بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فالشِّيعة: اسم عَلَمٍ أُطْلِق على معنى الأَتْبَاع والأَنْصَار، وجمعه أَشْيَاع، وشِيَع، وقد أطلق اسم الشيعة على مَنْ ناصروا سيدنا علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه ورضي عنه- دون غيره، وأقرُّوا بأحقيته في الخلافة.
ولم يختص مصطلح الشِّيعة في بادئ الأمر بأصحاب سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه ورضي عنه- دون غيرهم، بل أطلق بمعناه هذا على كل من ناصر وشايع سيدنا عليًّا وسيدنا معاوية –رضي الله عنهما– ودليل ذلك ما جاء في صحيفة التَّحكيم: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما. ثم بعد ذلك صار هذا المصطلح خاصًّا بأصحاب سيدنا علي كرَّم الله وجهه ورضي عنه.
إلا أن شيعة سيدنا علي رضي الله عنه بقيت ببقاء نسله الشريف، واستمر معاداة الحكام من بني أمية لأهل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قتل يزيد بن معاوية السيد الأكرم الحسين عليه السلام، فازداد مقت شيعة سيدنا علي وأبنائه رضي الله عنهم أجمعين على بني أمية، وامتد مقتهم لكل مَن رضي بحكم بني أمية فألحقوا أكثر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بهم.
وأهل السنة يعلمون أن عليًّا رضي الله عنه كان أقرب للحقِّ من معاوية رضي الله عنه، ويعلمون أن سيِّدنا الحسين قُتِلَ مظلوما، وخرج أهل المدينة على يزيد بعدما استباحها، ولم يستقر حكم بني أُميَّة إلا بانتقال الحكم لبيت مرْوان.
فأهل السُّنَّة ليسوا هم شيعة معاوية ولا أتباع شيعة معاوية رضي الله عنه، وإنما هم شيعة لسيدنا علي ولمعاوية رضي الله عنهما وكل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة يعتبرون أن حُبَّ آل البيت من أعظم القربات، ممتثلين لقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]، وأهل السُّنَّة أيضا يحبون جميع الصحابة رضي الله عنهم، ولا تجدهم يحطون من شأن أي واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وأن موقفهم من الخلافات السياسية التي حدثت بين الصحابة هو التعامل معها بما يرشدنا إليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134] فلا يقفوا منهم موقف الْحَكَم.
وفي بداية نشأة الشيعة لم تتميز بأصول تُخَالف بها جماعة المسلمين، ثم بعد ذلك بدأ البُعْد بين أهل السنة والشيعة بسبب المسائل السياسية، ثم انقسموا بعد ذلك إلى فرق كثيرة، منها المعتدلة الذين لم يختلفوا مع أهل السُّنَّة على أصل من أصول الدين -وهم من نخصهم بالخطاب هنا كالإمامية والزيدية وهم أغلب من ينتسبون للشيعة- ومنها التي غالت لدرجة أنها خالفت أهل السنة في أصول الدين، فبهذه المخالفة خرج من الإسلام، -كالإسماعيلية والدروز وغيرهما- وقد ساعد أعداء الإسلام على هذا زيادة البُعْد والفرقة بين أهل السنة والشيعة.
فالشيعة الذين لا ينكرون أصلا من أصول الدين من المسلمين؛ لأنهم يشهدون أنْ لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمَّدًا رسول الله، ويؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خير وشره، ومَنِ اجتمعت فيه هذه الخصال ما جاز بحال من الأحوال إخراجه من مِلَّة الإسلام، فلا خلاف بينهم وبين أهل السنة في المسائل القطعية، المعلومة من الدين بالضرورة، ولا في أركان الإسلام، فبهذا لا يجوز لأهل السنة أن يحكموا عليهم بالكفر-كما يفعل المتشَدِّدون ممن تسموا بالسلفيين في هذه الأيام- لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حذَّرنا أَشَدَّ التحذير من الوقوع في تكفير أحد من أهل القبلة.
فعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلا بِالْفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ»([1]). وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ»([2]).
وقال حجة الإسلام، الإمام الغزالي: والذي ينبغي أن يميل المحصِّلُ إليه: الاحترازُ من التكفير ما وجه إليه سبيلا، فإن استباحة الأموال والدماء من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، خطأ، والخطأ في ترك تكفير ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم»([3]).
مفهوم التَّقْرِيب ومدى اتفاقه مع روح الإسلام:
يختلف النَّاس في معنى مفهوم التَّقريب الْمُرَاد بين الفِرَق الإسلامية عامَّة، وبين أهل السُّنَّة والشيعة خاصَّة، وخلاصته هو: التَّقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية بغية تعرُّف بعضهم على البعض الآخر على طريق تحقيق التآلف والأُخُوَّة الدينية، على أساس المبادئ الإسلامية المشتركة الثابتة في مجال العقيدة والشريعة باعتبارها أساسًا للأُمَّة، وأن يتَّسع صدر كل منَّا بل فِكْرُه وعقله لقبول ما عند الآخر، وذلك عن طريق الاحتكام إلى المصير الذي لابد منه ولا بديل عنه في القضايا الاجتهادية.
وقضِيَّة التأليف بين فصائل الأُمَّةِ، والسَّعْي في إصلاح ذات بَيْنِهَا، وجَمْع شملها على الحقِّ والْهُدَى، ورَأْبِ صَدْعِهَا، والتقريب بين فئاتها المتنازعة، من أعظم أصول الإسلام العظيمة، ومن أفضل أبواب الخير والجهاد في سبيل، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] فهو اعتصام بحبل الله، واجتماع على هدى الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»([4]).
وقد طلب الله سبحانه وتعالى من هذه الأُمَّة أن تتوحَّد كلمتها، وألا تكون فِرَقًا وأحزابا، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52] وقال أيضا: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 31، 32] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا»([5]). فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفرقة بين المسلمين ودعا إلى توحيد صفوفهم، روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»([6]).
فهذا يدل على أن كل مَن يعمل لِلَمِّ شملها، ويسعى إلى تأليف قلوب أبنائها، فهو مُؤْمِنٌ حقًّا، مُجاهد في سبيل أنبل غاية عُنِيَ بها الإسلام، وهي تأليف القلوب وتوحيد الأهداف، وأمَّا أولئك الذين يورثون العداوات، ويبعثون العَصَبِيَّات، ويُفَرِّقون بين الأخ وأخيه، ويصطنعون العداوة والبغضاء، فهؤلاء هم الذين يسعون في الأرض بالفساد، وواجب المسلمين المخلصين أن يقفوا لهم بالمرصاد، وأن يُبَصِّروا الأُمَّة بهم، ويكشفوا لهم أهدافهم وسوء غاياتهم، وقد نهانا ربنا عن الفُرْقَة فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105].
والأُمَّةُ الإسلامية لم تُؤْتَ من ثَغْرَةٍ، مثل ما أُوتِيَتْ من جانب فُرْقتها وتنازعها، والصِّرَاع بينها، وقد رسم الإسلام للأُمَّة طريق وحدتها، وما حصلت الفُرْقَة إلا بالبُعْدِ عن المنهج الإسلامي الصحيح.
ومَنْ يسْتَعْرض تاريخ المسلمين يجد أنهم لم ينهزموا عَسْكَرِيًّا بقدر ما انهزموا بسلاح (فرِّق تَسُد)، وما أسهل على عدوِّنا -على مدار التاريخ- أن يستزرع جماعات للقيام بِمُهمَّة التمزيق التي تُفْرَض علينا؛ فنستسلم لها على أنها أقدار محتومة للأُمَّة، والقَدَرُ منها براء، والْمُستَعْمِرُون استغلُّوا أسباب الفُرْقة بين المسلمين أسوأ استغلال، فراحوا يبعثون لأسباب العداوة والبغضاء، وينفخون في نار قد خمد أوارها وانطفأ لهيبها -مع أن أكثر هذه الأسباب قد أصبحت غير ذات موضوع- كل هذا لتبقى لهم الكلمة النافذة في بلاد الإسلام التي حَبَاها الله بخيرات لا تكاد تُوجَد في غيرها من بلاد الله.
وليست الدعوة إلى التقريب بين الفِرَق الإسلامية دعوة إلى بقاء فرقة على حساب فرقة، ولكنها دعوة إلى تنقيتها من الشَّوَائِب التي أثارتها العصبِيَّات والنَّعرات الطائفية، وأذكتها العقلية الشعوبِيَّة، والتقريب يبعدنا عن التمذهب السلبي القائم على التَّناحر الذي هو بحقيقته غير ديني، ويقرِّبنا إلى التمذهب الإيجابي، الذي هو نشاط فكري وعلمي ومدارسة واقعية قائمة على أساس ديني، ويقربنا بالنتيجة إلى الإسلام الواحد الذي اتفقنا عليه.
فبهذا اتضح لنا أن مسألة التقريب بين الفِرَق الإسلامية بوجه عام، وبين السنة والشيعة بوجه خاص أمر مطلوب شرعًا.
ولا شك أن العِبْءَ الأكبر في عملية التقريب بين الفِرَق يَقَعُ على عاتق العلماء والْمُفكِّرين؛ وذلك لأنهم -من جهة- ورثة الأنبياء، وحملة الدعوة، وبناة الجيل، وهم -من جهة أخرى- أعلم بالأُسُس التي يعتمدها التَّقْريب، وأكثر أَثَرًا في توحيد الصفوف وتحقيق خصائص الأُمَّة.
وقد حدث تقريب بالفعل بين بعض علماء فِرَق الشيعة المعتدلة وبين علماء أهل السُّنَّة –مُمَّثلا في علماء الأزهر- في بداية مطلع القرن العشرين، وباستقراء قضايا الخلاف بين أهل السُّنَّة وبعض فِرَق الشيعة المعتدلة وجدنا أن هذا القضايا مدارها على الجهات الآتية:
1- رواية الأحاديث، فيرى أهل السنة أن الرِّواية المعتمدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشمل نقل الصَّحابة كلهم عنه، وعدد الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يقرب من مائة وأربعة عشر ألف صحابي، روى منهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف وثمانمائة صحابي فقط، وعدد الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق أهل السُّنَّة لا يزيد عن خمسين ألف حديث، منها الصحيح، ومنها الضعيف، ومنها المقبول، ومنها المردود.
أما الشِّيعة فيرون أن الرواية لا تكون معتمدة إلا إذا كانت عن سيدنا علِيٍّ كرَّم الله وجهه ورضي عنه، وذلك من طريق نسله الشَّريف الذي حفظه الله سبحانه وتعالى وعصمه من الخطأ، فكانت العِصْمة لسيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه من بعد أبيه ثم لأخيه الحسين من بعده، ثم لابنه علي زين العابدين من بعده، ثم لابنه محمد الباقر من بعده، ثم لابنه جعفر الصادق من بعده، وإليه تنسب الجعفرية، ثم لابنه موسى الكاظم من بعده، ثم لابنه علي بن موسى الرضا من بعده، ثم لابنه محمد بن علي الجواد، ثم لابنه علي بن محمد الهادي، ثم لابنه الحسن بن علي العسكري، ويعتقد الشيعة أنه هو المهدي، ومن هنا سميت بالإثنى عشرية. ومرويات الشيعة جمعها الإمام المجلسي في كتاب كبير يضم عشرات الآلاف من الأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف، فمنها المقبول ومنها المردود.
فإذا نظرنا إلى هذا الكَمِّ الهائل من الرواية عند كل من الفريقين قد اتَّحد في مساحة كبيرة جدًّا واختلف في مساحة أقل، ولقد صدرت عدة محاولات لرصد هذا الاتحاد لجعله منطلقا للتقريب بين المذهبين ولإعلام أتباع كل منهما أنهما يتفقان أكثر مما يختلفان، شأنه في هذا شأن المدارس العلمية التي تنتمي إلى دين واحد بأصول واحدة، ولقد قامت المحاولات لجمع الروايات المشتركة المقبولة عند المذاهب المختلفة، فصنَّف العلامة الإباضي يوسف الطفيش كتابه (جامع الشمل)، وحاول السيد محمد الحسيني الجلالي في جامع الأحاديث أن يبين الروايات المشتركة بين أهل السُّنَّة والشيعة، وهذا مجهود علمي يبين القاعدة المشتركة التي تجمع بين الفريقين.
وعند الاطلاع على هذه الحقائق تزداد تعجبًا وتسأل: ففيم الاختلاف؟ لأن الاختلاف في اعتماد الرواية سوف يسبب اختلافا في الفقه، والاختلاف في الفقه بسيط؛ لأن الفقه مبني على الظن، وما كان مبنيًّا على الظن فإن للاجتهاد فيه مجالا، وإذا كان الأمر أمر اجتهاد فإنه يجب على كل واحد منا أن يقبل اجتهاد المجتهد الآخر.
2- مسألة البداءة، فيرى علماء الشيعة أن أهل السنة أساءوا فهم الشيعة من مرادهم باصطلاح البداءة، فعلماء الشيعة ينكرون أن مقصدهم من البداءة أن الله يقرر أمرًا ثم يبدو له غيره، وقالوا ما نفسر به البداءة هو عين ما تفسرون به أنتم (القضاء المعلق) فأهل السنة يقولون: إن القضاء منه مُبْرَم، ومنه مُعَلَّق، فالمبرم: هو علم الله الذي لا يتغير ولا يتبدل، وأما الْمُعَلَّق: فذلك المسطور في اللَّوح المحفوظ، والذي يمكن أن يُغَيِّره الله سبحانه وتعالى بسابق علمه وإرادته المطلقة، وقدرته التي لا نهاية لها، وحملوا عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَلاَ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلاَّ الْبِرُّ»([7])، وحديث: «لاَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ»([8]).
وعلى هذا فلا خلاف في الحقيقة، إنما هو خلاف موهوم نتج مِن سُوءِ الفهم، ومِن حمل الألفاظ على غير معانيها الاصطلاحية التي استقرَّت في أذهان الناس، وهذا ما يُعْرَف بالخلاف اللفظي، وهو ما لو اطلع كل فريق على ما قاله الآخر لقال به.
3- القول بتحريف القرآن، ولقد اعتذرت الشيعة عما ورد مما يُوهِمُ هذا المعنى القبيح، بأن هذا اللفظ معناه استعمال القراءات الشاذَّة التي يذكرها أهل السنة أيضا في كتبهم، وهي غير معتبرة ولا معتمدة؛ لأنها لم ترد بسند متواتر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن السُّنَّة والشِّيعة على السَّواء يقولون بحفظ كتاب الله الذي بين أيدينا، والذي لم يخىتلف عليه المسلمون قط عبر العصور، وهو ذلك الذي بين دفَّتَي المصحف المعروف المشهور، وكل الأُمَّة يقولون بحفظه، كما ورد في قوله تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. فعاد الخلاف أيضا إلى اللفظ دون المعنى.
4- القول بتكفير الصَّحَابة، فهو خاص بالغلاة منهم، أما الطوائف المعتدلة لم نر لأحد من الأئمة المعصومين –عند الشيعة- كلاما مخالفا في الصَّحابة الكرام، والشيعة الأوائل لم يقولوا بهذا، قال ابن تيمية: «الشِّيعة المتقدِّمُون الذين صحبوا عليًّا أو كانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان نِزَاعُهم في تفضيل علي وعثمان، وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي قال: سأل سائل شريك بن عبد الله ابن أبي نمر، فقال له أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له : أبو بكر، فقال له السائل أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم، إنما الشيعي من قال مثل هذا، والله لقد رقى عليٌّ هذا الأعواد، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابا».([9])
6- قضية مَنْ أحقُّ بالخلافة هو سيدنا علي كرَّم الله وجهه، ورضي عنه فقط –وهو قول الشيعة- أو ترتيب الخلافة كما حدثت، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وهو قول أهل السُّنَّة، فهي مسألة تاريخية، ولكنها تعرف عند الشيعة بقضية الإمامة، وهي أنها لابد فيها من الوصاية والنصر، وهو ما تدَّعيه الشيعة، أو أنها مسألة تتعلق بالاجتماع البشري، وهي متروكة لاختيار المسلمين عامَّة بالانتخاب الحر، وهو ما تدعيه السُّنَّة.
7- التقية: وهي عند الشيعة، وتعريفها عند أهل السنة: أن يتكلم الإنسان بغير ما يعتقد، وعدوا هذا بابا من أبواب النفاق، أو الكذب، أو الضعف، أو الخداع، أو نحو ذلك من الصفات الذميمة. إلا أن الشيعة أجابوا على هذا بأن تعريفها يكاد يكون حكاية مذهب الخصم طلبًا للأمن، وحكاية مذهب الخصم طلبًا للأمن وإن خالفت معتقد مَن يتكلم، إلا أنها ليست واحدة من هذه المعاني القبيحة المذكورة التي تتردد بين النفاق الخداع، وإنما هو وضع قد تمليه على الإنسان ظروف سياسية خاصة في عصر من عصور الجور، وتقييد حرية الرأي، فيضطر الإنسان إلى أن يحكي مذهب الغير، وليس إلى الكذب أو نحو ذلك.
8- العِصْمَة، فقد حملها أهل السنة على معنى: عدم اقتراف الذنوب، وأن عصمة أئمة الشيعة كعصمة الأنبياء، وقد اعتذر الشيعة عن هذا وقالوا بأنهم لا يريدون هذا المعنى وإنما يريدون به معنى التَّوْفِيق، أي: أن أئمتهم مُوفَّقُون.
من خلال ما قدمنا تبين أن مسألة التقريب ليست مستحيلة، وأنها تحتاج إلى بعض الوقت لكي يظهر أثرها على الناس، لأن التقريب الذي حدث كان بين العلماء، وواجب هؤلاء العلماء من الفريقين أن يفهموا أتباعهم ويبعدوهم عن التعصب المقيت الذي يؤدي إلى تكفير بعضهم البعض، مما يهدد مستقبل الأمة الإسلامية، والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________________________________________
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، 5/2247.
([2]) أخرجه البخاري، في صحيحه، 5/2263، ومسلم في صحيحه، 1/79 واللفظ له.
([3]) الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي، ص 157
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه 1/182 ، ومسلم في صحيحه 4/1999.
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه 2/849.
([6]) أخرجه البخاري في صحيحه، 5/2238، و مسلم في صحيحه 4/1999.
([7]) رواه الترمذي في سننه 4/448.