طباعة

الأضحية والرفق بالحيوان (2)

علمنا في المقالة السابقة أن الإسلام وضع أسس الرحمة والرأفة بالحيوان وطبقها المسلمون في حضارتهم وثقافتهم عبر العصور، وفصلنا الرد على وهم الواهمين الذين يظنون أن أمر الله بذبح الحيوان مأكول اللحم من قبيل التعذيب، وأن الرحمة في ظنهم هي بتعريضه للصعق الكهربائي أو الضرب على الرأس بآلة.

        يقول تعالى : ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾   [ الكوثر :1 : 3] لو لم نقيد أنفسنا في تدبر هذه السورة بأسباب النزول، فإن هذه السورة ستكون بيننا وبينهم إلى يوم الدين، فإن الذين يبغضوننا من أجل أننا نصلي لربنا، وننحر له سبحانه، ونطعم الفقراء والمساكين، فإن بيننا وبينهم الشنآن أن ندعوهم بأنهم هم الأقطع من الخير والأقطع عن الحق.

        فكلام ربنا إرشاد للبشر إلى جادة الصواب والصراط المستقيم، فلا تحزن أيها المسلم بما يقولون ويسبون به الإسلام وأهله من أنه دين لا رحمة فيه، وأنه دين إرهاب، فلا تحزن وإن صدر ذلك من كبارهم وقيادتهم السياسية والدينية، وإن صدر ذلك بمن يسمى بابا الفاتيكان الذي استشهد بكلام الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني وهو لا يعارضه بعبارات تسيء للإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وتتهمه بالإرهاب والشر.

        فالمشركون من قبل آذوا رسولنا الكريم، وأرادوا إدخال الحزن على قلبه بكلامهم، فأرشدهم ربنا سبحانه وتعالى بأن عدوه هو الأبتر المقطوع ممحوق البركة.

        وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح أضحيته وقد أوتي بكبشين أقرنين أملحين فقال : «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملة إبراهيم حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح» [رواه أبو داود في سننه].

        فقبل ذبح الأضحية يقدم التوجه لله وحده والتوحيد له والإقرار بملة إبراهيم عليه السلام، ويؤكد أن الأعمال كلها لا تنصرف إلا لله، فيذبح الأضحية تقربا إلى الله سبحانه وتعالى، بكلام يوضح إذن الله لنا في ذبح هذا الحيوان للانتفاع به بالأكل والإطعام والإهداء.

ولا ينبغي أن يعترض على الله، فليس من وظيفة العقول الاعتراض على الخالق وإنما محاولة فهم حكم الخالق، فإن عجزنا فهم بعض الحكم لقصور في عقلنا، ويؤمنون بأن ذلك كله من الله فيسلمون له، وذلك شأن أصحاب العقول السليمة، يقول تعالى : ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران :7]، ويطلب العلم والفهم من الله شأن الملائكة الكرام حيث قالوا : ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة :32].

        هناك آداب يتحلى به من أراد ذبح الأضحية، منها : أنه إذا بدأ ذو الحجة لا يقلم أظفاره ولا يحلق رأسه تشبه بالحجيج، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من أراد أن يضحى فلا يقلم أظفاره ولا يحلق   شيئا من شعره   ي العشر من ذي الحجة» [رواه ابن حبان في صحيحه].

        والتشبه بالحجاج والمحرمين يشبع شيئا من أشواق المشتاقين إلى زيارة البيت الحرام، ومن شعر بالشوق يدرك ذلك الكلام، فمن زار تلك البقاع المقدسة يشعر بالشوق إليها ويحن للطواف بالبيت العتيق وزيارة روضة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأن يأنس بالوقوف في تأدب وسلام ومحبة للحبيب صلى الله عليه وسلم ويتمثل قول القائل :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
00

**

فطاب من طيبهن القاع والأكم  
0

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنـه
0

**

فيه العفاف وفيه الجود والكرم
0

        فإن كنت أيها المسلم لم تدخل في دور الاشتياق إلى الله ورسوله وزيارة تلك الأماكن التي هي محل نظر الله وزيارة هذا القبر المعظم المفخم الذي ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قلبك في هذه الأيام يريد أن يطير بلا جناحين إلى هناك فعليك أن تتباكى إذا لم تبك, وعليك أن تطلب الشوق إذا لم تكن مشتاقا.

        واعلم أن هذا الذي يقوله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو لتسكين الأشواق وشدة الغرام بالبلد الحرام، فهو لضبط النفس والوصول بها إلى الميزان الذي أنزله الله مع أنبيائه ودل الله الخلق عليه، قال تعالى : ﴿اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى :17] لم يقل الله الذي أنزل على أنبيائه أي إلى أنبيائه، بل قال الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، وكأنهما نزلا بالحق لكل البشر فلا يختصا بنبي ولا ولي إنما، وهما يمثلان الحكمة وهي القدرة على السير في طريق قويم بين الإفراط والتفريط، قال تعالى : ﴿يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [البقرة :269]

        فالكتاب للنظر والميزان للعمل، وفقد الميزان يذكرنا بقول بعض السفهاء بأنه يريد أن يكون الحج في كل أيام أشهر الحج، وأتوا به في وسال الإعلان، فرأيناهم يهرفون بما لا يعرفون، ويخرج عن ملة الإسلام وهو لا يدري.

        فلا يصح أن يطلق الإنسان عقله الكاسد، وجهله السائد لتفسير القرآن الكريم فيخرج لنا بكلام عجيب غريب، يضحك ويبكي.

إن الفصل بين حرية البحث العلمي للوصول إلى صحيح المعرفة، وبين تقييد الاستعمال للوصول للمحافظة على الثوابت العلمية وعمارة الكون، فإنه أمر قد اختلط على كثير من الناس مع وضوحه وتأكده؛ لذا قد وجب علينا التنبيه على بعض الحقائق.

من هذه الحقائق  أن العلوم لها صورة كلية تتمثل في عملية متكاملة من التعليم لإدراك المعلومات، والتربية لإقرار القيم، والتدريب لتنمية الملكات، وأن هذا كل لا يتجزأ أو لو تجزأ لفقدنا (دليل التشغيل) إن صح التعبير، وفقد دليل التشغيل يوقع في حيرة واضطراب، ويبدو أننا قد فقدنا دليل التشغيل هذا في كثير من جوانب حياتنا ليس العلمية فقط، بل أيضًا السياسية والاجتماعية والدينية.

ومنها أيضا وجود فارق بين الدين - وهو علم - وبين التدين - وهو سلوك ومجال ، والدين الذي هو علم له مصادره ومنهجه وقواعده، والعملية التعليمية لها أركانها التي يجب أن تكتمل بعناصرها الخمسة الطالب والأستاذ والمنهج والكتاب والجو العلمي ويحتاج إلى تخصص وتفرغ ، شأنه شأن سائر العلوم.

أما المجال فهو قابل للمناقشة والأخذ والرد كالفنون والرياضة والحزبية والصحافة ونحوها من المجالات المهمة ، أما جانب العلم من هذه المجالات فليس محله المناقشة والأخذ والرد والرأي والرأي الآخر ، بل هذا مكانه الأكاديميات التي تتخصص فيه.

وبمناسبة ذكر أشهر الحج ومسألة الأضحية نذكر تلك الأزمة السلوكية الفكرية التي تلم بالأمة في كل موسم حج، وهي أزمة رمي الجمرات الأزمة، وهي أزمة تبدأ في الفكر الفقهي الذي يأبى الاجتهاد ويجهله، والاجتهاد هو بذل الوسع في فهم النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام منها، ولقد ركد الفكر الفقهي، وركن إلى التقليد وإلى الاكتفاء بفقه الأوراق دون رغبة في دراسة الواقع، وهو أمر جد خطير ليس فقط في حدوث مثل هذه الحوادث، بل إنه خطير أيضًا من الناحية الدينية التي ترى في هذا التصرف نوعًا من الضلال والإثم أن ينظر أحدهم إلى ما سطر في الكتب فيوقعه في فتاويه من غير نظر إلى الواقع الذي يفتي فيه.

ويقول القرافي في كتابه الفروق: «والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين»([1])، وهو يؤيد ما سطره ابن تيمية في كيفية الفتوى من وجوب إدراك الواقع، وأن الفتوى مبنية (على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم([2])، فالمعرفة بالحال جزء لا يتجزأ من الفتوى.

إن الرمي بعد الزوال ليس محل اتفاق أو إجماع بين العلماء، وعلى ذلك فهو من المسائل المجتهد فيها التي يجوز لنا أن نفهم النص لتحقيق مصلحة الواقع، وليس في هذه المسألة نص بذاتها، بل إنه مأخوذ من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم»([3]) مع أنه قد رمى الجمرة عند الزوال قبل الصلاة.

وهذا العموم مع ذلك الفعل لا يدل على الوجوب الذي ذهب إليه كثير من العلماء عبر التاريخ، فالمناسك منها ما هو ركن كالوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي، ومنها ما هو ركن وفيه خلاف في ركنيته كالحلق والتقصير لشعر الرأس، ومنها ما هو واجب لو فاته في الحج بعذر فلا إثم عليه ويجب عليه أن يذبح ذبيحة لله، ولو تركه بغير عذر فهو آثم، ويذبح نفس الذبيحة أيضًا، ومنها ما هو سنة أو هيئة من سنن أو هيئات الحج تاركها لا إثم عليه ولا ذنب، فالقول بالوجوب استدلالا بعموم ذلك الحديث محل نظر واجتهاد منذ القديم، والتمسك بهذا الفهم مع هذه الحالة الموجودة نوع من أنواع الضلالة كما يقول القرافي رحمه الله تعالى.

كما أنه ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» أن كل هذه الهيئات من أركان الصلاة، بل ولا أن تركها يستوجب إثمًا، ولكن الإثم الصحيح هو أن يشتغل بهذه الهيئات حتى يذهب خشوعه، وحتى تصير الصلاة مجرد شعيرة ظاهرية لا علاقة لها بأن يترك الفحشاء أو المنكر التي يمارسها خارج الصلاة، فتفقد الصلاة بهذا الاهتمام الزائد هدفها ومراد الله فيها.

وكذلك واجب الرمي، له هيئة في الزمان لا تجعلنا نهلك أنفسنا، ولم يأمرنا الله بذلك، بل أمرنا بخلافه فقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ([4])، وقال: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ([5])، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ([6]).

فإذا انضم إلى ذلك أن الحج بُنِيَ على التيسير، فلم يُسأل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم أو أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج»([7])، ولم يُسأل عن شيء فيه عذر من تأخير في الزمان أو ضيق في المكان، أو حال اعترت من حج معه إلا وقد أباح له ذلك، فأين هذا من عقلية قد أغلقت نفسها على الأوراق فضاع من ضاع بسببها.

وفي مساعي تفادي وقوع حوادث في رمي الجمرات أقر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعض الحلول لتفادي وقوع حوادث مماثلة لحادث التدافع الذي وقع في أثناء رمي الحجاج للجمرات في منى في موسم الحج عام 1424هـ، الموافق بداية فبراير عام 2004م، حيث أرسلت لجنة تابعة لمجمع البحوث خطابًا باسم الأزهر إلى وزير الحج السعودي ومفتي السعودية، وتم إرسال ذلك الخطاب فور موافقة المجمع في جلسته الأخيرة في 24 مارس 2004م على تفويض شيخ الأزهر في إعداد ذلك الخطاب الذي يشمل اقتراحات طرحها أعضاء المجمع.

وقد افتُتح ذلك الخطاب بالنص التالي: «من منطلق التعاون الصادق والإخاء بين علماء المسلمين في أمور دينهم، وحرصًا على سلامة الحجاج، يتقدم مجمع البحوث الإسلامية بمقترحات حتى لا يتكرر الحادث الذي ألم بضيوف الرحمن في ساحة الرمي بموسم الحج هذا العام».

وكانت أولى تلك المقترحات ما نصه: «التوسع في إباحة زمن رمي الجمرات في جميع الأيام الخاصة به، بحيث يكون الرمي 24 ساعة في كل يوم من هذه الأيام نظرًا للزحام الشديد الذي يحدث كل عام خلال أداء الحجاج لهذه الشعيرة، ويترتب عليه في الغالب عنت شديد يلم بهم، وضرر عظيم للضعفاء قد يصل إلى الموت، خاصة أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من أهم أسباب مشروعية الحج المحافظة على النفس وإحياءها، ومنع الضرر والهلاك عنها، وبذلك تكون كل مناسك الحج - بما فيها رمي الجمار - محققة للغرض الذي شرع له الحج، ومؤكدة لحكمة مشروعيته، وهو إحياء النفس، وعليه فلا يتصور أبدًا أن تكون مناسك العبادة التي شرعت لإحياء النفس سببًا في هلاكها، ولذلك فإن بعض الفقهاء من المسلمين - قديمًا وحديثًا - صرحوا بجواز الرمي في أي وقت».

كما تضمن ذلك الخطاب مقترحًا آخر كان نصه: «ضرورة الإنابة في الرمي للنساء وغير القادرين عن طريق نشر الوعي بين الحجيج بأن من الخير للنساء وغير القادرين أن يوكلوا غيرهم من الرجال والقادرين لرمي الجمرات عنهم حتى لا يتعرضوا للضرر والزحام الشديد».

ونص كذلك على: «العمل بمبدأ التعاقب في الرمي أيام التشريق الثلاثة بمنى، وذلك بتفويج الحجيج وتقسيمهم، مع الجمع بحيث يجمع رمي يومين في يوم واحد لكل طائفة مع مراعاة الترتيب خاصة أنه لا حرج في ذلك شرعًا؛ لأن أيام التشريق كلها زمان واحد للرمي».

وختم ذلك الخطاب اقتراحاته بالإشارة إلى حلول أخرى غير فقهية، وكان نصه في ذلك الشأن: «إن هناك تيسيرات أخرى تتعلق بجوانب هندسية من حيث توسيع الأماكن المخصصة للرمي وهي متروكة للسلطات في المملكة العربية السعودية؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها».

 

 

([1]) «الفروق» للقرافي (1/ 177- 178).

([2]) «مجموع الفتاوى» (28/ 510).

([3]) هذا اللفظ أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 125) حديث (9307) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وأخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب «الحج» باب «استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا» حديث (1297) نحوه من حديث جابر أيضًا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم r يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه».

([4]) من الآية 195 من سورة البقرة.

([5]) من الآية 29 من سورة النساء.

([6]) من الآية 151 من سورة الأنعام.

([7]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «الفتيا على الدابة عند الجمرة» حديث (1736)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي» حديث (1306) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

عدد الزيارات 9609 مرة
قيم الموضوع
(0 أصوات)