؟
- هل يجوز إجهاض الأم الحامل إذا اكتشف وجود توائم ملتصقة أثناء الحمل؟
- هل التوأمان الملتصقان روح واحدة أو اثنتان، شخص واحد أو شخصان؟
- هل يحق للتوأمين الملتصقين الزواج، وما الحكم والكيفية؟
وذلك لعرضها على اللجنة الفقهية بالمجمع؛ لاتخاذ ما ترونَه مناسبًا نحو هذا الشأن.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي
الجــــــــــواب
من المعروف أن الحمل ينشأ إذا لُقِّحت البُيَيضة الأنثوية بنطفة الرجل، فيعلق الجنين الذي ينغرس في بطانة الرحم ليأخذ في النمو، وعندما يكتمل نموه يخرج للحياة في صورة عادية، وقد يحدث أن يفرز مبيض المرأة أكثر من بييضة، وتُلَقَّح كلُّ واحدة بحيوان منوي أو تنقسم البييضة بعد الإخصاب إلى خليتين، أو في طور متقدم تنقسم الكتلة الخلوية إلى جزئين، ثم تواصل كل خلية نموها إلى أن يتكون الجنين الكامل، ومن هنا تأتي التوائم.
وقد يحدث ألا يتم الانفصال بشكل كامل فينتج عن ذلك ما يعرف بـ"التوائم الملتصقة" أو "التوائم السيامية". هذه الحالة يكون الطفلان متصلين أو ملتصقين أو ملتحمين ببعضهما في منطقة ما من الجسد مما يستدعي أن يتم إجراء عملية فصل بينهما.
وأما تسمية هذا النوع النادر من التوائم بـ "التوائم السيامية"، فهو نسبة إلى توأمين ولدا بمدينة "سيام" في جنوب شرق آسيا عام 1811م لأبوين صينيين وكانا ملتصقين من جهة الصدر، ويقال: إن هذين التوأمين قد تزوجا من شقيقتين إنجليزيتين وأنجبا اثنين وعشرين طفلا، وقد توفيا عام 1874م، ولم يكن زمن الوفاة بينهما كبيرًا حيث توفي أحدهما قبل الآخر بحوالي ساعتين، ويقال إن النسبة صارت إليهما لأنهما أول حالة طبية رُصدت في هذا الصدد؛ ولكن الإمام أبا الفرج بن الجوزي حكى في تاريخه "المنتظم" عن حالة توأمين ملتصقين رُصِدَت سنة نَيِّفٍ وأربعين وثلاثمائة، وذكر ذلك في حوادث عام 352هـ، أي قبل حدوث حالة التوأمين السياميين بقرون عدة، قال ابن الجوزي: "أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، وأبو عمر أحمد بن محمد الخلال، قالا: حدثنا جماعة كثيرة العدد من أهل الموصل وغيرهم ممن كنا نثق بهم ويقع لنا العلم بصحة ما حدثوا به؛ لكثرته وظهوره وتواتره أنهم شاهدوا بالموصل سنة نَيِّفٍ وأربعين وثلاثمائة رجلين أنفذهما صاحب أرمينية إلى ناصر الدولة؛ للأعجوبة منهما، وكان لهما نحوٌ من ثلاثين سنة وهما ملتزقان من جانب واحد ومن حد فويق الحَِقو -أي: الخاصرة- إلى دُوَين الإبط، وكان معهما أبوهما، فذكر لهم أنهما وُلدا كذلك توأمًا تراهما يلبسان قميصين وسراويلين كل واحد منهما، لباسهما مفردًا، إلا أنهما لم يكن يُمَكِّنهما -أي القميص-؛ لالتزاق كتفيهما وأيديهما في المشي لضيق ذلك عليهما، فيجعل كل واحد منهما يده التي تلي أخاه من جانب الالتزاق خلف ظهر أخيه ويمشيان كذلك، وإنما كانا يركبان دابة واحدة، ولا يُمكِن أحدهما المُنصَرَف إلا أن ينصرف الآخر معه، وإذا أراد أحدهما الغائط قام الآخر معه وإن لم يكن محتاجًا، وأن أباهما حدثهم أنه لما ولدا أراد أن يفرق بينهما، فقيل له: إنهما يَتلََفان؛ لأن التزاقهما من جنب الخاصرة، وأنه لا يجوز أن يَسلَما، فتركهما، وكانا مسلمَين، فأجازهما ناصر الدولة وخلع عليهما، وكان الناس بالموصل يصيرون إليهما فيتعجبون منهما ويهبون لهما. قال أبو محمد: وأخبرني جماعة أنهما خرجا إلى بلدهما، فاعتلَّ أحدهما ومات وبقي الآخر أيامًا حتى أنتن أخاه وأخوه حيٌّ لا يمكنه التصرف، ولا يمكن الأب دفن الميت إلى أن لحقت الحيَّ علة من الغم والرائحة، فمات أيضًا فدفنا جميعًا، وكان ناصر الدولة قد جمع لهما الأطباء، وقال: هل من حيلة في الفصل بينهما؟ فسألهما الأطباء عن الجوع، هل تجوعان في وقت واحد؟ فقال: إذا جاع الواحد منا تبعه جوع الآخر بشيء يسير من الزمان، وإن شرب أحدنا دواء مسهلا انحلّ طبع الآخر بعد ساعة، وقد يلحق أحدَنا الغائطُ ولا يلحق الآخرَ، ثم يلحقه بعد ساعة. فنظروا فإذا لهما جوف واحد، وسُرّة واحدة، ومعدة واحدة، وكبد واحد، وطحال واحد، وليس من الالتصاق أضلاع، فعلموا أنهما إن فُصلا تلفا، ووجدوا لهما ذكرين، وأربع بيضات، وكان ربما وقع بينهما خلاف وتشاجر فتخاصما أعظم خصومة، حتى ربما حلف أحدهما لا كَلَّم الآخر أيامًا، ثم يصطلحان".اهـ.
ويُروى أن هناك حالة أخرى رآها الإمام الشافعي -رضي الله عنه-، رواها أبو نُعَيم في "الحِلية"، لكن الحافظ الذهبي استنكرها في "السِّيَر".
أما الحكم الشرعي لإجراء عملية الفصل بين التوأمين الملتصقين، فالأصل فيه أنه جائز؛ والأصل في جوازه ما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: «بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أُبَيّ بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه»، وهذا الحديث أصل في جواز التدخل الجراحي متى احتيج إليه؛ فقطع العرق وكَيُّه ضَربٌ من ضروب الجراحة، ولا شك أن فصل التوأمين من آكد الحاجيات التي إن فاتت التوأمين حصل لهما من ضروب العنت والجهد والمشقة الحسية والمعنوية ما الله به عليم.
ولكن يجب عند الإقدام على إجراء جراحة الفصل بين التوأمين مراعاة الضوابط الآتية:
أولا: أن يكون القائمون بإجرائها من الأطباء المختصين الأكفاء.
ثانيًا: أن يأذن في إجرائها التوأمان معًا إن كانت أهلية الإذن متحققة فيهما؛ بأن يكونا بالغَين عاقلَين مختارَين، فإن كانا ناقصَي الأهلية فإن الحَقَّ في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب قوة التعصيب، فيقدم من ذوي الأهلية: الأب، ثم الجـد وإن علا، ثم الابن -إن كان-، ثم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم بنو الإخوة الأشقاء، ثم بنو الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم بنو الأعمام الأشقاء، ثم بنو الأعمام لأب، وهذا الترتيب هو الأصل في الإرث لولا أنهم قدموا الابن على الأب؛ لأن الغالب بقاء الابن وكونه في بداية حياته، وكون الأب والجد في إدبار حياتهما.
ويلي الأقارب في سُلطَة الإذن صاحب الولاية العامة، وهو الحاكم أو القاضي في زماننا هذا.
ثالثًا: ألا يترتب على فصل التوأمين مفسدة تفوق مفسدة بقائهما ملتصقين كوفاتهما، أو تلف عضو من أحدهما في مقابل سلامة الآخر، وكذلك يحرم إجراء الجراحة لو غلب على الظن حصول ذلك، ومن القواعد الشرعية المقررة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، وأن الضرر لا يزال بالضرر المساوي أو الأشد. يقول الإمام البَغَوي في شرح السُّنَّة: "والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورًا".اهـ.
وكذلك إذا أكد الأطباء المختصون باليقين أو الظن الغالب أن أحدهما سيعيش بعد الفصل والآخر سيموت بحيث إنهما لو استمرا على ذلك لمـاتا جميعًا جاز الفصل.
ولكننا أيضًا نشير إلى أنه يصعب وضع ضابط واحد لكل الحالات، بل نقول: إنه ينبغي أن تدرس كل حالة على حدة؛ لأنه قد يكون الأرجح في بعض الحالات أن يُضَحَّى بعضو لأحد التوأمين أو لكليهما في مقابل أن يتم لهما الانفصال الآمن، وتكون المفسدة الناشئة عن هذا أهون بكثير من مفسدة بقائهما متصلَين مع سلامة أعضائهما.
رابعًا: أنه لا يجوز لطبيب إجراء الجراحة إذا لم يوافق عليها من له حق الإذن. فإن كانت هناك فرصة كبيرة لنجاح عملية الفصل ورفضت أسرة التوأمين، فإنه لا يتم إجراء العملية إلا بعد رفع الأمر للقاضي؛ ليرفع النـزاع بين الولي الطبيعي وبين المتخصصين الذين يرون وجوب إجرائها.
خامسًا: أنه لا يجبر التوأمان عليها إن كانا بالغين عاقلين، ولو استمر موجبها، طالما كانا راضيين بما ابتليا به، بخلاف ما إذا قبل أحدهما ورفض الآخر، فيرجع حينئذ للأطباء المختصين، فإن قالوا بإمكان إجراء جراحة الفصل الآمن بين التوأمين، جاز إجبار الرافض منهما عليها؛ لما في امتناعه من مضارة أخيه.
أما بخصوص حكم الإجهاض إذا ما اكتشف الطبيب وجود توائم ملتصقة أثناء الحمل، فيُفرَق هنا بين حالتين، الأولى: أن يكون قد مر على الحمل مائة وعشرون يومًا فأكثر في بطن الأم، فإذا كان كذلك فقد نفخت فيه الروح، ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إنَّ أَحَدَكُم يُجمَع خَلقُه في بَطن أُمِّه أربعين يَومًا، ثُمَّ يَكون عَلَقَة مِثلَ ذلك، ثم يَكون مضغة مِثلَ ذلك، ثُمَّ يَبعَثُ الله مَلَكًا فيُؤمَر بأَربَع كَلِمات، ويُقالُ له: اكتُب عَمَلَه ورِزقَه وأَجَلَه وشَقِيٌّ أو سَعيد، ثُمَّ يُنفَخ فيه الرُّوح»، وإذا ما نفخت الروح في الحمل لم يجز إسقاطه، وكان إسقاطه قتلا للنفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق.
أما إذا كان الحمل لم تنفخ فيه الروح بأن كان قبل هذه المدة فيجوز إسقاطه والحالة هذه طالما لا يوجد ضرر محقق أو مترجح على الأم من جَرّاء الإجهاض؛ وذلك اتقاء للمشكلات التي تتلازم مع ولادة التوائم الملتصقة؛ من صعوبة العملية التي تكون في الغالب بشق البطن، مع احتياجها لتقنية ومهارة عالية، فضلا عن التكاليف الباهظة لعملية الفصل وقد أجاز بعض العلماء إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه إذا كان ثمَّ عذر معتبر؛ كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه، كما نقله ابن عابدين في حاشيته عن ابن وهبان من فقهاء الحنفية، ولا شك أن ما ذكرناه من المشكلات أقوى في الإعذار مما ذكره ابن وهبان.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح البهجة: "إسقاط الحمل إن كان قبل نفخ الروح جاز، أو بعدها حَرُم". اهـ.
وفي متن الإقناع للحجّاوي من كتب السادة الحنابلة: "ويجوز شرب دواء لإلقاء نطفة".
وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي أن ظاهر كلام ابن عَقيل في الفنون: أنه يجوز إسقاطه قبل أن ينفخ فيه الروح. قال: "وله وجه".
أما أنّ كل واحد من التوأمين شخص مستقل له روح مغايرة للآخر فهذا مما لا ينبغي التوقف في صحته، ومن أبلغ الأدلة عليه أن كل واحد منهما يكون له تفكيره وميوله التي قد لا يشاركه فيها الآخر، وقد يموت أحدهما ويبقى الآخر حيًّا بعده زمنًا كما هو مشاهد معلوم، وهذا لا يكون إلا أن يكون كل منهما متميزًا عن الآخر بروحه وشخصه.
وأما عن زواج التوائم الملتصقة، فإن الزواج عقد من العقود متى توفرت فيه شروطه وأركانه كان عقدًا صحيحًا، وكما تقدم فإن كل واحد من التوأمين مستقل عن الآخر حكمًا، فإذا أجرى عقد الزواج تام الشروط والأركان صح عقده، ولم تؤثر حالة الالتصاق في إفساد العقد؛ لأنها أمر خارج عنه.
وأما عن كيفية ممارسة الحياة الزوجية فهذه أمور إجرائية تفصيلية تخضع لأحكام الشرع الكلية وقواعده العامة التي منها أن الضرر يزال، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن ما أبيح للضرورة فإنه يقدر بقدرها، وأن الحاجة تُنـَزّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، ونحو هذا من القواعد التي يتفرع عنها في هذا الصدد وجوبُ فعل أشياء، وحرمةُ فعل أشياء، واستحبابُ فعل أشياء، وكراهةُ فعل أشياء، وإباحةُ فعل أشياء، والشريعة المطهرة تستوعب هذا وغيره بمرونتها وسعتها وإحاطتها، والتفصيل في كل حالة بحسبها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
حكم استعمال أسلحة الدمار الشامل ضد الدول غير الإسلامية
المبـــــــائ
1- اتخاذ الدول الإسلامية أسلحة الدمار الشامل على سبيل ردع المعتدين عنها مطلوبٌ شرعي.
2- مُكَمِّل المطلوب مطلوبٌ، والإذن في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده.
3- البدء باستخدام أسلحة الدمار الشامل بناء على بعض الاجتهادات الفردية أو الرؤى التي تخص بعض الطوائف والفرق والجماعات ممنوع شرعًا، والقول بجوازه ونسبته إلى الشريعة وإلى علمائها كذبٌ وزورٌ وافتراءٌ على الشرع والدين.
4- الأصل في الحرب ألا تكون إلا تحت راية ولي الأمر، وأن شأنها موكول إلى اجتهاده، وأنه يجب على الرعية طاعتُه في ذلك.
5- الاتفاقات والمواثيق والعهود الدولية التي رضيتها الدول الإسلامية وانضمت إليها وأقرتها بمحض إرادتها وباختيارها يجب عليها الوفاء بها.
6- المؤمن منهي عن المباغتة والفتك وقتل الغافلين.
7- أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون.
8- جريمة قتل المسلم عمدًا وعدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبة القاتل خلاف بين الصحابة ومن بعدهم.
9- من القواعد الشرعية المقررة أن دفع المفسدة واجب، وأنه مقدم على جلب المصلحة.
10- إتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه.
11- من دخل إلى أرض العدو بأمان لم يخنهم.
12- من الفروق بين أحكام دفع الصائل وأحكام باب الجهاد: أن الصائل إنما يُدْفَع بالأخف فالأخف.
13- الصواب هو منع استعمال أنواع أسلحة الدمار الشامل التي تتسبب في حرائق عامة مطلقًا ولو في الحروب للنهي العام عن التحريق.
14- محل تجويز الفقهاء لمسألة تبييت العدو مقيد بقيود منها: أن يكون ثَمَّ حالة الحرب، وأن يكون العدو المقصود تبييته عدوًّا يجوز قتاله.
15- مسألة التترس ونحوها لا تجوز إلا في حالة الحرب وبشروط وصور محددة تناولها الفقهاء بالتفصيل.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 980 لسنة 2009م المتضمن: ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الكتابات والأطروحات من بعض الطوائف والفرق والجماعات التي يدعي فيها أصحابها أنه يجوز لهم استعمال أسلحة الدمار الشامل ضد الدول غير الإسلامية، زاعمين أن قولهم هذا موافق للشرع، مستدلين ببعض النصوص الفقهية وبالقياس على مسألة التَّتَرُّس والتبييت والتحريق المذكورة في بعض الكتب الفقهية، فهل هذا الكلام صحيح موافق للشرع؟
الجــــــــــواب
أسلحة الدمار الشامل تُطلَق في الاصطلاح العسكري ويُراد بها صِنفٌ مِن الأسلحة غير التقليدية شديدة الفتك، تُستَخدَم فتسبب دمارًا هائلا في المنطقة المصابة، سواء في ذلك الكائنات الحية من البشر والحيوانات والبيئة المحيطة أيضًا، وتنقسم هذه الأسلحة إلى ثلاثة أصناف:
أسلحة ذرية: كالقنبلة النووية والقنبلة الهيدروجينية والقنبلة النيترونية، وهذا النوع مُصَمَّم بحيث ينشر موادَّ إشعاعية تدمر البشر والمنشآت وتلوث مُدُنًا بأكملها لمدد زمنية طويلة، وقد يقتصر بعضها على تدمير البشر فقط دون المنشآت.
وأسلحة كيماوية: كالغازات الحربية ذات الاستعمالات المتعددة والمواد الحارقة، ويكون لها تأثير بالغ الضرر قد يصل إلى الموت على أي كائن حي يتعرض لها، كما تصيب أيضًا الزراعات والنباتات، وغالبًا ما تكون هذه المواد السامة في حالة غازية أو سائلة سريعة التبخر ونادرًا ما تكون صلبة.
وأسلحة بيولوجية: ويقصد بها الجراثيم والفيروسات التي تُستَخدَم لنشر الأمراض الوبائية الخطيرة في صفوف العدو، وإنزال الخسائر بموارده الحيوانية أو الزراعية.
واتخاذ الدول الإسلامية مثل هذه الأسلحة على سبيل ردع المعتدين عنها مطلوبٌ شرعي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ} [الأنفال: 60]، قال العلامة الألوسي في تفسيره: "أي: مِن كل ما يُتَقَوَّى به في الحرب كائنَا ما كان". "اهـ 10/ 24 ط: دار إحياء التراث العربي".
وقد أمر الله تعالى في الآية سالفة الذكر بردع الأعداء حتى لا تُسَوِّل لهم أنفسهم الاعتداء على المسلمين، والردع كما هو مبدأ شرعي يظهر في الحدود والتعازير فهو أيضًا مبدأ سياسي معتبر تعتمده الدول في سياساتها الدفاعية كما تقرر في علم الإستراتيجيات العسكرية، فاتخاذ هذه الأسلحة وتحصيلها من مكملات ذلك المطلوب، ومُكَمِّل المطلوب مطلوبٌ، والإذن في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده، ولا يخفى ما في ذلك من فائدة خلق التوازن الإستراتيجي والعسكري المتبادل بين الدول، إذ يشكل ذلك عاملَ إثناءٍ للدولة التي قد تسول لها نفسها أن تُقدِم على عمل عدائي ضِد بلد مسلم، مما يجنب في النهاية فرضية الدخول في حرب غير مرادة أصلا. هذا من حيث تحصيل هذه الأسلحة واتخاذها على سبيل التخويف وردع المعتدين، وفرق بين الاتخاذ المقصود به الردع، وبين المبادأة بالاستخدام، والصورة المسؤول عنها فرضها البدء بالاستخدام، وأن هذا الاستخدام مبناه على بعض الاجتهادات الفردية أو الرؤى التي تخص بعض الطوائف والفرق والجماعات، وهذا ممنوع شرعًا، والقول بجوازه ونسبته إلى الشريعة وإلى علمائها كذبٌ وزورٌ وافتراءٌ على الشرع والدين، ويدل على هذا أمور:
أولا: أن الأصل في الحرب ألا تكون إلا تحت راية ولي الأمر المسلم، وأن شأنها موكول إلى اجتهاده، وأنه يجب على الرعية طاعتُه في ذلك، وما وُكِّل ذلك إليه إلا لمعرفته واستشرافه على الأمور الظاهرة والخفية وإدراكه لمآلات الأفعال ونتائجها ومصالح رعيته، ولهذا كان إعلان الحرب وعقد الاتفاقات العامة أو الدولية مُوكلا إليه بمجرد تنصيبه، وهو بدوره لا يصدر قرارًا بمجرد الهوى والتشهي بل لا يفعل إلا بعد مراجعة أهل الاختصاص في كل مجال له علاقة بقراره من الخبراء الفنيين والعسكريين والمستشارين السياسيين الذين يُعَدُّون في النهاية مشاركين في صنع القرار الذي لا يمكن أن يستقل ولي الأمر به دون مشاورتهم. واستقلال فرد أو أفراد من عموم المسلمين بتقرير استعمال مثل هذه الأسلحة ليس افتئاتًا على ولي الأمر فقط، بل هو افتئات على الأمة نفسها؛ إذ إن هؤلاء قد أعطوا أنفسهم حق اتخاذ قرارات تتعلق بمصير الأمة ككل دون أن يرجعوا إليها وإلى أهل الحَل والعقد فيها، وذلك في أمور تعرض البلاد والعباد إلى أخطار داهمة.
قال العلامة البهوتي في شرح منتهى الإرادات: "ويَحرُم غَزوٌ بلا إذن الأمير؛ لرجوع أمر الحرب إليه، لعلمه بكثرة العدو وقلته ومكامنه وكيده "إلا أن يفاجئهم عدو" كفار "يخافون كَلَبه" بفتح اللام أي: شره وأذاه، فيجوز قتالهم بلا إذنه؛ لتعين المصلحة فيه". "اهـ 1/ 636، ط: عالم الكتب".
ثانيًا: ما في ذلك من خرق للاتفاقات والمواثيق والعهود الدولية التي رضيتها الدول الإسلامية وانضمت إليها وأقرتها بمحض إرادتها وباختيارها؛ توافقًا مع المجتمع الدولي لتحقيق الأمن والسلم الدوليين بقدر التزام الدول الموقعة عليها بها، وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ} [المائدة: 1]، والعقود جمع عَقد، والعقد يطلق على كل التزام واقع بين جانبين في فعل ما، قال شيخ الإسلام التونسي العلامة ابن عاشور معلقًا على هذه الآية في تفسيره: "التعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربَّهم، وهو الامتثال لِشريعته... ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا... وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين... ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم". اهـ. "التحرير والتنوير 6/ 74، ط: الدار التونسية للنشر".
وروى الترمذي عن عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حَرّم حلالا أو أحلّ حرامًا».
قال الإمام الجصاص: "وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يَشرُط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة تخصصه". اهـ. "أحكام القرآن 2/ 418، ط: دار الفكر".
وروى البخاري عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ». وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «ذمة المسلمين» أي: عهدهم. وقوله: «يسعى بها أدناهم» أي: يتولى ذمتهم أقلهم عددًا، فإذا أعطى أحد المسلمين عهدًا لم يكن لأحد نقضه، فما بالنا بولي الأمر، وقوله: «من أخفر» أي: نقض العهد، وقوله: «صرف ولا عدل» أي: لا فرضًا ولا نفلا، والمعنى: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله. وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر»، وروى البيهقي عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إذا أمن الرجلُ الرجلَ على نفسه ثم قتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرًا».
ومِن ثَمَّ فإن كل أطراف تلك العهود والمواثيق الدولية هم في حالة سلمٍ وتركٍ للقتال بموجب ما اتفقوا عليه، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
ثالثًا: ما يتضمنه هذا الفعل من مباغتة وقتل للغافلين، وقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا يفتِك المؤمن، الإيمان قيد الفَتك».
قال ابن الأثير: "الْفَتْك أَنْ يَأْتِي الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ غَارّ غَافِل فَيَشُدّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ". اهـ. "النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 775، ط: المكتبة العلمية ببيروت".
ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يفتك مؤمن» هو خبر بمعنى النهي؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، أو هو نهي. ولما وقع خبيب الأنصاري -رضي الله عنه- أسيرًا لدى المشركين ثم بيع بمكة فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو من قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، وفي يوم استعار خبيب موسى من بنت الحارث ليستحد بها، فأعارته فأخذ ابنًا لها وهي غافلة فلما جاءته وجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة، فقال لها خبيب: "تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك"، قالت بنت الحارث: "والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب". فهذا رجل مسلم أسير لدى أعدائه الذين يدبرون لقتله وهو على شفير الموت، ورغم ذلك عندما تحين له فرصة يمكنه أن يدمي قلوبهم فيها بقتل ابنهم يعف عن ذلك؛ لأن خلق المسلم لا يتضمن الخداع ومباغتة الغافلين.
رابعًا: ما يتضمنه هذا الفعل من قتل وإذاية للنساء والصبيان، وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- «أن امرأة وُجدت في بعض مغازي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قتل النساء والصبيان»، وفي رواية أخرى لهما: «فنهى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن قتل النساء والصبيان». قال الإمام النووي: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون". اهـ. "شرح مسلم 12/ 48، ط: دار إحياء التراث العربي".
خامسًا: ما يستلزمه هذا الفعل من قتل وإذاية للمسلمين الموجودين في هذه البلاد من ساكنيها الأصليين أو ممن وردوا إليها، وقد عظَّم الشرع الشريف دم المسلم ورهَّب ترهيبًا شديدًا من إراقته أو المساس به بلا حق؛ قال تعالى: {وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} [النساء: 93]، وقال سبحانه: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا} [المائدة: 32]. وروى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم»، وروى ابن ماجه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرًا». وجريمة قتل المسلم عمدًا وعدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبة القاتل خلاف بين الصحابة ومن بعدهم.
سادسًا: ما سيجره هذا الفعل الأخرق من ويلات ومصائب على المسلمين جميعًا بل والدنيا ككل؛ لأن الدولة المعتدَى عليها قد تقابل هذا التصرف بتصرف مماثل أو أشد نكاية، كما أن الآثار المدمرة الناجمة عن بعض هذه الأسلحة قد تتعدى مجرد البقعة المصابة وتجرفها الرياح إلى بلاد أخرى مجاورة لا جريرة لها.
فمفاسد هذا الفعل العاجلة والآجلة أعظم بكثير من مصالحه إن كان ثم مصلحة فيه أصلا، ومن القواعد الشرعية العظيمة أن دفع المفسدة واجب، وأنه مقدم على جلب المصلحة.
سابعًا: ما يترتب على استعمال بعض هذه الأسلحة من إتلاف للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلَف ليس مملوكًا للمتلِف بل هو مملوك لغيره كما هو الحال هنا، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى.
ثامنًا: استعمال هذه الأسلحة في بعض صوره يلزمه أن يدخل الفاعل إلى البلاد المستهدفة، وذلك بعد استيفائه الإجراءات الرسمية المطلوبة منه للدخول، وموافقة هذه البلاد على دخول شخص ما إلى بلادها متضمنة أنها توافق على دخوله بشرط عدم الفساد فيها، وهو وإن لم يذكر لفظًا إلا أنه معلوم في المعنى، وقد نص الفقهاء على نحو هذا؛ قال الإمام الخِرَقي في مختصره: "من دخل إلى أرض العدو بأمان، لم يخنهم في مالهم"، قال ابن قدامة شارحًا عبارته: "أما خيانتهم فمحرمة; لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك مَن جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضًا لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم؛ لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر". اهـ. "المغني 9/ 237، ط: دار إحياء التراث العربي".
وأما النصوص الشرعية والفقهية التي جُعِلَت تُكَأَةً لترويج هذه الفكرة الآثمة فهي نصوص منتزعة من سياقاتها مختلفة في (مناطها)؛ فالاحتجاج بها نوع من الشغب؛ حيث إن فيه إهدارًا للفروق المعتبرة بين الأحوال المختلفة؛ كالفرق بين حالة الحرب وحالة السلم، وأن لحالة الحرب أحكامًا خاصة بها تختلف عن حالة السلم الذي تُعصَم فيها الدماء والأموال والأعراض، وهذا فرق مؤثر لا يستقيم معه إلحاق استعمال هذه الأسلحة بما ورد في كتب الفقه من جواز تبييت العدو وجواز رمي الترس وغيرها من المسائل الواردة في الفقه الإسلامي؛ فقياسها عليها محض خطأ، وإن كانت هذه المسائل المنقولة مسائل صحيحة في نفسها وفي محلها الذي قصده الفقهاء منها وفي حكمها الذي نزَّلوه عليها. ولكن الخطأ كل الخطأ في نقل هذه الأحكام الصحيحة من محلها وواقعها إلى محل مغاير وواقع مختلف صورةً وتكييفًا وحكمًا. كما أنه لا يصح قياس استخدام هذه الأسلحة على قتال الصائل وقتله؛ إذ من المعلوم أن هناك فروقًا بين أحكام دفع الصائل وأحكام باب الجهاد، منها: أن الصائل إنما يُدْفَع بالأخف فالأخف، فلو دُفِعَ بالكلام حرم الضرب، ولو أمكن دفعه باليد حرم دفعه بالسيف، وهكذا، وهو ما لا يتسق مع إجازة استعمال أسلحة الدمار الشامل على الوجه المذكور.
وما يُستَدَل به في هذا المقام من الأحاديث الواردة في جواز تبييت المشركين أو جواز استخدام المنجنيق أو جواز التحريق، وقياس استخدام أسلحة الدمار الشامل على هذه الصور هو في الحقيقة قياس باطل؛ لظهور الفرق الشاسع والواضح بين الأمرين من أن هذه الأحاديث واردة في حالة الحرب، وفرق بين حكم حالة الحرب وحكم غيرها، كما أن هناك فارقًا كبيرًا من حيث الأثر بين رمي الأحجار بالمنجنيق وبين رمي أسلحة الدمار الشامل كما لا يخفى؛ لأن أثر الرمي بالمنجنيق قاصر بالنسبة إلى أسلحة الدمار المذكورة، كما أن هذه الوقائع الواردة في السنة النبوية إنما تمت تحت راية ولي الأمر، وهو فارق رئيس وجوهري بينها وبين ما تستلزمه هذه الدعوى من الخروج على ولاة الأمر، وإعطاء آحاد الناس حق إعلان الحروب من عند أنفسهم افتئاتًا على الأمة وعلى ولاة أمورها تحت مسمى الجهاد. كما أن هذه الأحاديث بفرض صحتها إنما هي وقائع أعيان لا عموم لها، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الأصل عدم جواز التبييت والتحريق والتخريب؛ اعتمادًا على النصوص القولية في الباب والتي لها صفة العموم. على أنا نرى أن الصواب هو منع استعمال أنواع أسلحة الدمار الشامل التي تتسبب في حرائق عامة؛ اتباعًا لمقتضى النهي القولي عن التحريق بالنار بعد أن أمر به -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم نهى عنه قبل أن يقع، رغم أن الحالة كانت حالة حرب وقال فيما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إن النار لا يعذب بها إلا الله»، فنهى -صلى الله عليه وآله وسلم- عن التحريق، ومعلوم أن كثيرًا من أسلحة الدمار الشامل تسبب حرائق هائلة، فالصواب منع استخدامها مطلقًا ولو في الحروب للنهي العام عن التحريق.
وأما إلحاق هذه المسألة بمسألة تبييت العدو فهو نوع من المغالطة؛ لأن محل تجويز الفقهاء لمسألة تبييت العدو مقيد بقيود منها: أن يكون ثَمَّ حالة الحرب، وأن يكون العدو المقصود تبييته عدوًّا يجوز قتاله، خلافًا لمن بيننا وبينهم اتفاقات ومواثيق لها حكم الهدنة؛ فلا يجوز تبييت من بيننا وبينه هدنة أو ذمة أو ما جرى مجراهما من المواثيق والعهود والاتفاقات الدولية؛ إذ صار كل طرف من أطرافها موضع تأمين من سائر الأطراف الأخرى على النفوس والأموال والأعراض، وإذا كان هؤلاء لا يجوز معهم التبييت ونحوه فلأن يكون استخدام هذه الأسلحة الفتاكة في حقهم حرامًا من باب أولى وأحرى، أما مسألة التترس ونحوها فإنها لا تجوز إلا في حالة الحرب وبشروط وصور محددة تناولها الفقهاء بالتفصيل. راجع: "البحر الرائق 5/ 80"، "حاشية ابن عابدين 3/ 223"، "روضة الطالبين 10/ 239"، "مغني المحتاج 4/ 223"، "المغني لابن قدامة 8/ 449، 10/ 386".
وبناء على ذلك: فهذه الدعوى من الدعاوى الباطلة، والقول بها والترويج لها من عظيم الإرجاف والإجرام والإفساد في الأرض الذي نهى الله تعالى عنه، وتوعد فاعله بأشد العقاب، قال تعالى: {لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا} [الأحزاب: 60]، وقال سبحانه: {وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} [الأعراف: 85]، وقال عز من قائل: {فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ} [محمد: 22- 23].
والله سبحانه وتعالى أعلم