طباعة

الصدق ضد الكذب

الصدق في اللغة : هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه في الواقع عند الجمهور خلافا لمن قال بمطابقة الاعتقاد أو لمن قال بمطابقة الواقع والاعتقاد معا. والكذب : هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، عمدا كان أو سهوا.

والصدق : ضد الكذب. وقد صَدَقَ في الحديث، يصدق بالضم، صِدْقاً. ويقال: أيضا صَدَقَهُ الحديث وتَصادَقا في الحديث وفي المودة. والمُصَدِّقُ : الذي يُصدقك في حديثك والذي يأخذ صَدَقاتِ الغنم. و المُتَصَدِّقُ : الذي يُعطي الصدقة. والرجل : صَدِيقٌ. والأنثى : صَديقةٌ. والجمع : أصْدِقاءُ وقد يقال للجمع والمؤنث صَديْقٌ و الصِّدِّيقُ بوزن السكيت : الدائم التصديق، وهو أيضا الذي يُصدق قوله بالعمل. وهذا مِصداقُ هذا أي ما يُصدقه.

فهناك كذب يأثم عليه العبد، وهو ما تعمد به تزيف الواقع، والإخبار بما يخالفه، وهناك كذب لغة ولا يأثم عليه العبد بأن يتكلم بكلام يخالف الواقع ولكن دون تعمد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «كذب سعد» عندما أخطأ وظن أن فتح مكة سيكون بإراقة الدماء.

ومن الكذب اللغوي الذي لا إثم فيه، وهو من باب قول الحسنى، أو مقتضيات حالات الحرب، أو غير ذلك، تلك الحالات من الإخبار بخلاف الواقع رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثناها، ومن ذلك ما ورد عن أم كلثوم رضي الله عنها : «أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا» [رواه البخاري ومسلم], وعنها أيضا  : «لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب, والإصلاح بين الناس, وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها» [رواه مسلم].

أما ما عدا ذلك فقد أجمع المسلمون على حرمة الكذب حتى أصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، ولو سألنا أحد أطفال المسلمين يخبرنا بحكم الكذب، وقد أمرنا ربنا في كتابه الكريم بالصدق، ومدح الصادقين، ووعدهم بالخير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى : ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾ [المائدة : 119]. وقوله تعالى : ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [التوبة : 43]. 

وأخبر سبحانه أن الصدق من علامات التقوى فقال : ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ  ﴾ [البقرة : 177]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران : 61]. 

وقد أخبر سبحانه أن الكذب فعل الكافرين فقال عز من قائل : ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾ [النحل : 105].

لم يقتصر الأمر على طلب الصدق من المسلم فحسب، بل أمر الله تعالى أن يكون المسلم دائما مع الصادقين فقال سبحانه وتعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة : 119]. 

  وليس الصدق هو قولك الحق وحسب، بل من الصدق أيضا  أن تصدق بالله وكلامه وقد أمر الله بذلك النوع من الصدق في قوله تعالى : ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران : 95].

وأخبرنا ربنا أن أعلى درجات الصدق هي كلماته سبحانه :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [الأنعام : 115]. 

وقال ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة : 43]. 

وأمره رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يسأله الصدق في المدخل، والمخرج في هذا الحياة الدنيا : ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً  [الإسراء : 80]. 

وقد أخبر الله تعالى أن الصدق منة يمتن الله بها على عباده الصالحين، وأنبيائه الكرام عليهم السلام فقال : ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ [مريم : 50]. 

وأخبر القرآن حكاية عن إبراهيم عليه السلام سؤال ربه الصدق دائما : ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ﴾ [الشعراء : 84]. 

وأخبر سبحانه حكاية عن موسى أنه يحتاج إلى من يصدقه، ويخشى من المكذبين له ولرسالته، فقال تعالى : ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص : 35]. 

 وبين الله سبحانه وتعالى أن الفتن والابتلاءات لا تكون إلا لتمحيص الناس، ومعرفة الصادقين والكاذبين فقد قال جل وعلا : ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت : 3].  وقال سبحانه : ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [الأحزاب : 8]. 

وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث التي تدعو إلى الصدق، وتأمر به فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ، وعليكم بالصدق فإن  الصدق بر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» . [رواه البخاري ومسلم]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة. اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم». [صحيح ابن حبان]

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يطوي المؤمن على الخلال كلها غير الخيانة والكذب». [مصنف ابن أبي شيبة].

وعن صفوان بن سليم قال : «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن جبانا ؟ قال : نعم . قيل : أفيكون بخيلا ؟ قال : نعم . قيل : أفيكون كذابا ؟ قال : لا ». [موطأ مالك]

وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أول من يدخل الجنة التاجر الصدوق». [المصنف لابن أبي شيبة].

وقد امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بلغوا في الصدق مبلغا من أصحابه فعن أبي ذر قال لي رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم». [صحيح ابن حبان].

وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق  طمأنينة وأن الكذب ريبة». [المستدرك على الصحيحين].

وقال عليه الصلاة والسلام : «كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب». [أبو داود والبيهقي]. وعنه صلى الله عليه وسلم  أنه قال : «إن شرار الروايا روايا الكذب، ولا يصلح من الكذب جداً ولا هزلاً، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له». [سنن الدارمي]

وعن ابن عجلان «أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر حدثه عن عبد الله بن عامر أنه قال : دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا ، فقالت : ها تعال أعطيك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما أردت أن تعطيه ؟ قالت : تمرا ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة» . [مصنف ابن أبي شيبة].

إذا تقرر ما سبق نعلم أن الصدق نجاة وقوة لأن الصادق لا يخشى من الإفصاح عما حدث بالفعل؛ لأنه متوكل على الله، والكذاب يخشى الناس، ويخشى نقص صورته أمام الناس، فهو بعيد عن الله، وقد قيل في منثور الحكم : الكذاب لص؛ لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك .

وقال بعض الحكماء : الخرس خير من الكذب وصدق اللسان أول السعادة. وقيل : الصادق مصان خليل ، والكاذب مهان ذليل ، وقد قيل أيضا : لا سيف كالحق ، ولا عون كالصدق.

وإنما يكذب الكذاب لاجتلاب النفع واستدفاع الضر ، فيرى أن الكذب أسلم وأغنم فيرخص لنفسه فيه اغترارا بالخدع، واستشفافا للطمع. وربما كان الكذب أبعد لما يؤمل وأقرب لما يخاف؛ لأن القبيح لا يكون حسنا والشر لا يصير خيرا . وليس يجنى من الشوك العنب ولا من الكرم الحنظل.

ونحن نعيش في هذا الزمان الذي يموج بالفتن، وقد كثر الكذب علينا، ومن حولنا، ووقع كثير من المسلمين فيه وإنا لله وإنا إليه راجعون، وما يحدث حولنا من أحداث يبين أن الكذب الذي هو ضعف وذل، أصبح لغة من يملكون القوة، ومن يملكون تدمير من هو أضعف منهم.

وهذا الذي يحدث لعجيب، أن تكذب أقوى دول العالم على العالم بأسره، وتتدعي أن هذه الدولة تمتلك من أسلحة الدمار الشامل ما تمتلك، وتشن حربا ضروسا على الأبرياء الضعفاء الجوعى، وتحطم ديارهم وتحرق أرضهم، ثم بعد ذلك يكتشف العالم كله كذب هؤلاء.

نحن نعيش في زمان رهيب، وإن تخلينا عن أخلاقنا الفاضلة وعن الصدق سوف نذوب في هذا العالم الغريب، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتذكر دائما ما طلبه الله منه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، من التزام الصدق والنزاهة حتى يغنم بسعادة الدارين.

فالصدق يساعد على التفكير المستقيم، وأما غيره يؤدي بنا إلى التفكير المعوج، والتفكير المعوج يؤدي بنا إلى الغثائية، ويؤدي بنا إلى عقلية الخرافة وإلى منهج الكذب الذي يعني مخالفة الواقع أو مخالفة الواقع والاعتقاد.

والتفكير المعوج يجعل الناس تعيش في أوهام، وإذا شاع هذا التفكير اختلت الأمور وكان ذلك أكبر عائق أمام التنمية البشرية وأمام الإبداع الإنساني وأمام التقدم والأخذ بزمام الأمور، وأمام العلم وأمام تحصيل القوة، وإذا كان كذلك فشلت كل محاولات الإصلاح وشاعت الغوغائية والعشوائية.

وسبب الوقوع في الكذب وشيوعه أن يتكلم المرء بكل ما سمع، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كذبا، حيث قال : «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» [رواه مسلم]. فنجد أقوام في عصرنا هذا يفترون على الناس، ويكذبون عليهم، وإذ بهؤلاء يشتدون في الكذب، حتى يحولون كل ما يتخيلون دون أي سماع لأي خبر موثق إلى وهم يعيشون فيه يظنونه الحقيقة، فصدق عليهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول : (ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) [رواه البخاري ومسلم وابن حبان واللفظ له].

وانظر إلى كلمة (يتحرى الكذب) أي أنه يعشقه ويسر به ويتتبعه وينشئه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم أأجرنا في مصيبتنا، ويقول صلى الله عليه وسلم : (وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) [رواه البخاري والترمذي واللفظ له] وفي لفظ البخاري : [يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب] وذلك لما يترتب عليها من إساءة ومن ضرر على المستوى العام والخاص.

وتؤدي بنا هذه الحالة إلى شيوع الفوضى وضياع الحقائق، وضياع مكانة الناس، وهذا لا يصلح الناس أبدا، وصدق الشاعر إذ يقول :

لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُمْ                          ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا

إذا تَوَلَّى سَراةُ القومِ أَمْرَهُـــمُ                           نَما على ذاك أَمْرُ القومِ فازْدادُوا

والكذب فيه اعتراض على الله تعالى، فالكذاب يخالف الواقع بكلامه لعدم رضاه به، وهو يتمنى تلك الصورة التي يحكيها مخالفة له، وهذه نقطة مهمة ولذا فمن رضي بالله وأمره وقدره لا تراه يكذب، لأنه لا يسخط على الواقع فيحكيه كما هو، بل يرضى بفعل الله في كونه، ويعلم أنه الملك الحق المبين فيرضى به حاكما، ويعترف بنفسه محكوما في هذا الكون.

ومن هنا كانت قيمة الصدق بأنواعه قيمة إسلامية قيمة يأمر بها الإسلام في حضارته وليس في دينه فقط، يأمر بها العاملين، ونحن نرشد أولئك الذين تصدروا من قبل أن يتعلموا وأفسدوا في الأرض، وهم يريدون علوا فيها، فيهرفون بما لا يعرفون لأنهم ليسوا صادقين.

فالصدق منجاة، ولو ظن الإنسان أن فيه هلاكه، والصدق بركة، ولو ظن خسارته، والصدق قوة، ولو ظن أن فيه ضعفه، وهو ينشئ المسلم القادر على أن يجاهد في سبيل الله الجهاد الأكبر والأصغر.

 

عدد الزيارات 12277 مرة
قيم الموضوع
(6 أصوات)