أمر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام الليل, فقال جل وعلا: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:2-4], وقال سبحانه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) [الإنسان:26], وقال عز وجل: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء:79], وكان قيام الليل فرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونافلة في حق الأمة إلا أنه تأكد في رمضان, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». (رواه البخاري).
وقال أيضا: «إن الله عز وجل فرض صيام رمضان وسننت قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه», (رواه أحمد), وسمي قيام رمضان بالتراويح, ولم يزد النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عائشة- عن إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيرها, إلا أن عمر بن الخطاب جاء فجمع المسلمين على صلاة عشرين ركعة, وعلى أن تكون التراويح جماعة في المسجد وعلى أن يرتاح المصلون بين كل أربع ركعات وقد سميت التراويح بذلك لهذه الراحة, وجمع عمر الصحابة على إمام واحد هو أبي بن كعب, فمن أراد أن يصليها جماعة فذاك, ومن أراد أن يؤخرها فيصليها في بيته فحسبه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». ولأن عمر من الخلفاء الراشدين, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء» (رواه مسلم) ولأنه صلى الله عليه وسلم علم صحابته أن من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد, فبين جواز أن نحدث ما هو من الدين خارجا عن الدين, فأجاز الصحابة أن تصلي جماعة كل صلاة لم تسن فيها الجماعة, وصارت هذه قاعدة متفقا عليها ونصها: (كل صلاة لم تسن فيها الجماعة تجوز فيها الجماعة). فالجماعة سنت في صلاة العيد والكسوف والاستسقاء, ولم تسن في تحية المسجد وقيام الليل والنوافل المطلقة والاستخارة, ولكن الجماعة تجوز في هذه الصلوات, وهذا فهم الصحابة والأئمة المجتهدين عبر العصور حتى كاد يكون إجماعا حيث لا نعرف فيه خلافا.
وهذه المسألة تحرر الفرق بين السلف والخلف في مفهوم البدعة, فالسلف الصالح لم يكن كل حادث عندهم بدعة, بل البدعة ما خالف الدين, فإذا كان حادثا وليس مخالفا للدين فهو سنة حسنة مقبولة, وكل ذلك تراه في الأذكار والأدعية وكثرة العبادة ومنها التراويح.
وكان شيخ مشايخنا الإمام العلامة محمود خطاب السبكي, حريصا على التمسك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم, ورأى أن يقتصر في صلاة التراويح على ثماني ركعات لحديث عائشة السابق, وتمسكت الجمعية الشرعية بهذا الاختيار منذ نشأتها في سنة 1912م حتى الآن, ومال كثير من الناس إلى هذا الاختيار وساعدهم على ذلك أن جزء القرآن مقسم إلى حزبين, وكل حزب مقسم إلى أربعة أرباع, فالإمام يقرأ ربعا كل ركعة, والحفاظ يميلون إلى هذا لأنه أسهل في الاسترجاع والتلاوة, وطبع مصحف التهجد كل ربع في صفحة لهذا الغرض, لمن أراد أن يقرأ من المصحف في صلاته وهو جائز عند جماهير العلماء. وكان ذكوان يقرأ من المصحف ويؤم السيدة عائشة وبعض الصحابة على هذه الهيئة.
وخالف هذا الاختيار ما استقر عند الأئمة الأربعة وجماهير المسلمين شرقا وغربا سلفا وخلفا, فهو مذهب الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد, وقال مالك في عدد صلاة التراويح ستة وثلاثون, تعلقا منه بفعل أهل المدينة في زمانه، وليس ذلك بحجة, وما فعله عمر وأجمع عليه الصحابة في عصره أولى بالاتباع.
وحدث بموجب هذا الاختلاف فتن ومحن كثيرة بين العوام حتى وصل الأمر إلى إراقة الدماء والعياذ بالله تعالى في بعض القرى منذ أكثر من ستين عاما, ومن المعروف شرعا أن المسائل الخلافية إنما هي سعة ورحمة, وليست سببا للتناوش والشجار, ولكن التعصب الأعمى مع الجهل يفعل الكثير من الفساد, وأغلب المساجد اليوم سواء من أتم جزءا في التراويح أو لم يتم مال إلى الثمانية، أما من يصلي عشرين فيساعده مصحف الدار كنار, وهو الذي التزمه مصحف الملك فهد فترى الجزء في عشرين صفحة يقرأ الإمام صفحة في كل ركعة من الركعات العشرين, وأول من كتب المصحف بهذه الطريقة هو علي بن سلطان القاري الحنفي المكي, والذي كان يكتب مصحفا كل سنة, وأرسل بعض هذه المصاحف للخليفة العثماني باسطنبول، ثم شاع هذا النمط في المصاحف العثمانية عند طباعتها وعرف لدى المتخصصين بمصحف الدار كنار ووضعت مناهج تحفيظ القرآن بناء على هذا. اللهم تقبل منا صالح أعمالنا واغفر لنا وارحمنا واجعلنا من عتقائك من النار ومن المقبولين ومن ورثة جنة النعيم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.