رأينا في المقالات السابقة كيف يعظم المؤمن من الأزمان والأماكن والأشخاص ما عظمه الله وباركه من مخلوقاته، وعلمنا أنه ينطلق في ذلك العقيدة من كون أن الله سبحانه وتعالى هو المعظم الحقيقي وليست هناك عظمة ذاتية لأحد من خلقه، وإنما ما منحه الله العظمة من خلقه والبركة واختار له ذلك نعظمه لتعظيم الله له، ولأنه سبحانه أمرنا بتعظيم، والعظمة في الأول والآخر لله وحدة لأن في تعظيم هذه الأشياء تعظيم الله وطاعة له.
وفي هذه المرة نرى كيف يعظم المسلم من عالم الأشياء الأشياء التي عظمها الله سبحانه وتعالى، هذا الشيء هو من أقدس مقدسات المسلمين هو المصحف الشريف، هو كتاب الله الذي حوى كلامه المنزه القرآن الكريم، فما هو القرآن الكريم الذي كتب في هذا المصحف ؟
القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته، المجموع في المصحف الشريف المعروف، الذي يفتتح بسورة الفاتحة ويختتم بسورة الناس، ونص القرآن الأصلي باللغة العربية، وهو الكتاب الخاتم والعهد الأخير للبشر الذي نزل على خاتم النبيين، ونزل القرآن منجما على مدى 23 عاما منها 13 عاما في مكة و10 أعوام في المدينة.
والقرآن الكريم مكون من وحدات منفصلة تسمى كل وحدة «سورة» وتتكون السورة من مقاطع كل مقطع منها يسمى «آية» ونزل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 86 سورة تسمى سورة مكية، وبعد الهجرة 28 سورة تسمى مدنية، وإجمالي عدد سور القرآن الكريم 114 سورة.
وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية بغير احتساب البسملة وهي ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ في 112 سورة، لأن البسملة آية محسوبة من سورة الفاتحة، وسورة براءة [التوبة] لا تبدأ بالبسملة، وباحتساب البسملة في بداية كل السور عدا سورة براءة يكون عدد الآيات 6348.
وجذور القرآن نحو 1810 جذور تمثل جذور الكلمات القرآنية، في حين أن معجم لسان العرب لابن منظور يشتمل على نحو ثمانين ألف جذرًا، أي أن جذور القرآن تمثل نحو اثنين في المائة (تماماً 2.25%) من العربية، وعدد كلمات القرآن الكريم 77934 كلمة، منها 1620 كلمة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، ويقول بعضهم إن الأديب الروسي تولستوي لم يكرر 4 كلمات في كتابه الحرب والسلام، فعُد ذلك من بلاغته وتمكنه اللغوي، فإذا صح ذلك، فإن هذا التفرد في القرآن الكريم بهذا العدد الضخم من الألفاظ غير المكررة يكون معجزة بمعنى الكلمة. تضاف إلى وجوه إعجازه التي تخرجه عن نظام كلام البشر. وعدد حروف القرآن 323670 حرفا،.
وقد تختلف هذه الأرقام قليلا في إحصائيات أخرى وذلك يرجع لاختلاف العلماء في تحديد مفهوم الكلمة أو الحرف، ومواضع رؤوس الآيات، فمنهم مثلا من احتسب البسملة ضمن الحروف والكلمات ومنهم لم يحتسبها.
وأول ما نزل من القرآن الكريم سورة العلق، وآخر ما نزل من السور سورة النصر، وآخر ما نزل من آيات قوله تعالى : ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة :281].
وأطول سورة في القرآن الكريم سورة البقرة وعدد آياتها 286 آية، وأقصر سورة هي الكوثر وعدد آياتها 3 آيات، وأطول آية في القرآن الكريم آية الدين في سورة البقرة رقم (282)، وأقصر آية قيل هي ﴿يس﴾ أول آية في سورة يس أو ﴿حم﴾ أول آية في سور [غافر-فصلت-الشورى-الزخرف-الدخان-الجاثية-الأحقاف] أو ﴿طه﴾ الآية رقم 1 في سورة طه، وهذه باعتبار كتابتها أم نطقها فهي كلمتان، فمثلا ﴿حم﴾ تقرأ «حا-ميم»، وأما الآية التي تتكون من كلمة واحدة كتابة ولفظا والتي تعد أقصر آية من هذه الجهة هي الآية رقم 64 في سورة الرحمن ﴿مدهامتان﴾. وأطول كلمة في القرآن الكريم لفظا وكتابة هي ﴿فأسقيناكموه﴾ وهي أحد عشر حرفا وهي في الآية 22 من سورة الحجر، قال تعالى : ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر :22].
وترتيب المصحف الموجود بين أيدينا هو ما رتبه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس ترتيب النزول، بل ترتيب توقيفي لا اجتهاد فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد الكتبة فيقول اجعلوا آية كذا بعد آية كذا في سورة كذا، حتى رتب المصحف بهذا الشكل الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقد جاء القرآن ليهذب لغة العرب التي كانت مليئة بالغرائب ووحشي الكلام، وأذكر شعر ابن المطهر الحلي حيث يقارن بين القديم والجديد في لغة العرب، ويظهر من ذلك مدى تهذيب القرآن للغة العرب.
ويقرأ القرآن الكريم بعشر قراءات متواترة، لكل قراءة روايتان فيكون المجموع 20 رواية للقرآن الكريم تحكي 10 قراءات، وكل هذه القراءات ثابتة عن النبي r ونزل بها القرآن من عند الله قرأها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشكال الاختلافات في هذه القراءات تخفيف الهمزة، الإمالة، المدود، الإشمام وكلها مصطلحات يعرفها علماء التجويد.
وهذه القراءات العشر هي :
والمشهور من القراءات ثلاثة : عاصم ونافع وأبو عمر، وخاصة رواية حفص لعاصم، ورواية قالون لنافع في ليبيا، وورش لنافع كذلك في دول المغرب العربي، رواية الدوري لأبي عمرو في السودان والصومال وحضرموت.
فرواية حفص عن عاصم تنتشر في معظم الدول الإسلامية لا سيما في المشرق، ورواية قالون في ليبيا تونس وأجزاء من الجزائر، ورواية ورش في الجزائر والمغرب وموريتانيا ومعظم الدول الإفريقية، ورواية الدوري عن أبي عمرو في السودان والصومال وحضرموت في اليمن
ولذا كانت عموم المصاحف التي طبعت في أنحاء العالم الإسلامي كانت وفقا لقراءة عاصم برواية حفص، وكذلك بعضها بقراءة نافع برواية ورش وقالون، ولكل رواية طرق وهي تتعدد وتصل إلى 100 طريق لكل رواية، ولذا اكتفينا بذكر القراءة والرواية
هذه معلومات عن القرآن الكريم الذي كتبه المسلمون وطبعوه في المصحف الشريف المعروف الموجود بين أيدينا، فترى المسلمين في شتى بقاع الأرض يقدسون المصحف، وتراهم يضعونه فوق الكتب، ويتطهر لمجرد مسه مصداقا لقوله تعالى : ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة : 79]، ويعلمون أن النظر فيه عبادة لأنه يشتمل على كلام ربنا، ويقرأونه بطريقة توقيفية معينة فلا يقرأ كأي كلام، ولا يتعاملون مع كأي كتاب. وإذا سمعوه استمعوا إليه واتعظوا بما فيه.
ويعظمون من عالم الأشياء كتب السنة التي ضمت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنها تحوي الوحي الثاني والمصدر الثاني للتشريع، فيتعلمون منها ويتعبدون بها ويتبركون بها لأنها كلام خير البشر.
وقد بذل المسلمون جهدا مبدعا وغير مكرر في توثيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشئوا علوما كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبدا لأي نبي أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب في تاريخ البشرية فهو أمر فريد اختص بكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق في عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك في العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذي حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمي بما لا مزيد بعده من الدقة.
فكان للصحابة –رضوان الله عليهم- عناية شديدة في رواية الحديث ونقله، فرحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلي عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد [ذكره البخاري في صحيحه]. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : «إني كنت وجارٌ لي من الأنصار في بنى أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله » [رواه البخاري]. ذلك من قبيل اعتناءهم بكتب السنة التي تضم أحاديث المصطفى، وهي من عالم الأشياء كذلك.
ومن تعظيمهم لعالم الأشياء يعظمون قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن مظاهر تعظيمهم لقبره الشريف ما ذكره ابن كثير ابن كثير رحمه الله، حيث قال : «وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو النصر الصباغ في كتابه الشامل هذه القصة المشهورة عن العتبي قال : « كنت جالسًا عند روضة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء :64] وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعًا بك إلى ربي ثم أخذ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
|
فطاب من طيبهن القاع والأكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه |
|
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له. [تفسير ابن كثير 1/521 والبيهقي في شعب الإيمان 3/496].
ونعيد ذكر ما قاله الإمام السبكي في تقديس المسلمين للقبر الشريف حيث قال : «أما المدفن الشريف فلا يشمله حكم المسجد، بل هو أشرف من المسجد، وأشرف من مسجد مكة (يعني بيت الله الحرام) وأشرف من كل البقاع، كما حكى القاضي عياض الإجماع على ذلك، أن الموضع الذي ضم أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا خلاف في كونه أفضل.. ثم قال : ونظم بعضهم:
جزم الجميع بأن خير الأرض ما قد أحاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت كالنفس حين زكت زكا مأواها»
[فتاوى السبكي، ج1 ص 278] والذي قال هذه الأبيات هو محمد بن عبد الله البسكري المغربي.
فهو يقدس من عالم الأشياء ما عظمه الله من الكتب التي حوت على الوحي الشريف، والموضع الذي ضم جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكل ما اتصل بما عظمه من عالم الأشياء فهو يعظمه.
وعليه فنرى أن المؤمن يعتقد أن للزمان والمكان والأشخاص والأشياء حرمة، وهو يراعيها في تعامله معها، فالمؤمن يدرك أن الله جعل من بين الأزمان أزمانا مباركة وأعلى قدرها، كما جعل من بين الأماكن أماكن مباركة، ومن بين الأحوال أحوالا مباركة، وجعل من بين الأشخاص أشخاصا مباركة، وجعل من بين الأشياء أشياء مباركة، وذلك لأن الله سبحانه هو خالق كل هذه العوالم وهو يختار منها ما يريد له التعظيم والإجلال، قال تعالى : ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص :68].
وترتب على ذلك قضية القسم بما عظم ربنا سبحانه وتعالى، حيث رأى بعض العلماء أنها في الحقيقة تعظيم لله، وأنها ليست من باب النهي عن الحلف بغير الله من آلهة المشركين، فقد نقل ابن حجر عن ابن المنذر قوله : «اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة : هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأمّا ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله : وحق النبي، والإسلام، والحج، والعمرة، والهدي، والصدقة، والعتق، ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلاً في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق، والهدي، والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه ؛ إذ لو كان عامًّا لنَهَوْا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئًا». [فتح الباري 11/535]
فكان كل ما سبق جزءا من عقيدة المؤمن بتعظيم ما عظم ربنا سبحانه وتعالى، رزقنا الله صدق اليقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في المقالة السابقة عن مظاهر تعظيم المؤمن لما عظم الله من الأزمان والأماكن التي أراد الله لها التعظيم وباركها، والمؤمن ينطلق في هذا التعظيم من أن الله سبحانه هو الذي يختار ويعلي قدر ما شاء من خلقه، قال تعالى : ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص :68]. فيعلم المسلم أن ما اختاره ربنا وعظمه وحرمه، فقد وجب عليه أن يعظمه كذلك لأن أصبح من حرمات الله، قال تعالى : ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ [الحج :30]. وقال تعالى في تعظيم الشعائر : ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج :32].
والمؤمن يعظم من الخلق من عظم ربنا، فيعظم من عالم الأشخاص [البشر] سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم البشر كلهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع» [رواه مسلم].
بل إنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق على الإطلاق، قال السفاريني : «لا شك أنه صلى الله عليه وسلم خير الخلائق تفصيلا وجملا . قال ابن عباس : «ما خلق خلقا ولا برأه أحب إليه من محمد صلى الله عليه وسلم» . وفي أبي نعيم عن عبد الله بن سلام أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» [غذاء الألباب 1/21].
قال البهوتي رحمه الله : « (و) جعل (خير الخلائق أجمعين) لحديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي ولا فخر أكمل من هذا الفخر أعطيته, أو لا أقول ذلك على وجه الافتخار بل لبيان الواقع أو للتبليغ وحديث «لا تفاضلوا بين الأنبياء» ونحوه, أجيب عنه بأجوبة منها أن المراد ما يؤدي إلى التنقيص ونوع الآدمي أفضل الخلق فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق» [كشاف القناع 5/28].
وقال البوصيري رحمه الله :
فمبلغ العلم فيه أنه بشر |
|
وأنه خير خلق الله كلهم |
وقال أحدهم :
وانعقد الإجماع أن المصطفى |
|
أفضل خلق الله والخلف انتفى |
لذا ترى المؤمنين يجلونه ويحبونه ويقرونه، ويموتون دفاعا عنه، ويتبعونه لقوله تعالى : ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف :157]، فهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» [رواه مسلم] .
فهو المصطفى الذي اصطفاه ربه من ولد بني آدم كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم حيث قال : «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». [مسند أحمد، ورواه الترمذي والبيهقي]. وعن عمه العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم، ثمّ تخيَّر القبائل فجعلني من خير قبيلةٍ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً» [رواه الترمذي].
فكان تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلى مظاهر تعظيم المؤمنين لعالم الأشخاص الذي اختصهم الله بإعلاء القدر وباركهم، ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمون باقي أولي العزم من الرسل فهم خمسة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهم [سيدنا محمد، وسيدنا نوح، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام] الذين قال الله فيهم: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف :35]، وعينهم ربنا في قوله تعالى : ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [الشورى :13]
كما يعظمون جميع أنبياء الله من ذكر منهم في القرآن ومن لم يذكر في القرآن يؤمنون به إجمالا، وقد ورد في القرآن ذكر خمسة وعشرين رسولا ونبيا، منهم ثمانية عشر ذكروا في سورة الأنعام في قوله تعالى : ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ﴾ [الأنعام :83 : 86]. والسبعة الباقون هم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وآدم عليه السلام، وهود عليه السلام، وصالح عليه السلام، وذو الكفل عليه السلام، وشعيب عليه السلام، وإدريس عليه السلام، وقد ذكروا في مواضع متفرقة في القرآن الكريم.
ومن الأنبياء من ذكر الله قصتهم بغير تعين اسم لهم كما في قوله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة :246].
كما أن هناك من الأنبياء لم يقصهم ربنا في كتابه ولم يقصهم نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، وذلك لأن ربنا لم يقصهم على نبيه، قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ﴾ [غافر :78] .
ويؤكد ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :: « إني خاتم ألف نبي أو أكثر ما بعث نبي يتبع إلا قد حذر أمته الدجال» [أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك]، وكذلك ما رواه أبو ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : « يا رسول الله، كم النبيون ؟ قال: مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي. قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر» [الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى وشعب الإيمان].
ويلي أنبياء الله في التعظيم الصحابة الكرام ويقدمون في التعظيم الخلفاء الراشدين، ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة، وآل النبي صلى الله عليه وسلم ويقدمون من آله السيدة فاطمة وزوجها سيدنا علي وابنيهما الحسن والحسين عليهم السلام جميعا؛ وذلك لحديث الكساء الذي رواه كثير من الصحابة منهم عائشة رضي الله عنها حيث قالت : «خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة و عليه مِرْط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال :{ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}» [رواه مسلم].
عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنًا وحسينًا، وعلي خلف ظهره، فجللهم بكساء، ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً». قالت أم سلمة : و أنا معهم يا نبي الله ؟ قال : «أنت على مكانك و أنت على خير» [رواه الترمذي في سننه].
فلم يكن لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من الزهراء، وهكذا كان من ذرية الزهراء، من أبناء الحسن والحسين، جميع السادة الأشراف.
وقد حكى النووي هذا القول، فقال : « (والثاني) أنهم عترته الذين ينسبون إليه صلى الله عليه وسلم وهم أولاد فاطمة رضي الله عنها ونسلهم أبدا, حكاه الأزهري وآخرون» [المجموع 3/448].
ويقدمون من أصحابه من طالت صحبته وغزا معه، وروى عنه أحاديث، وذلك لأن مفهوم الصحابي يدخل في أعداد كثيرة جدا، فالصحابي : هو كل إنسان لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة مؤمنا ومات على ذلك الإيمان. وهو ما ذهب إليه المحدثون في تعريف الصحابي.
قال الواقدي: ورأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار.
وحصر الصحابة رضي الله عنهم بالعد والإحصاء متعذر، لتفرقهم في البلدان، ولأنهم كثرة بالغة، ومن حدهم من العلماء فإنه من باب التقريب، فعن كعب بن مالك قال في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: «والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان» [رواه البخاري ومسلم].
هذا وقد وردت بعض الروايات تذكر عدد الصحابة في بعض المشاهد والغزوات، فعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومع عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكَدِيدَ - وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد - أفطر وأفطروا وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع تسعون ألفًا من المسلمين» [رواه البخاري].
وسأل رجل أبا زُرعة الرَّازي فقال له: يا أبا زرعة أليس يقال حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث ؟ قال: ومن قال ذا قَلْقَلَ الله أنيابَه هذا قول الزنادقة، ومَنْ يُحْصِي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه. قيل: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وسمعوا منه؟ قال: أهل المدينة، وأهل مكة، ومَنْ بينهما، والأعراب، ومَنْ شهد معه حجة الوداع.
وذكر الزرقاني نحو هذا الكلام فقال : «وقد مر أن أبا الأسود وصله عن عروة عن عائشة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع خرج إلى الحج في تسعين ألفا، ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك» حكاه البيهقي [شرح الزرقاني 2/341].
وقد أُلِّفَ في الصحابة رضي الله عنهم كتب كثيرة تناولت أحوالهم وعلمهم، وحصر ابن الأثير في كتابه «أُسْد الغابة» وهو من أوسع ما ألف في الصحابة، نحو سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيًّا، ويُذكر أن الرواة من الصحابة الذين بلغتنا مروياتُهم ألف وثمانمائة صحابي على وجه التقريب.
ويعظمون بعد أصحابه وآله صلى الله عليه وسلم التابعين، ثم من بعدهم، والأصلح والأعلم من هؤلاء مقدم، هذا من تعظيم المسلمين للأشخاص، ومن مظاهر تعظيمهم للأشخاص أنهم يقومون لهم إجلالا، ويقبلون يد العلماء والصالحين منهم احتراما.
قال النووي : المختار استحباب إكرام الداخل بالقيام له إن كان فيه فضيلة ظاهرة من : علم، أو صلاح، أو شرف، أو ولاية، مع صيانة، أو له حرمة بولاية، أو نحوها، ويكون هذا القيام؛ للإكرام لا للرياء والإعظام، وعلى هذا استمر عمل السلف للأمة وخلفه.[المجموع]
قال النووي في موضع آخر : «(الرابعة) : يستحب تقبيل يد الرجل الصالح، والزاهد، والعالم، ونحوهم من أهل الآخرة، وأما تقبيل يده لغناه، ودنياه، وشوكته، ووجاهته عند أهل الدنيا بالدنيا، ونحو ذلك فمكروه شديد الكراهة، وقال المتولي: لا يجوز، فأشار إلى تحريمه. [المجموع].
ما ذكر يكشف عن مكانة عالم الأشخاص ممن خصهم الله في عقيدة المسلم، ويعلم أن المسلم يجعل لهؤلاء الأشخاص حرمة خاصة، كما ظهرت هذه الحرمة للأزمان، والأماكن، وفيما يلي من مقالات نبين تعظيمهم للأشياء. [يتبع]
يعتقد المؤمن أن للزمان والمكان والأشخاص والأشياء حرمة، وهو يراعيها في تعامله معها، فالمؤمن يدرك أن الله جعل من بين الأزمان أزمانا مباركة وأعلى قدرها، كما جعل من بين الأماكن أماكن مباركة، ومن بين الأحوال أحوالا مباركة، وجعل من بين الأشخاص أشخاصا مباركة، وجعل من بين الأشياء أشياء مباركة، وذلك لأن الله سبحانه هو خالق كل هذه العوالم وهو يختار منها ما يريد له التعظيم والإجلال، قال تعالى : ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص :68].
ومن تعظيم المؤمن للأزمان التي اختارها ربنا وباركها، تراه يعظم الأشهر الحرم وشهر رمضان من السنة، وذلك لقول الله تعالى : ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة :36]. فكان التأكيد على حرمة ظلم النفس في هذه الأشهر خاصة بيان لعظيم قدرها عند خالقها سبحانه ومن ثم عظمها المؤمن.
وتراه يعظم شهر رمضان، وذلك لقول ربنا سبحانه وتعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة :185].
ومن الأيام تراه يعظم يوم الجمعة من كل أسبوع، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة :9]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» [رواه مسلم في صحيحه].
وكذلك يعظم يوم الاثنين من كل أسبوع، ويوم عرفة، وعاشوراء من السنة، ورد أنه صلى الله عليه وسلم : «سئل عن صوم يوم الاثنين، قال ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه، ... وسئل عن صوم يوم عرفة، فقال : يكفر السنة الماضية، والباقية. قال : وسئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال : يكفر السنة الماضية» [رواه مسلم في صحيحه].
ويعظم من الليالي ليلة القدر، قال تعالى : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ القَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [ القدر :1 : 5]. وقال سبحانه : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان :3 ، 4]، كما أنه يعظم الليالي العشر من بداية ذي الحجة، قال سبحانه وتعالى : ﴿وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [ الفجر :1، 2].
ويعظم المسلم ذكرى مولده الشريف كما درج سلفنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الاحتفال بمولد الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه بإحياء ليلة المولد بأنواع شتى من القربات من إطعام الطعام، وتلاوة القرآن والأذكار، وإنشاد الأشعار والمدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك غير واحد من المؤرخين مثل الحافظين : ابن الجوزي، وابن كثير، والحافظ ابن دحية الأندلسي، والحافظ ابن حجر، وخاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي رحمهم الله تعالى.
وألف في استحباب الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف جماعة من العلماء والفقهاء، بينوا بالأدلة الصحيحة استحباب هذا العمل؛ بحيث لا يبقى لمن له عقل وفهم وفكر سليم إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وقد أطال ابن الحاج في [المدخل] في ذكر المزايا المتعلقة بهذا الاحتفال، وذكر في ذلك كلامًا مفيدًا يشرح صدور المؤمنين، مع العلم أن ابن الحاج وضع كتابه المدخل في ذم البدع المحدثة التي لا يتناولها دليل شرعي.
ومن إجلاله للأماكن التي اختارها الله بالبركة والقداسة، تقديسه للكعبة المشرفة بمكة المكرمة، ويعلم أن من شدة حرمتها وعظمتها أن الله جعل أحد أركان الإسلام زيارتها والطواف حولها وهو ركن الحج، قال تعالى : ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ [آل عمران :96]. وقال تعالى : ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة :97]
ويعلمون أن من تعظيم الله لبيته الحرام أنه سبحانه حرم على المشركين أن يقربوه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة :28].
ولذا تراه يعظم الكعبة ولا يتحدث عنها إلا بكل قداسة، ولا يعتبرها كأي بناء مكون من أحجار متراكمة، ويعتبر أن من أسقط حرمتها وتكلم عنها على أنها مجموعة أحجار أو أن في زيارتها وتقديسها وثنية يعتقدون أنه جاهل بأصول الدين يخشى عليه من الكفر بعد علمه والإصرار على قوله، ويعتقدون أنه من الفجر الاستهانة بما عظم الله سبحانه وتعالى.
بل إن المسلم يعتقد وجوب تعظيم مكة كلها لأنها تحوي الكعبة المشرفة المسجد الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس, فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم, وإنما أذن لي ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , وليبلغ الشاهد الغائب» [رواه البخاري ومسلم].
كما أن من تعظيمهم لمكة المكرمة قالوا باستحباب الاغتسال قبل دخولها، حيث ذهب الفقهاء إلى أنه يستحب الغسل لدخول مكة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم , فعن «ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله» [رواه البيهقي في سننه الكبرى وأصله في صحيح البخاري]. وصرح الشافعية بأنه يسن الغسل لدخول مكة ولو حلالا للاتباع.
وكما إنهم يعظمون مكة والمسجد الحرام، فهم يعظمون المدينة المنورة والمسجد النبوي والروضة الشريفة، والروضة أصبحت الآن داخل المسجد النبوي، ولذا فإن المسجد النبوي الشريف أفضل بقعة على وجه الأرض، بل هو أفضل مكان في الوجود، وذلك لأن المسجد النبوي الآن يحتوي على القبر الشريف الذي يضم الجسد الطاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمكان الذي يضم جسد أعظم المخلوقات هو أفضل الأمكنة على الإطلاق، قال العلماء : إنه أفضل بقاع الأرض حتى المسجد الحرام، وحتى الكعبة المشرفة، وإنه أفضل من السماوات حتى العرش والكرسي، فمن ذلك ما ذكره الإمام السبكي، حيث يقول : «أما المدفن الشريف فلا يشمله حكم المسجد، بل هو أشرف من المسجد، وأشرف من مسجد مكة (يعني بيت الله الحرام) وأشرف من كل البقاع، كما حكى القاضي عياض الإجماع على ذلك، أن الموضع الذي ضم أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا خلاف في كونه أفضل.. ثم قال : ونظم بعضهم:
جزم الجميع بأن خير الأرض ما قد أحاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت كالنفس حين زكت زكا مأواها»
[فتاوى السبكي، ج1 ص 278] والذي قال هذه الأبيات هو محمد بن عبد الله البسكري المغربي.
فهو أفضل البقاع، وهو وثاني مسجد الحرمين الشريفين، اختار موقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى المدينة مهاجرًا، وشارك في بنائه بيديه الشريفتين مع أصحابه رضوان الله عليهم، وصار مقر قيادته، وقيادة الخلفاء الراشدين من بعده، ومنذ ذلك التاريخ وهو يؤدي رسالته موقعًا متميزًا للعبادة، ومدرسة للعلم والمعرفة ومنطلقًا للدعوة، وظل يتسع ويزداد، ويتبارى الملوك والأمراء والحكام في توسعته وزيادته حتى الآن.
ومن تعظيم المؤمن للأماكن كذلك يعظم المسجد الأقصى، أو القدس الشريف، أو بيت المقدس وهي تلك المساحة التي تضم المسجد الأقصى الحالي ومسجد قبة الصخرة والمدرسة العمرية، وهي نفس المساحة التي يريد اليهود بناء هيكلهم عليها، فهذه مجتمعة هي مساحة المسجد الأقصى، والتي قال تعالى عنها : ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الإسراء :1].
وهي تلك الأرض المقدسة التي أمر الله اليهود بدخولها في زمن موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة :21].
وهو ثاني مسجد وضع في الأرض للناس بعد المسجد الحرام، فعن يزيد التيمي قال : سمعت أبا ذر يقول : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ قال : المسجد الحرام. قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى. قلت : كم بينهما ؟ قال أربعون عاما. ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل» [رواه البخاري ومسلم]
وكان الإهلال منه بعمرة أفضل من الإهلال من أي مكان آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من أهل من المسجد الأقصى بعمرة غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه ابن حبان في صحيحه]
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى» [رواه البخاري ومسلم] فيتضاعف أجر الصلاة في هذه المساجد دون غيرها من المساجد، ولذا فلا تقصد مساجد بالسفر رغبة في تضاعف أجر الصلاة فيها إلا هذه المساجد، وليس في هذا الحديث تحرم السفر وشد الرحال لغير المساجد الثلاثة.
أما السفر لزيارة مسجد غير هذه الثلاثة من باب السياحة والتعلم وغير ذلك فهو جائز كمن زار دمشق لزيارة المسجد الأموي مثلا، أو زار القاهرة لزيارة جامعة الأزهر، أو غير ذلك، كما يجوز للإنسان أن يسافر لغير المساجد الثلاثة من طلب العلم وطلب الرزق والسياحة وغير ذلك من أسباب السفر المعروفة.
وقد اتفق العلماء في هذا الفهم وننقل قول الشيخ سليمان بن منصور المشهور (بالجمل) : «(لا تشد الرحال( أي للصلاة فيها فلا ينافي شد الرحال لغيرها... إلى أن قال : قال النووي : ومعناه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غير هذه الثلاثة، ونقله عن جمهور العلماء. وقال العراقي : من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط؛ فإنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد من الرحلة لطلب العلم وزيارة الصالحين, والإخوان, والتجارة والتنزه ونحو ذلك فليس داخلًا فيه.
وقد ورد ذلك مصرحا به في رواية الإمام أحمد صلي الله عليه وسلم، وابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا : «لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام, والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» وفي رواية : «لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها» ... إلخ قال السبكي : وليس في الأرض بقعة فيها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة. قال : ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكمًا شرعيًا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها، بل لزيارة، أو علم، أو نحو ذلك من المندوبات، أو المباحات، وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة كسيدي أحمد البدوي ونحوه داخل في المنع وهو خطأ; لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه ، فمعنى الحديث لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد، أو إلى مكان من الأمكنة؛ لأجل ذلك المكان، إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال لزيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل لمن في المكان فليفهم ا هـ . برماوي» [حاشية الجمل 2/361].
فالمسلم يقدس الأزمان المباركة ورأينا ذلك في شهر رمضان والأشهر الحرام ويوم الجمعة، ويومي عرفة وعاشورا، وغير ذلك من الأزمان، كما أنه يقدس الأماكن المباركة ورأينا ذلك في الكعبة المكرمة ومكة، وفي المدينة المنورة وفي القدس الشريف، وفي المقال القادم نرى تقديس المؤمن للأشخاص المباركة والأشياء المباركة. [يتبع]
تكلمت في سلسلة المقالات السابقة عن الأنوار، وعلمنا أن منها نور الرحمن، ونور القرآن، ونور النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، ونور الإيمان، ونور الأكوان، وفصلنا القول في الحديث عن كل نوع من هذه الأنواع.
وفي هذه المرة نتكلم عن موضوع يتعلق بالأنوار كذلك، وهو طريق النور، فطريق النور واحد لا تعدد فيه، والظلمات طرق كثيرة تتشعب وتتعدد، ولذا ترى القرآن يذكر النور بالإفراد، والظلمات بالجمع، فيقول تعالى : ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة :257].
ويقول سبحانه في شأن نبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة :15 ، 16]
فطريق النور واحد وهو الذي أراد الله أن يخرج عباده إليه، والظلمات هي أي طريق غير طريق النور، ولقد فطر الله العباد على حب النور، فيجدون فيه الاستقرار ويجدون فيه الطمأنينة ويجدون فيه النشاط، ويكرهون الظلام الدامس فلا يرون فيه الأشياء، ويخشون من المفاجآت، ويضلون فيه الطريق لا يعرفون إلى أين يسيرون.
ويحب المؤمن –بصفة خاصة- النور لأنه اسم من أسمائه تعالى، وصفة من صفاته، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النور :35]، وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا إنه وتر يحب الوتر من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام... إلى أن قال في آخره : « النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» [رواه الترمذي].
والنور صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وصفة من صفات الوحي ومن آثاره، وهو صفة من صفات القرآن، وهو صفة من صفات المؤمن الصادق يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين» [رواه الترمذي].
والله يبغض الظلام والظلمات وينزه المؤمن عن الظلمات، ومن أجل ذلك حرم الله الكذب لأن الكذب يظلم على الحقيقة، ويؤدي إلى الضلال وحرم الله شهادة الزور والبهتان والفساد في الأرض، وحرم علينا الظلم؛ لأنه تغير للحقائق وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» [رواه البخاري]. فترى الظالم مظلم الوجه مظلم الرأي، وتراه يتسبب في ظلام وغياب للحق والنور، ولذا يعاقبه الله يوم القيامة بجنس عمله، فيرى ظلمه ظلمات يوم القيامة.
لذا فأن من أعرض عن الله واتبع سبيل الشيطان وكذب وظلم وأفسد في الأرض يسلبه الله النور، ويجعله في ظلمات بعضها فوق بعض، قال تعالى : ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النور :40].
فالمؤمن يحتاج إلى النور في قلبه وروحه وعقله؛ ليدرك الحقيقة على ما هي عليه، ويتلذذ بذلك النور الذي يزهو ويتلألأ بذكر الله فتطمئن به القلوب، فهو يريد أن يغرق في بحار الأنوار، ولا يحب أن يتوه في الظلمات، ولذا أنزل الله الكتاب، قال تعالى : ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ [ إبراهيم :1]. فكانت علة إنزال الكتاب إخراج الناس من دائرة الظلمات إلى دائرة النور.
يعلم ربنا أن المنافقين سيقومون في الشرق والغرب وأتباعهم وأذنابهم فيتهمون المؤمنين بالظلامية، ويدعون للفساد في الأرض والتخريف والتحريف، فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقلبون الحقائق ويلبسون الحق بالباطل وهذا ديدنهم، يعلما ربنا وهو الذي خلقهم أن هذه الدعاوى لا تساوي شيئا عند الإنسان المؤمن السوي، وأن تحديد دائرة النور، وتحديد دائرة الظلام إنما هي بإذن الرحمن، قال تعالى : ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [التوبة :67].
وهذا النور الذي يهدي الله به المؤمنين بإذنه إلى صراطه، وعبر ربنا بقوله سبحانه ﴿إلى صراط العزيز الحميد﴾ واسمه سبحانه العزيز فيه قوة، وشدة، وفيه تفرد، وفيه توحيد، وفيه أيضا استقلال بتحديد دوائر النور والظلام، فهو الذي يصف الأفعال، وهو ما فهمه الأصوليون في باب الحكم الشرعي عندما تكلموا عن الحسن والقبيح، وذكروا الخلاف هل هما عقليان ؟ أم شرعيان ؟ والصواب ما ذهب إليه جمهور المتكلمين من السادة الأشاعرة أن الحسن وصف شرعي، والقبح كذلك، فالله هو الحاكم وهو الذي يصف الأفعال والعقل بعد ذلك يدرك هذا الوصف ويتعامل معه، وكذلك هو الذي يصف لنا النور والظلام، فلا يضرنا أن يسمي أحد من الناس الظلام بالنور، أو النور بالظلام طالما أن ربنا بين لنا ذلك.
فالله سبحانه وتعالى لا مثيل له، لا في قدرته ولا في خلقه ولا في حكمته ولا في إبداعه، فهو سبحانه تعالى استوفى صفات الكمال كلها، وهو حقيق بالحمد منا من أجل تفرده في عليائه، وهو ما يبين معنى الاسم الحسن الذي ختم الله به هذه الآية حيث ﴿العزيز الحميد﴾ أي يحمده الحامدون، على كماله حمدا مستغرقا لا نهاية له كما أن كمالاته لا نهاية لها. وهو سبحانه لا يحتاج إلى الدليل يقام عليه فهو أظهر من الدليل، ومن المستدِل ومن المستدَل ليه، هو سبحانه وتعالى رب العالمين فهو يستحق منا الحمد فهو حميد.
ثم يعقب ربنا هذه الآية بقوله سبحانه : ﴿اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [إبراهيم :2]، وكأن تلك الآية إجابة عن سؤال المنافقين المتهكمين حيث يقولون : ومن العزيز الحميد ؟ فيجيبهم ربهم بتلك الآية التي تشتمل على المفاصلة، والقوة، والقرع، كلام صدر عن رب العالمين لعباد تحت قهره قادر على إفنائهم عاجلا أو عاجلا في الوقت الذي يشاء، كلام تهتز له القلوب –إن كانت مؤمنة- كلام تهفو إليه الأرواح لو أسلمت لله رب العالمين أنفسها وذاتها وكينونتها، فهو قول فصل لا هزل فيه، قال تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق :13 : 17].
وكأن قارئ تلك الآية التي يجيب الله بها على المنافقين يتساءل بعد ذلك، وما من هؤلاء الكافرين الذين لهم عذاب شديد، وما صفتهم، فتخبر الآية التي تليها بالإجابة، فيقول سبحانه : ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِى ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [إبراهيم :3] والألف والسين والتاء تدخل للطلب، فهم يطلبون الدنيا ويتفننون في طلبها، لا من أجل قوة ينشرون بها الحق كما أمر الله سبحانه وتعالى، ولا من أجل حقيقة يريدون أن يوجهوا الخلق إلى الله فيها، بل إنهم يستحبون الحياة الدنيا للشهوات والعلو في الأرض والإفساد فيها، والله سبحانه وتعالى لا يحب ذلك، قال تعالى : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ [البقرة :204 ، 205]
ويترك ربنا سبحانه وتعالى حرية اختيار السبيل، وحرية السعي فيه، وذلك ليتناسب مع المسئولية، فكل مسئول عن اختياره، ولذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، قال تعالى : ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران :145]. وفي هذا إقرار لحرية العقيدة وحرية الرأي، وحرية الرؤية والمنهج.
فهؤلاء الكافرين بحبهم للدنيا، وإفسادهم في الأرض، ورغبتهم الشديدة في العلو والهيمنة يفقدون أي نصيب في الآخرة، وفي ثوابها، وفي جنة الخلد، يقول تعالى : ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِى الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص :83]. فهم يريدون العاجلة ويعاقبهم الله بالتعجيل لهم فيها كي يستحقوا العذاب جزاء على إعراضهم عن الله ودعوته التي فيها صالحهم والخير لهم، قال تعالى : ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ [الإسراء :18].
فهناك حرية في دخول الجنة، وحرية في دخول النار، فإذا أراد أحد من الناس أن يدخل النار حزنا عليه، ولكن لا نحمله قهرا على أن يدخل الجنة، فما بالهم لا يتركونا ندخل جنة ربنا على هوانا، لماذا يريدون أن يحملونا قصرا على دخول النار ؟ نحن نتركهم يختارون سبيلهم، فلم لا يتركونا نختار سبيلنا ؟ لم يصدون عن سبيل الله ؟
إنهم عتاة تعاملوا مع الله والمؤمنين بهم، وهم لا يعجزونه سبحانه وبتجبر، وتعامل الله برحمة وتركهم يأخذون فرصتهم ويختارون سبيلهم، فانقلبت الفطرة، وأصبح المنكر عندهم معروفا، وأصبح المعروف عندهم منكرا، فسدوا على المؤمنين طريق الجنة، وفتحوا طريق النار للناس، ثم يهرفون بما لا يعرفون ويدعون إلى الحرية والإبداع، أي حرية يقصدون ؟ لو كانت هناك ثمة حرية لتركتم أهل الجنة يختارونها ويسيرون إليها برغبتهم ؟
فهؤلاء الذين ضلوا ضلالا بعيدا، قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء :167]. إنهم سينفقون الأموال للصد عن سبيل الله، ولكن مقصودهم لن يتحقق مما يورث في قلوبهم الحسرة على ما أنفقوا، قال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال :36]. إن هؤلاء الذين يضاعف لهم العذاب لكفرهم مرة، ولصدهم عن السبيل أخرى، قال تعالى : ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [النحل :88]. فهم الذين أعمالهم في ضلال وإلى زوال، قال تعالى : ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [ محمد :1].
فهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله وعصيانهم لرسوله صلى الله عليه وسلم لن يضروا الله، فلن يبلغ أحد من الخلق ذلك سبحانه وتعالى عما يصفون، قال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد :32]. فالصد عن سبيل الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم دأب المنافقين، فهم يبالغون في الصد عن سبيل الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾ [النساء :61]
وإذا ما دعونا هؤلاء المنافقين للتوبة والإقبال على الله اتبعوا سبيل أسلافهم الذين كانوا على عهد رسول الله، حيث وصف ربنا في كتابه بالإعراض عن تلك الدعوة فقال سبحانه : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون :5].
وبعد هذه الآيات التي تتكلم عن صراط العزيز الحميد، وصفات الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله ويستحبون الحياة الدنيا يؤكد ربنا سبحانه على الحقيقة المطلقة إذ يقول سبحانه : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [إبراهيم :4] هذه الحقيقة المطلقة بأن الهدى من عند الله يهدي إليه من يشاء، والضلال من عند الله يضل به من يشاء وهو أحكم الحاكمين لابد أن تكون تلك الحقيقة راسخة في الأذهان وأنتم في نشاطكم اليومي وأنتم تسمعون وسائل الإعلام، وأنت تقرءون الصحف التمسوا من الله النور.
كانت هذه الآيات الأولى من سور إبراهيم توضح طريق النور وصفاته، وتبين طريق الظلمات وصفات السائرين فيه، رزقنا الله وإياكم طريق النور، وجنبا الظلمات في الدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.