تقوم العلاقة بين الإنسان والكون على التوافق والانسجام، ومنذ هبط الإنسان إلى الأرض، وقد ارتبط تطوره العقلي والحضاري بحسن توافقه وتكيفه مع البيئة والكون، وحسن استخدامه وانتفاعه بمفردات الحياة. فلا يحق له بأي حال الإساءة إليه، بل يجب عليه احترامه ورعايته.
والمسلم، خاصة، يتعامل مع مخلوقات الله من منطلق الشعور بالمساواة معها، والمشاركة في العبودية لإله واحد، وترتبط علاقاته بغيره بمدى تعلقه والتفاته إلى ربه، فهو يتوجه بالحب إلى الله ومن خلال ذلك الحب يتوجه بالحب إلى ما أبدع وصنع، ولذلك نراه يستوي عنده ضعف المخلوقات وقوتها، حقارتها وعظمتها، لأن نظره لا يتعلق بها، بل يتعلق بخالقها القوي الحكيم. فالمسلم يقدس من عالم الأشياء المصحف والكعبة وقبر النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- ونحوها، لمكانتها عند الله- عز وجل-، وتقديسه لها يجمع بين الاحترام والحب.
ولقد أعطى النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه درسا في حب الجماد والتفاعل معه ومجاوبته حينما حن إليه الجذع ومال، فَعَنْ جَابِرٍ: «كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ- وهو صوت يخرج من الصدر فيه رقة-، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ». [رواه البخاري].
وعندما مر النبي- صلى الله عليه وسلم- على جبل أحد، وعلى الرغم من أنه كان موطنا أصاب المسلمين فيه قرحٌ وأصاب النبيَّ جرح، واستشهد عليه عمه حمزة بن عبد المطلب فحزن النبي لذلك، رغم ذلك فإنه أشار إليه وقال: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [رواه البخاري]، فالجبل أحب المسلمين، والمسلمون يحبون هذا الجبل، وإن كان ما حدث في موقعة أحد أدعى أن يتشاءم المسلمون منه.
ولم يكن هذا الأمر من التفاعل مع الجماد في البيئة الإنسانية مقصورا في حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بعد بعثته، بل قبلها فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ» [صحيح مسلم]، فالنبي يذكر أنه لم يتجاهل الحجر بعد البعثة، بل ظل يعرفه ويتعلق به، ولم يفعل ذلك إلا لكونه مخلوقا لله أحبه وعظمه، فقد كان يسلم عليه قبل بعثته مبشرا له ومعلما بما سَيُكَلَّفُ به النبي من تحمل الرسالة وأدائها. ولم يكن تفاعل عالم الجماد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقصورا على العالم الأرضي، بل السماوي أيضا، فنجد القمر ينشق نصفين معجزة له، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ- عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُم انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يعادلها شيء من آيات الأنبياء، لأنه ظهر في ملكوت السماء، والخطب فيه أعظم، والبرهان به أظهر ؛ لأنه خارج عن جملة طباع ما في هذا العالم من العناصر. [راجع عمدة القاري شرح صحيح البخاري].
إن الجماد له احترامه في تصور المسلم للوجود، وقد تعلق كثير من العبادات بالمكان والزمان، وأوضح مثال على ذلك حركة المسلم في طوافه حول الكعبة، فإنها حركة تشبه كثيرا حركة النجوم والأجرام السماوية في أفلاكها حول مركزها، وتشبه أيضا حركة الإلكترونات في مساراتها حول النواة داخل الذرة، مما يعكس صورة رمزية لوحدة البناء بين أعظم المخلوقات وأدقها، فينطق بأنه- سبحانه- خالق كل شيء، وأن الكون عبارة عن مسجد كبير اشتركت فيه الكائنات سجودا وتسبيحا لخالقها.
والإنسان وجميع الموجودات خاضعون لقانون واحد وسنة واحدة تتحكم في تحركهم وسكونهم، وهذا النظام يعبر عن وحدة الخالق، وتظهر فيه سنن الله في خلقه. فلكل موجود ممكن دورة حياة، تبدأ بالوجود ثم النماء ثم الضمور فالموت، وهو أمر يصيب كل شيء من حولنا، سواء في ذلك الجماد والحيوان والإنسان، حتى النجوم والمجرات لها أعمار وآجال، بانتهائها تدخل في دورة حياة كائنات أخرى، وتفقد صورتها الأولى وتتحول إلى صور أخرى متعددة. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِى الأَلْبَابِ) [سورة الزمر: آية ٢١]، وقال- سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ). [سورة الروم: آية ٥٤].
فالموجودات تتشابه في أطوار التكوين وتتابعها عليها بين الضعف والقوة والنقص والكمال، ولكل موجود أجل وعمر مقدر لا يتقدم عليه لحظة ولا يتأخر، ينتهي دوره في الكون بانتهاء أجله.
وكذلك هناك تشابه في التكاثر بين المخلوقات، حيث خلق الله- سبحانه وتعالى- من كل شيء زوجين متجاذبين تتولد الطاقة أو الحياة من التقائهما، لذا تُعَد الحياة كلها آية ساطعة على التوحيد، تظهر على وجه الكائنات صغيرها وكبيرها . قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). [سورة الذاريات : آية ٤٩].
الكون كله يسبح لله -عز وجل- قال –تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [سورة النور: آية ٤١]، وقال –تعالى-: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء: آية ٤٤].
ومادام أن الكون يسبح ربه ويحمد خالقه الحق فإن أي اعتداء عليه أو تصرف فيه بغير حق يعد عبثا وطغيانا يؤدي حتما إلى الفساد، وينبغي أن يُجَرَّمَ صاحبه، لأن أي اعتداء على الكون يعد اعتداء على حق الإنسان في الحياة.
والمسلم بهذا التصور يحترم جميع المخلوقات أصغرها وأعظمها، لأنه يراعي فيها عظمة موجدِها ومدبرها، وقدرة من تَعَبَّدَهَا بالتسبيح والسجود.
وكما أشرنا من قبل، فإن مفهوم الكون لم يقتصر في مفهوم الإسلام على المفهوم الشائع عن البيئة، الذي حددها بأنها كل ما يحيط بالإنسان من مخلوقات ومظاهر طبيعية، ولكنه ينظر للكون على أنه الإنسان وكل ما يحيط به، وذلك لأنه ليس ثمة سبب منطقي يُخْرِجُ الإنسانَ عن كونه جزءا من هذا الكون، وهو أهم جزء فيه، وصلاحه مرتبط بصلاحه، وفساده وعدم المحافظة عليه من الناحية النفسية والعقلية والجسدية بتنمية قدراته ـ يعد أكبر فساد في البيئة.
والخلافة والأمانة التي هي وظيفة الإنسان في الأرض تعنيان الاعتناء والرعاية بالإنسان أولا، ثم بغيره من الكائنات، وذلك لا يكون إلا بهدايته إلى المنهج السوي في إعمار الكون وفهم مراد الحق -سبحانه وتعالى- من الوجود.
والخلافة في الأرض بالمفهوم الإسلامي تعني تحمل الإنسان مسؤولية إعمار الكون والمحافظة على البيئة، وذلك في مقابل ما يَنْعَم به الإنسان من تسخير الكون في خدمته وسعادته.
والتسخير هو انتفاع الإنسان بصفته الإنسانية بخيرات الكون وطيباته، ولذلك فلا يحق لإنسان - تبعا للمنهج الإسلامي - أن يستأثر بهذا النفع دون غيره على المستوى الزماني أو المكاني.
فقد نصب الله الإنسان حارسا وخليفة في الكون، وجعله مهيمنا على ما فيه من منافع وتسخيرات حتى يظل سيدا وخليفة فلا يُحْتَكَمُ عليه من غير جنسه، وهي مسؤولية يحاسب عليها في الآخرة، ويجازى بمقتضى فعله فيها إن خيرا وصلاحا فخير وإن شرا وفسادا فشر.
وإعمار الكون والمحافظة على البيئة عملية تقوم على بعدين: البعد الأول يتعلق بالتصورات العقائدية التي ترسم العلاقات بين الإنسان والكون والإله. والبعد الثاني يتعلق بالتصورات الفقهية التي تصدر عنها الأحكام الشرعية والتي تنظم العلاقات بين الإنسان والكون وبين الإنسان والخالق.
ويعكس هذا المنهج ما جاء في الإسلام من تصورات عقائدية وأحكام فقهية جعلت الإنسان مطالبا وقادرا ومدفوعا إلى المحافظة على بيئته الإنسانية، والمشاركة والتعاون على عدم الإفساد فيها، بل التوضيح للعالمين أن الشرع الإسلامي لم يقف عند حدود المحافظة، بل تعداها إلى التنمية والإصلاح وغير ذلك، لأن الإسلام حض على العمل والتفكر والبحث عن أسرار الكون استدلالا على الوجود الإلهي ووصولا إلى المحبة.
فالتصور الذي رسمه الإسلام للسماء والأرض والجماد والنبات والحيوان كان أدعى إلى حصول الاهتمام والرعاية من الإنسان لبقية المخلوقات، بل الرفق والرحمة والمحبة بها، لأن المسلم بحبه لله تَحْصُلُ في قلبه المحبةُ لكل ما خلق الله وأبدع.
أما عن الكون، فهو يشارك الإنسان في الطاعة والتسبيح، قال –تعالى-: (وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [سورة الأنبياء: آية ٧٩]، وقال –سبحانه-: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) [سورة سبأ: آية ١٠].
فنبي الله داوود -عليه السلام- الذي جعله الله خليفة في الأرض وآتاه الحكم والعلم ورزقه الحكمة، وأمره أن يحكم بالحق فَحَكَمَ، كان جزاؤه أن سخر الله له الجماد والحيوان تسخيرا خاصا، فكان إذا سبح داوود -عليه السلام- أجابته الجبال، وكان -عليه السلام- إذا وجد فَتْرة وقلة نشاط أمر الله –تعالى- الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا.
وقد خاطب الحق -سبحانه وتعالى- كثيرا من المخلوقات غير الإنسان: فأوحى إلى النحل، قال –تعالى-: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) [سورة النحل: آية ٦٨-٦٩]، وأمر سبحانه الأرض والسماء، فقال –تعالى-: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) [سورة هود: آية ٤٤]، وجعل -عز وجل- للأرض والسماء اختيارا، فقال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [سورة فصلت: آية ١١]، كما عرض -سبحانه وتعالى- الأمانة على السموات والأرض والجبال، وجعل لهن اختيارا، فرفضن تحمل الأمانة، قال –تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [سورة الأحزاب: آية ٧٢].
كل ذلك إنما يعكس احترام الكائنات في التصور الإسلامي على المستويين المادي والوجداني. ومن هذا المنطلق يتصرف المسلم مع الأرض والسماء وكل المخلوقات باحترام ورحمة، يدفعانه إلى أن يحافظ عليها ولا يهمل وجودها لا من الناحية المادية ولا من الناحية المعنوية.
إن مفهوم البيئة في شريعة الإسلام السمحة لم يقتصر على المفهوم الشائع لها، والذي حددها بأنها كل ما يحيط بالإنسان من مخلوقات ومظاهر طبيعية، ولكنه ينظر للبيئة على أنها الإنسان وكل ما يحيط به، وذلك لأنه ليس ثمة سبب منطقي يُخْرِجُ الإنسانَ عن كونه جزءا من البيئة، وهو أهم جزء فيها، وصلاحها مرتبط بصلاحه، وفساده وعدم المحافظة عليه من الناحية النفسية والعقلية والجسدية بتنمية قدراته يعد أكبر فساد في البيئة.
والخلافة والأمانة التي هي وظيفة الإنسان في الأرض تعنى الاعتناء والرعاية بالإنسان أولاً، ثم بغيره من الكائنات، وذلك لا يكون إلا بهدايته إلى المنهج السوي في إعمار الكون وفهم مراد الحق سبحانه وتعالى من الوجود.
ومفهوم البيئة في الإسلام يقوم على محاور أربعة:
أولا: الخلافة والتسخير
الخلافة تعنى المسؤولية عن الكون برعايته والمحافظة عليه، والتسخير يعني الاستفادة منه والاستمتاع به، وكلاهما يقتضي المشاركة والتعاون. والمسؤولية تقع على الناس جميعا، كما أن الانتفاع حق مكفول للجميع ومشترك بين الناس بصفتهم الإنسانية، لم يجعله الله حقاً لقوم أو فئة دون غيرها.
فالمؤمن يعتقد أنه عبد مخلوق لله مثل بقية المخلوقات، سواء منهم الإنس أو الجن أو الجماد أو الحيوان، وقد جعله الله أمينا ووكيلا يحافظ على الكون ولا يستأثر به ولا يطغى بالسيطرة عليه، لأنه حق جعله الله شركا بين الأحياء جميعا، فلا يحق له أن يحرم منه حتى الحيوان.
لقد خلق اللهُ الإنسان في هذا الكون وحيدا عاجزا عن إيجاد الأشياء التي تضمن له البقاء في الحياة، فيسر الله له رزقه وسخر له الأرض والسماء والشمس والسحاب وغيرها حتى توفر له الماء العذب والهواء النقي والطعام الشهي، وذلك لأنه سبحانه لم يرد من الإنسان أن يأتيه قهرا تحت وطأة الحاجة والعوز للطعام أو الشراب أو غير ذلك، وإنما أراده أن يختار الإيمان طوعا ويصل إلى اليقين بوجوده وحكمته عن طريق التفكر والتأمل في قدرته على الخلق والإبداع.
ثانيا: الحق والواجب
فالحق هو الحق المشترك بين الناس في الاستمتاع والانتفاع بعطاء الله ورزقه الذي لم يجعل أحدا كفيلا على آخر في الوصول إليه، والواجب هو واجب الرعاية والمحافظة على الكون والوجود، لأن هذا هو مقتضى الخلافة والأمانة التي تحملها الإنسان.
وقد أحاطت الشريعة أمر المحافظة على البيئة بتشريعات كثيرة ضمنت ارتباط إعمار الكون وتنميته بالإطار العام للدين، وأن مقررات الشريعة الإسلامية لتستهدف دائماً صلاح الفرد والجماعة في غير عسر ودونما حرج، ولذلك شَرَعَتْ العقوبات المقررة على الأفراد، وفَرَضَت عليهم جهاد المعتدين المفسدين قاصدة، عمارة الأرض، هادفة المحافظة عليها ومنع الفساد فيها أو العبث بحياة المخلوقات عليها. والفساد في الأرض له صور متعددة فهو يشمل الظلم والقتل والجحود والتخريب، ويجب على المسلم الامتناع عن كل أشكال الفساد وصوره.
ثالثا: المنهج والبناء
إن الشرع الإسلامي جعل إعمار الكون أمراً واجباً وضرورياً على الإنسان ديناً ودنيا، وهذا الإعمار عام يشمل كل الوجود والمخلوقات، ولم يفرض الشرع على الإنسان أسلوباً أو كيفية محددة يتبعها في عملية التنمية والإعمار، بل وسع عليه في ذلك، وطلب منه الاجتهاد في تحصيل كل طريق يحقق له المصلحة والسعادة في حياته، ورسم له منهاجاً عاماً وضع فيه منارات تهديه وترشده إلى المصالح الحقيقية التي تصل به إلى السعادة، وذلك ببيانه المقاصد والأهداف من وراء إعمار البيئة من حولنا، مما جعل خطوات الإنسان في بنائه إيجابية في جوهرها لا هدَّامة أو مُطَفِّفَةً، وجعلها لا تُخِلُّ بالعلاقات المُقَدَّرَةِ المحكمةِ بين عناصر الوجود.
وإعمار الأرض الذي كُلِّفَ الإنسانُ به يقوم على شقين: المنهج، والبناء. والإهمال لأي من الشقين يعتبر إفسادا، فإهمال البناء والتنمية يعد خللاً في القيام بوظيفة الخلافة، وكذلك إهمال تحصيل المنهج السوي القائم على الالتزام الخلقي والفضيلة يُفَوِّتُ الفرصةَ في جَعْلِ البناءَ حضارياً يُحَقِّقُ للإنسان السعادة.
رابعا: المحافظة والمحبة
إن الإسلام تعامل مع الطبيعة والكون من منطلق الحب والاحترام، وهو مستوى رفيع يزيد على مستوى المحافظة والتنمية، فالإسلام وَجَّهَ الإنسان إلى إنشاء علاقة بينه وبين الجماد فيها مشاركة وحنين وشوق، فالكون في المنظور الإسلامي طائع لله يسبح ويسجد، يحب المطيعين ويبكي رحيلهم عن الدنيا ويبغض العاصين الكافرين ولا يبالي بزوالهم وهلاكهم، وذلك لأن المطيعين متناغمون متشاركون معه في أداء السجود والتسبيح، أما الآخرون فهم معاندون متنافرون مع كل ما يحيط بهم.
ونحن نرى الرسول، صلى الله عليه وسلم، حينما خرج من مكة للهجرة عَبَّرَ عن حبه وتعلقه بالأرض التي نشأ فيها وتربى، حيث وقف عَلَى الْحَزْوَرَةِ- موضع بمكة- وقال: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». (أخرجه الترمذي)
فالنبي، صلى الله عليه وسلم، أحب الأرض «الجماد» لفضلها وكرامتها عند الله وعنده، حيث شَرُفَتْ بأن كان فيها أول بيت وضع للناس، ولكن الرسول في ذات الحين أبغض الإنسان لفعله الجحود والكفر والجهل والفساد والإعراض. وتلك المحاور الأربعة تكوِّن رؤية حضارية شاملة تميز بها الإسلام في بيانه لمفهوم البيئة، فقدم رؤية متكاملة للكون تدعو الإنسان إلى المحافظة عليه وحسن الانتفاع بما فيه من موارد.
تمتلئ المكتبة الإسلامية التراثية والحديثة بالعديد من المؤلفات التي تتحدث عن شهر رمضان الكريم من الناحية الدينية والفقهية وهذا لما يمثله هذا الشهر الكريم من قيمة عظيمة سواء في الفقه بخصوصه أو الدين الإسلامي بعمومه، وتتمحور أغلب هذه المؤلفات حول عبادة الصوم وما يجب على الصائم وما يحرم عليه، ما يستحب له وما يكره منه، كما تتناول أيضا فضل الشهر، وما يشمله من عبادات أخرى بجانب الصوم كالقيام والدعاء وقراءة القرآن والصدقة والزكاة (زكاة الفطر) والاعتكاف أو ما يحتويه من فضل واسع، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رمضان أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار)، وقد تنوعت هذه الكتابات وتعددت لتجيب عن أسئلة المسلم وتعينه على الاستفادة من هذا الشهر في أمور دينه ودنياه.
إلا أن هناك كتابات أخرى تناولت شهر رمضان من زاوية مختلفة مبرزة أهميته الاجتماعية والتراثية في الحضارة الإسلامية منذ فجر التاريخ الإسلامي حتى وقتنا المعاصر، وتناولت هذه المؤلفات زوايا رمضانية مختلفة عن الأمور الدينية السابق ذكرها، فرمضان يشمل العديد من العادات الاجتماعية التي أصبحت جزأ لا يتجزأ من حضارتنا وهويتنا كالسحور ومدفع الإفطار والكنافة والقطايف وتعليق الزينات في الشوارع وإقامة المآدب وحفلات الإنشاد الديني وغير ذلك؛ بل هناك بعض الكتب التي تناولت بعض القضايا الصحية الخاصة بتنظيم الأكل وقتي الإفطار والسحور، وما أنواع الطعام التي يجب على المسلم تناولها أو تجنبها خلال الشهر الكريم، وبعد تناولي قصة مدفع الحاجة فاطمة في مقالي السابق باعتباره واحدا من هذه الظواهر الحياتية المتعلقة بشهر رمضان في تاريخنا الحديث والمعاصر، سألقي الآن الضوء على بقية هذه الظواهر التي أصبحت تشكل ما يمكن أن نطلق عليه التراث الرمضاني للأمة الإسلامية.
كما تنوعت أشعار الشعراء العرب لتحتفل بهذا الشهر الكريم، فأنشد بعضهم ليحتفل بهلاله، مثل القصيدة الطويلة التي كتبها الشاعر محمد الأخضر السائحي الجزائري يرحب فيها بهلال رمضان وبداية شهر الصوم، وبدأ القصيدة قائلا للهلال:
املأ الدنيا شعاعا أيها النور الحبيب
قد طغى اليأس عليها وهو كالليل رهيب
ثم ختمها بقوله: هو عهد تقضى كله برّ وجود
يوم كان الصوم معنى للتسامي والصعود
ولم تقف الأشعار عند حد الاحتفال بشهر رمضان وهلاله، بل امتدت لتصف مظاهره المختلفة ولعل من أهمها الحلوى التي اعتاد الصائم أكلها بعد الفطور لاسترداد عافيته وجهده، ويأتي في مقدمة أصناف الحلوى الكنافة، والتي قال فيها أبو الحسين الجزار المصري- وهو من المكثرين في وصفها:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر وجاد عليها سكرا دائم الدَّر
ويقول فيها أيضا شهاب الدين الهائم:
إليك اشتياقي يا كنافة زائد ** ومالي غناء عنك كلا ولا صبر
فلا زلت أكلى كل يوم وليلة ** ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وتأتى القطائف في المرتبة الثانية من حيث تناول الشعراء المسلمين، فيقول فيها ابن نباتة المصري:
وقطايف رقت جسوماً مثل ما ** غلظت قلوباً فهي لي أحساب
تحلو فما تغلو ويشهد قطرها ** الفياض أن ندى علىّ سحاب
ونجح أبو هلال العسكري في وصفها بدقة فقال:
كثيفة الحشو ولكنها رقيقة الجلد هوانيه
رشت بماء الورد أعطافها منشورة الطوي ومطويه
ومنهم من تناول أشياء أخرى كالفانوس الذي كان من وسائل التنبيه لموعد السحور حتى عرف في البداية بفانوس السحور، وكان يعلق على منار المساجد، ويقول في وصفه أبو الحجاج يوسف بن على- وهو أول من نظم فيه:
ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه ** ولكنه دون الكوكب لا يسرى
ولم أر نجماً قط قبل طلوعه ** إذا غاب ينهى الصائمين عن الفطر
وقد ذهب بعض الشعراء للتشهير بالمفطرين في شهر رمضان، نذكر منها بعض الأبيات لأمير الزجل محمد العطار، حيث قال:
يا خاسر الدين يا فاطر نهار رمضان طاوع إلهك وخالف النفس والشيطان
دا الصوم هو الصون ومنه صحة الأبدان لك فرحتين، فرحتك وقت ما تفطر
والثانية شوف فرحتك في يوم لقا الديان
أما قدوم العيد، فقد تناوله العديد من الشعراء الجامحين بنوع من الشعر الماجن مثل ما قاله أبو نواس، وأحمد بن يزيد، وأبو على البصير، حتى إن أمير الشعراء أحمد بك شوقي قد اقتفى أثر هؤلاء الجامحين في بعض أشعاره، ولكن بعيداً عن هؤلاء، نذكر بعض أبيات الزجل الجميلة التي قالها الشيخ محمد النجار في العيد ووداع رمضان:
العيد أتى والصوم روّح ** ويقول لك الله يا صايم
تعيش لأمثاله وتفرح ** ويعيش لك الخير الدايم
ويقول: يا خسارة أوقات الطاعات ** تمر والعاصي غفلان
يا خسارتك يابو الحسنات ** ياللي الإله سماك رمضان
ثم يختم قوله:
يا ناس أهو العيد أقبل قابلوه ** بقى بكحكه وخلقه
واللي يكون صومه يقبل ** يشكر إلهه اللي خلقه
يشكر إلهه اللي أعطاه صحة وله جاد بالعافية
ولمثل هذا العيد أبقاه ودي تهاني به وافية
هذه بعض قبسات من الأدب الإسلامي نتبين من خلالها مدى تعلق رمضان بالهوية الإسلامية، وكيف تعدى أهميته الدينية والفقهية ليكون جزءا من حياة المسلمين وفرعاً من كينونتهم ومرآة لحضارتهم.
قراءة القرآن من العبادات المحببة إلى النفس لما فيها من طمأنة القلوب وشفاء الصدور وتنوير الأبصار وجلاء الهموم والأكدار، وتتوهج هذه العادة في شهر رمضان الكريم وارتبطت به ارتباطاً تاريخياً وأصبحت أحد مظاهر الشهر الحضارية التي تعكس هوية الإسلام وسماحة مبادئه، وتتبلور هذه الظاهرة في مصر بشكل لافت، وصارت تلاوة القرآن جزءاً من الشخصية المصرية، ومن ثَم أضحت المقارئ المصرية جزءاً لا يتجزأ من التراث المصري ومن حضارة المصريين، فقد اشتهر أبناء مصر المحروسة بحبهم الشديد وشغفهم وتعلقهم الوجداني بكتاب الله.
كتب أحمد أمين في كتابه: «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» الصادر في عام ١٩٥٣م، تحت عنوان تلاوة القرآن فقال: إن من سمات المصريين التي تميزوا بها عن سائر الشعوب ارتباطهم بكتاب الله، فاهتموا بحفظه وعلموه أولادهم، وأنشأوا له الكتاتيب الصغيرة في مختلف أنحاء البلاد فارتبط تعلم القرآن بتعلم القراءة والكتابة، ويقسم الشيخ المحفظ، والذي يلقبه الأطفال «بسيدنا»، مهامه بين التحفيظ والمراجعة، فيحفظ الطفل ما في استطاعته طوال الأسبوع، ثم يُسَمِّع للشيخ ما حفظه في بداية الأسبوع التالي، ويستمر في ذلك حتى يتم القرآن.
وامتد الارتباط بين المصريين وكتاب الله إلى حد اتخاذ تلاوته من قبل البعض حرفة ومهنة يرتزق بها، وقد انتشرت هذه المهنة كما يؤكد أحمد أمين في قاموسه بين فاقدي البصر حتى أصبحت مصدراً رئيساً للرزق لمن يبتليه الله تعالى بفقد حبيبتيه، فيدعوه الناس إلى منازلهم في أيام الجمع والأعياد والمآتم للقراءة، فإذا كان حسن الصوت اشتهر وذاع صيته، وإذا تدهور به الحال، يجلس ليقرأ في الطرقات والشوارع فيعطف عليه المارة ببعض النقود أو المأكولات. ورغم حالته هذه، فإنه يقع في قلب المصريين في منزلة تسمو فوق منزلة غيره من المحتاجين، باعتباره حافظا للقرآن.
ويعتقد المصريون أن قراءة القرآن في المنازل أو المحال التجارية تجلب البركة والرزق وتبعد الشياطين والأبالسة، واعتاد الأغنياء وأفراد الطبقة المتوسطة إحضار القراء للمنازل طوال ليالي رمضان تبركا واحتفالا بالشهر الكريم، ويدعو صاحب المنزل الأصحاب والأقرباء للاستماع للقارئ وشرب المشروبات الساخنة من شاي وقهوة، وانتشرت هذه العادة أيضا بين النساء، خاصة في المآتم فظهر جيل من القارئات المصريات مثل الشيخة: كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده وغيرهما، وهناك تسجيلات لهن في الإذاعة المصرية التي تم تسجيلها في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، كما اعتادت الشيخة كريمة العدلية إقامة حفل ضخم للإنشاد في الخميس الأول من كل شهر في أحد بيوت أثرياء الأقاليم وكان ذلك في عام ١٩٠٥م، واعتاد حضور هذه الحفلات كبارُ القراء وهم في مقتبل العمر حينذاك مثل الشيخ على محمود، ومحمد رفعت، ومحمد الصيفي ومنصور بدار. «راجع ألحان السماء لمحمود السعدني».
وكانت عادة المصريين في المآتم إحضار القارئ ليقرأ ما تيسر من سورة البقرة إذا كان الوقت عصراً، وتلاوة ما تيسر من سورة يونس وهود ويوسف والرعد والنحل والإسراء إذا جن الليل، ويختمون دائما بقصار السور.
كما يتم دعوة القارئ لقراءة الآيات أثناء الدفن حتى يوارى الميتَ التراب، وأكد أحمد أمين أن من أسباب ذلك حث النساء الحاضرات لعملية الدفن على الامتناع عن العويل والصياح حيث اعتاد المصريون الاستماع بخشوع إلى آيات القرآن متى بدأت التلاوة. ولنفس السبب اعتاد القارئ في المسجد قراءة ما تيسر من سورة الكهف يوم الجمعة قبل الصلاة ليحث المصلين على الإسراع للمسجد وعدم التأخر، وللجلوس في سكون وتؤدة.
وامتد الأمر للحفلات السياسية الكبيرة، فكان يدعو منظمو الحفل أحد مشاهير القراء ليبدأ الحفل بتلاوة بعض آيات القرآن، وكان زعيم الأمة سعد زغلول باشا يفعل ذلك أثناء ثورة ١٩١٩م، فكان يصاحبه في جميع المحافل السياسية الشيخ محمود البربري الذي كان يعرف بمقرئ حزب الوفد، فلا يبدأ الحزب اجتماعه إلا بقراءة وتلاوة الشيخ محمود، وكان الشيخ محمود يرفض التلحين في التلاوة وكان مغرما بالإعادة فيقرأ لمدة ساعات طويلة عدداً قليلاً من الآيات.
وعندما تم القبض عليه، طلب سعد من الشيخ منصور بدَّار أن يحل محله، فلقب بمقرئ الثورة، وقد اعتزل الشيخ بدار التلاوة بعد تأبينه سعد زغلول لمدة سبع ليال متواصلة، ولم يظهر الشيخ بعد ذلك سوى مرتين في الذكرى السنوية الثانية لسعد زغلول سنة ١٩٣٠م، وفي مأتم الملك فؤاد سنة ١٩٣٦م.
ويؤكد أحمد أمين أن انتشار المذياع كان له أكبر الأثر في اندثار هذه العادة وهي دعوة المقرئين للمنازل والمحال التجارية، واقتصرت فقط على المآتم. واعتادت الإذاعة المصرية على التعاقد مع مشاهير القراء وأصحاب الأصوات الحسنة، وقامت بتسجيل العديد من الأسطوانات فكان لها أكبر الأثر في الحفاظ على هذا التراث الضخم من الضياع، ثم كان انطلاق إذاعة القرآن الكريم في الخامس والعشرين من مارس عام ١٩٦٤م تتويجاً لروح التناغم بين الشعب المصري وكتاب الله عز وجل، لكونها أول إذاعة متخصصة في الإعلام الديني في العالم العربي والإسلامي، وكانت أولى المهام الأساسية لهذه الإذاعة هي إذاعة آيات القرآن الكريم مرتلاً ومجوداً بصوت مشاهير القراء على مدى اليوم والليلة، كما اهتمت الإذاعة بالعلوم الشرعية الأخرى من تفسير وحديث وفقه وتاريخ إسلامي وغير ذلك بما يؤكد وسطية الإسلام وبُعده عن الأفكار الهدامة المتطرفة، وبما يرسخ حب الانتماء للوطن والحرص على ما في الحضارة المصرية القديمة والمعاصرة من كنوز وتراث، فكانت الإذاعة ولا تزال أحد منابر الحق.
هذه هي بعض عادات المصريين مع كتاب الله، والتي تدل على مدى تعلق هذا الشعب بقراءة القرآن الذي أصبح جزءاً من تراثه وثقافته وهويته وتاريخه وحضارته.
مدفع رمضان أو مدفع الحاجة فاطمة هو أحد الرموز الرمضانية التي تغلغلت في ثقافتنا وهويتنا، وأصبحت صورة من صور الحضارة الإسلامية، وقد سألني أحد أحفادي عن مدفع الحاجة فاطمة، ما هو؟ ولماذا سُمي بهذا الاسم؟ ورغم انتشار هذا الاسم فإن الكثير من الناس لا يعرفون الإجابة عن هذه الأسئلة. ومدفع الحاجة فاطمة هو مدفع رمضان الشهير والذي ارتبط ذكره بشهر رمضان الكريم، والحاجة فاطمة هي الأميرة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل، وهي إحدى بنات الخديو إسماعيل، تزوجت عام ١٨٧١م من الأمير طوسون بن محمد سعيد باشا والي مصر، وقد تميزت في حياتها وبين أخواتها بحبها للعمل العام والتطوعي، فحرصت على المساهمة في أعمال الخير ورعاية الثقافة والعلم، وقد نقلت هذه الثقافة وتأثر بها ابنها الأمير عمر طوسون، الذي كان أكثر أمراء أسرة محمد إقبالاً على العمل العام.
عرفت الأميرة فاطمة إسماعيل عن طريق طبيبها أن هناك مجموعة من الصعوبات التي تعاني منها جامعة القاهرة، وذلك بعدما دَعا إليها مصطفى كامل عام ١٩٠٦م، فقررت، تجاوبا مع الحركة الوطنية ورعاية للعلم وتشجيعا للعلماء، وقف مساحة من أراضيها وتبرعت بما يقرب من ٦ أفدنة لإقامة مبنى للجامعة الأهلية «القاهرة الآن»، ووهبت مجوهراتها الثمينة للإنفاق على تكاليف البناء، وقد نشرت مجلة الهلال الشهرية صورة لها وهي مرتدية جميع هذه المجوهرات قبل التبرع بها، كما أوقفت ٦٧٤ فدانا على مشروع الجامعة من أراضيها في المنصورة. وأعلنت الأميرة فاطمة أن سائر تكاليف البناء سوف تتحملها كاملة، والتي قدرت وقتها بمبلغ ٢٦ ألف جنيه، ومن كرمها أيضا أعلنت تحملها جميع نفقات حفل وضع حجر الأساس، والذي كان سيحمل الجامعة نفقات كبيرة، خاصة أن الخديو عباس حلمي الثاني كان قد أعلن أنه سيحضر حفل الافتتاح هو والأمير أحمد فؤاد، ورغم أنها شاركت في وضع حجر الأساس للجامعة، فإنها توفيت عام ١٩٢٠م قبل أن ترى صرح الجامعة ومنارتها التي قدمتها للعلم في مصر والوطن العربي، وعرفاناً بجهود الأميرة لإنشاء الجامعة، قررت الإدارة نقش اسمها على واجهة كلية الآداب، وما زال النقش موجودا حتى الآن وفيه: «هذه من آثار حضرة صاحبة السمو الأميرة فاطمة إسماعيل».
ولارتباط اسم المدفع باسم الأميرة قصة طريفة معروفة في التراث الشعبي المصري، فقد كان بعض الجنود في عهد الخديو إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت قذيفة حينها على سبيل الخطأ وقد تصادف ذلك وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان فاعتقد الناس أن هذا نظام جديد من قبل الحكومة للإعلان عن موعد الإفطار، ولما علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل بهذا الأمر، أعجبتها الفكرة، وأصدرت فرماناً ليتم استخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية، وقد ارتبط اسم المدفع باسم الأميرة منذ ذلك الوقت قبل أن يشتهر بعد ذلك باسم مدفع رمضان. وهو موجود حاليا بمتحف الشرطة بقلعة صلاح الدين كأحد الآثار المصرية.
وتختلف طلقات مدفع رمضان عن الطلقات المستخدمة في الحروب، حيث يوضع بها كتلة من البارود لتعطي صوتاً مرتفعاً فقط، ومن ثم لا تحدث أضرارا. وتتم عملية الإطلاق بشد الحبل على كتل البارود لينطلق الصوت، ويوضع- قبل شد الحبل- بعض الحجارة أمام وخلف عجلات المدفع لتثبيته حتى لا ينزلق لحظة الانطلاق، واعتيد توفير مدفع آخر إلى جانب المدفع الرئيسي لتبادل الطلقات وتوفير البديل في حالة حدوث عطل في الأول.
ويرتفع مكان المدفع عن سطح الأرض بمقدار ١٧٠ مترا، وينطلق صوته متردداً في الأفق لمسافة تصل إلى عشرة كيلومترات حتى يسمعه أغلب سكان القاهرة. ومع ظهور الإذاعة المصرية، بدأت في نقل صوت المدفع مواكباً لموعد أذان المغرب مع ترديد العبارة الشهيرة «مدفع الإفطار.. اضرب»، ويتولى إطلاق المدفع عسكري برتبة صول، ويشترط توافر الورع والتقوى فيه بالإضافة إلى التزامه وانضباطه العسكري، وقد شهدت فترة السبعينيات من القرن الماضي إهمال استخدام المدفع والاعتماد فقط على تسجيل الإذاعة حتى قامت وزارة الداخلية في عام ١٩٨٣م بإصدار قرار بإعادة استخدام المدفع خلال شهر رمضان، وذلك بعد نقله من قلعة صلاح الدين إلى هضبة المقطم لتفادي حدوث أضرار للآثار الإسلامية في منطقة القلعة بسبب صوته المرتفع، كما لم يقتصر استخدام المدفع على العاصمة فقط، بل امتد لبقية محافظات الجمهورية حيث يوضع على مدخل المحافظة، ويقوم على خدمته الآن أربعة من رجال الأمن الذين يُعِدُّون البارود كل يوم مرتين لإطلاق المدفع لحظة الإفطار ولحظة الإمساك. وتتميز عملية إطلاق مدفع رمضان بطقوس خاصة، فيحضر الموظف المسؤول عن عملية الإطلاق إلى الساحة المتواجد فيها المدفع قبل الموعد بنصف ساعة. وقد اعتاد الكثير من الأطفال بل الكبار والأهالي أن يتجمعوا في الساحة ويتزاحموا فوق أسطح المنازل المجاورة لها ليشاهدوا عملية الإطلاق التي كانوا يقابلونها بالهتاف والتصفيق والتصفير، وهكذا الحال طوال الشهر الكريم.
وفى ليلة العيد وبعد ثبوت رؤية الهلال في ليلة التاسع والعشرين يطلق المدفع سبع طلقات متتالية، أما إذا أتم رمضان ثلاثين يوماً فيطلق المدفع سبع طلقات بعد العصر احتفالا بالعيد، وأثناء أيام العيد الثلاثة يُطْلَق المدفع عند كل أذان، وتتكرر العملية في أيام عيد الأضحى المبارك.
الاحتفال بهلال رمضان يعكس أهمية هذا الشهر في الثقافة الإسلامية، والمتتبع لتاريخ هذه الاحتفالات يتأكد من القيمة الاجتماعية والحضارية لهذا الشهر الكريم، بالإضافة لقيمته الدينية والفقهية، وكانت الاحتفالات في مصر برؤية هلال رمضان تبدأ في يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، وكانت الاحتفالات كبيرة وعظيمة يحضرها وجوه الناس وكبار رجال الدولة في العاصمة والمدن الكبرى، ويؤكد المؤرخ إبراهيم عناني، عضو اتحاد المؤرخين العرب، أنه في عام ١٥٥هـ خرج أول قاض لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر، وخرج لنظر الهلال، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته، حيث كانت تعد لهم دكة على سفح جبل المقطم عرفت بـ«دكة القضاة»، يخرج إليها لاستطلاع الأهلة، فلما كان العصر الفاطمي بني قائدهم بدر الجمالي مسجداً له على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصداً لرؤية هلال رمضان، كما سن الفاطميون أيضاً ما يعرف بموكب أول رمضان، أو موكب رؤية الهلال، وهي العادة الحميدة التي استمرت في العصر المملوكي، فكان قاضي القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف، وتم في هذا العصر نقل مكان الرؤية إلى منارة مدرسة المنصور قلاوون، المدرسة المنصورية، بين القصرين لوقوعها أمام المحكمة الصالحية، وهي مدرسة الصالح نجم الدين بالصاغة، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن وتضاء المساجد، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب يحف به جموع الشعب حاملين المشاعل والفوانيس والشموع حتى يصل القاضي إلى داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام.
أما في العصر العثماني، فعاد موضع استطلاع الهلال مرة أخرى إلى سفح المقطم، فكان يجتمع القضاة الأربعة وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة المنصورية بين القصرين، ثم يركبون جميعاً ويتبعهم أرباب الحرف إلى موضع مرتفع بجبل المقطم، حيث يترقبون الهلال، فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلى المدرسة المنصورية، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان، ويعود إلى بيته في موكب حافل يحيط به أرباب الطرق والحرف بين أنواع المشاعل في ليلة مشهودة، واستمر الأمر على ذلك حتى أمر الخديو عباس حلمي الثاني بنقل مكان إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق.
ومع إنشاء دار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، أسندت إليها مهمة استطلاع هلال رمضان والاحتفال به، وتقوم الدار بهذه المهمة كل عام بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، ويتم ذلك من خلال لجانها الشرعية والعلمية المنتشرة بجميع أنحاء الجمهورية بالوادي الجديد وتوشكى وسوهاج وقنا والبحر الأحمر ومدينة السادس من أكتوبر ومرسى مطروح ومرصد حلوان، وتعلن الدار نتيجة الاستطلاع في احتفال جميل يحضره الإمام الأكبر والمفتون السابقون ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة والوزراء وسفراء الدول الإسلامية ورجال القضاء وغيرهم من رجال الدولة، ويكونون جميعاً في ضيافة مفتى الديار المصرية.
وقد كان الاحتفال يتم في سرادق بجوار دار القضاء العالي، عندما كان مقر دار الإفتاء فيها، ثم استقلت الدار بمبناها الحالي بالدراسة، وانتقل الاحتفال لقاعة المؤتمرات بالدور الأرضي بمبنى الدار، إلى أن ضاقت بالحضور فانتقلت إلى قاعة المؤتمرات الكبرى للأزهر الشريف بمدينة نصر بالقاهرة، ويتم نقل الاحتفال من خلال الإذاعات الرسمية المسموعة والمرئية، ويبدأ الاحتفال بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم، ثم يعلن فضيلة المفتي ثبوت رؤية الهلال، ومن ثم يكون اليوم التالي هو غرة الشهر الكريم، أو عدم ثبوته ويكون اليوم التالي المتمم لشهر شعبان.
وتتقيد دار الإفتاء المصرية في رؤية الهلال بقرارات مؤتمر جدة التي أقرتها منظمة المؤتمر الإسلامي، وقرارات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من ٣٠ سبتمبر إلى ٢٧ أكتوبر من عام ١٩٦٦، الذي نص في قراره الخاص بتحديد أوائل الشهور القمرية في بنده رقم «١» الفقرة «ب» على الآتي: يكون ثبوت رؤية الهلال بالتواتر والاستفاضة، كما يكون بخبر الواحد ذكراً كان أو أنثى، إذا لم تتحقق التهمة في إخباره لسبب من الأسباب، ومن هذه الأسباب مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به الصادر ممن يوثق به، وهذا يعني أن الاعتماد على الرؤية البصرية هو الأساس مع الاستئناس بالحساب الفلكي لإفادته القطع واليقين في مثل تلك الأمور المحسوسة، والحساب الفلكي ينفي ولا يثبت، فإذا نفى الحساب إمكانية الرؤية فإنه لا تقبل شهادة الشهود على رؤيته بحال، لأن الواقع الذي أثبته العلم الفلكي القطعي يكذبهم، وفى هذا جمع بين الرؤية البصرية المأمور بها والحساب الفلكي المقطوع بدقته، وهو ما اتفقت عليه قرارات المجامع الفقهية الإسلامية كما أشرنا.
وقد انتهجت الدار سلوكاً حميداً للاحتفال بقدوم الشهر بطبع كتيب عن الصيام يوزع على السادة الحضور، كما يوزع على الجمهور الزائر للدار على مدى الشهر الكريم، ويتناول الكتاب فضائل الشهر والمسائل الفقهية المتنوعة الخاصة بفضل شهر رمضان، وأحكام الصيام من: أركان وشروط ومبطلات ومكروهات، والأعذار المبيحة للفطر، وأحكام قراءة القرآن وختمه، وفضل قيام ليلة القدر، وأحكام زكاة الفطر وحكمتها، وفضل صيام ست من شوال وغير ذلك، وهذه سنة حسنة للدار تنتهجها في جميع المواسم الدينية كالحج وغيره.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً» «أخرجه الطبراني»، ومن أعظم نفحات الله وكرمه على الحضارة الإسلامية أن منحها شهراً يحمل عبق الجنة وريحها، شهراً فيه ليلة خير من ألف شهر، شهراً اختصه سبحانه بفضائل وبركات لا توجد في غيره من الشهور، ليكون محلا للسبق ونيل أعلى الدرجات، وتدارك الفائت من الأعمال والأوقات، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].
ومن الفضائل التي اختص الله -عز وجل- بها شهر رمضان: إنزال القرآن الكريم فيه، وهو المعجزة الخالدة الدالة على نبوته، صلى الله عليه وسلم، على مر الزمان، الجامعة للقوانين المنظمة للكون، الصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، فكان حرياً بأن يشرف به الزمان الذي ميزه الله وخصه بإنزاله فيه.
وكما اختار الله تعالى هذا الشهر لإنزال القرآن فيه اختاره أيضاً لإنزال غيره من الكتب المقدسة السابقة عليه، فقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «أُنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأُنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان» (رواه أحمد: 107/4)، قال الحافظ ابن حجر: «يحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول سورة العلق» (فتح الباري 5/9).
وفضل شهر رمضان بين سائر الشهور كفضل سيدنا يوسف، عليه السلام، بين إخوته، فكما كان يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، عليه السلام، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علام الغيوب، وإن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر به جفاء إخوته فقال: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ) [يوسف:92]. فكذلك شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعم والخيرات والعتق من النيران والغفران ما يربو على بقية شهور العام.
ونظراً لما اختص الله -تعالى- به هذا الشهر الجليل من الكرامات والبركات والنفحات وتنزل الرحمات وكثرة التجليات، فقد حث فيه على فعل كثير من المستحبات، التي يتأكد فعلها في رمضان، ويعظم أجرها فيه أكثر مما لو أديت في غيره، وأول هذه المستحبات: المداومة على ملازمة القرآن وكثرة تلاوته خاصة في الليل، قال تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزّمِّل:6] ، وناشئة الليل هي تلك النفوس التي يربيها الليل وينشئها على قرآنه، وهي تلك الواردات الروحية والخواطر النورانية، التي تنكشف في ظلمة الليل، فتلك النفوس الصادقة التي تربت على أنوار القرآن الليلية هي أعظم ثباتا وتأثيرا، وأكثر إدراكاً في وعيها، وأكبر نجاحا في سعيها، وأشد اتساقاً وانسجاماً مع صاحبها، وهذا الانسجام يحصل بين القلب واللسان والجوارح عند قراءة القرآن، كما يحصل أيضا التوافق بين الأمر الشرعي بالقراءة ليلاً، وبين الأمر الكوني في نزول القرآن ليلاً، فكلما كانت قراءة المسلم للقرآن بالليل زاد اتساقه مع الكون، ويتضاعف هذا الاتساق بالقراءة في رمضان.
ومن أعظم الأعمال التي يثاب عليها المسلم في رمضان الصدقة، فهي عظيمة البركة على صاحبها وعلى كل من يسهم فيها بوجه ما، فيعمهم الثواب والخير، وإن قلت أياديهم فيها، فالتوسعة على الفقراء في رمضان مطلوبة، إذ لما كثرت العطايا الربانية والمنن الإلهية، وازداد سطوع الأنوار القرآنية في هذا الشهر، عظم الباعث على الجود، لذا «فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل، عليه السلام، يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فإذا لقيه جبريل، عليه السلام، كان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» «رواه البخاري:67٢/٢»، والريح المرسلة خيرها بلا حدود، يعم القريب والبعيد، فلا يقتصر على فرد دون فرد أو جماعة دون جماعة، وهذا كان خلق النبي، صلى الله عليه وسلم، يعطى عطاء من لا يخشى الفقر.
وكذلك المؤمن الذي يقتدي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، في رمضان يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة ويرق للضعفاء، ويجود بما في يده ويطلق لها العنان في الإنفاق، فقد سئل النبي، صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان» «رواه الترمذي: 51/3).
ولفضل هذا الشهر العظيم وعموم الرحمة فيه وكثرة المنن التي يمنها الله -تعالى- على الأمة الإسلامية، فمن حقنا أن نهنئ بعضنا بعضاً بقدومه، والتهنئة بالأعياد والشهور المباركة والمناسبات السعيدة مشروعة ومندوب إليها، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58]، والتهنئة مظهر من مظاهر الفرح، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يهنئ أصحابه بقدوم شهر رمضان، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: «كان الرسول يبشر أصحابه ويقول: أتاكم رمضان، شهر مبارك» «رواه النسائي: 129/4».. فاللهم أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وزدنا فيه تعلقاً بك وشفقة على خلقك.. وكل عام والأمة العربية والإسلامية بخير ويمن وبركات.
قال الدكتور على جمعة عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف ردا على سؤال حول ما إذا كان الرسول محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أهدر دم أحد أم لا؟: "حينما بحثنا فى هذا الأمر وجدناه صلى الله عليه وآله وسلم قد أهدر دم أربعة عشر شخصا، لكن ذلك كان فى إطار الأحكام القضائية؛ حيث إن من ضمن وظائفه صلى الله عليه وآله وسلم التى كان يقوم بها وظيفة القضاء". وأضاف على جمعة، فى بيان: "إننا نجد إهدار الدم هذا عبارة عن أحكام بالإعدام، وكل حكم من هذه الأحكام كان فى قضية لها تحقيقات وحيثيات حكم على نحو ما نراه بالمحاكم اليوم، لكن وبالرغم من كل هذا لم يتم تنفيذ هذا الحكم القضائى فى اثنتى عشرة حالة من الـ14 حالة، وتنفيذ الإعدام فى الحالتين الباقيتين سنده من حيث الرواية ضعيف جدا".
هذا الكتاب هو عبارة عن نتاج تفريغ سلسلة دروس ألقاها فضيلة العلامة الشيخ/ علي جمعة بمسجد العشيرة المحمدية بالدَّرّاسَة علىٰ مدار أحد عشر درسًا عام 2001م، بيَّن فيها فضيلته معالم الطريق إلىٰ اللّٰه تعالىٰ، وكيفية تخطي العقبات التي تقابل السالك، والتبصرة بالآفات التي قد تلحق المريد أثناء سيره؛ وكيفية التخلص منها، وهذا كله قد خرج من قلب قد وعىٰ الشريعة والحقيقة، ممن قد خاض هذا البحر وسبر غوره، مربٍّ فاضل قد سلك كثير من طلاب الحق والحقيقة علىٰ يديه؛ فأرشدهم ووجههم حتىٰ وصلوا إلىٰ شاطئ الأمان وبر العرفان، وهو -حفظه اللّٰه- في هذه الدروس قد لَخَّص ما حَصَّل من أنوار وبركات وفيوضات مشايخه الذين كانوا أقطاب عصرهم وقدوة زمانهم؛ فهو بذلك -جزاه اللّٰه عن الإسلام والمسلمين كل خير- قد مَهَّد الطريق لكل من أراد الوصول، وزلل الصعاب لكل من أراد التمسك بالأصول، وباللّٰه التوفيق.