تكلمنا في المقال السابق أن هناك أمثلة غايتها أن تُقرّب المطلق المجرد من المشهود النسبي وتبيِّن الكلي الذهني باستخدام الجزئي المشخَّص، وذكرنا أن من هذه الأمثلة مثل [الدائرة-النقطة-الشمعة-المرآة] وأن هذه الأمثلة لبيان كيف تضافرت مصادر العقل المسلم، وكيف استخدم كل مصادره –تحت مظلة الوحي والرؤية الكلية المنبثقة عنه- في بناء أفكاره ومناهج علومه. وقد تحدثنا عن الدائرة والنقطة، ونكمل الحديث في هذا المقال عن الشمعة.
والشمعة واستمرار قضية الإيجاد من العدم دون أثر في الموجٍد: قالوا: إن الأشياء إذا أخذنا أجزاء منها تكون بين أمرين: إما أن تنقص بالأخذ منها، وهذه عامة الأحوال وإما أن تزيد بالأخذ منها كالحُفرة، فكيف يقع الأخذ من (أو عن) شيء دون تغير بزيادة أو نقصان في المأخوذ منه؟ أو كيف أوجدَنا الله ولسنا منه وليس منا؟ كيف ولم يطرأ تغيُّر على الإله عز وجل؟ هنا جاء مثال الشمعة (وهو مثال من الوجود الملموس) ليجيب عن حالة الشيء الذي يمكن أن يؤخذ منه فلا تقع زيادة ولا نقصان. فعندنا نقرّب فتيل الشمعة غير مشتعل من فتيل أخرى مشتعل، تضيء الأولى دون نقص ولا زيادة في وزن أو حجم أو شكل الثانية.
وهذا أيضًا جاء ردًا على من سأل مجادلاً: أين الله؟ هل هو خارج الكون؛ فيكون الإله محدودًا بحدود الكون وله نهاية؟ أم هو داخل الكون؟ أم الكون هو الذي يتواجد في الإله؟ بين مزاعم الحلول ومزاعم الاتحادية..الخ.
المرآة وقضية المتناهي وغير المتناهي (اللانهائي): قالوا: إنه لا يوجد في هذا الوجود الحقيقي (المنظور) شيء غير متناهٍ على الحقيقة، فكل شيء في الوجود معدود أو موزون أو يقاس بأي أدوات القياس.. فكيف نصدِّق بالمطلق اللامتناهي الذي هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخِر فليس بعده شيء، وهو بكل شيء محيط؟ فأجاب أهل التراث بسؤال: ماذا إذا وضعنا مرآة في مواجهة أخرى؟ في هذه الحال نجد صورًا (لانهائية) حتى إن العين تكلّ من متابعة هذه الصور، فإذا كان ذلك من صفات المرآة المخلوقة، فكيف الحال في صفات الله الخالق سبحانه وتعالى؟
هكذا وقف الإنسان المسلم التراثي مواقف غريبة، وهو يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات وعن أخرى غيرها نجمت عن الاحتكاك الحضاري والتفاعل مع الآخر.. فقال مثلًا: أنا أرى صفات نفسي، وعلمي أتعلمه وأكتسبه كل يوم : (إنما العلم بالتعلم) [رواه البخاري] فهل يفعل الإله ذلك؟ هل ينظر إلى الأحداث -كما يشيع في أساطير اليونان التي تصور آلهة تتابع مسرحية كبيرة.. وتجعل جوبيتر- كبير الآلهة عندهم- مثلًا يتعلم كما يفعل البشر..؟ قال هذا المسلم المتفكر: لا، بل الله بكل شيء عليم. قال تعالى : (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ : 3] ، وقال : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد : 22]. قيل: ذلك يعني أن علمه غير نهائي! وهل هناك في حقائق الدنيا ما هو (غير نهائي)؟ إن الـ(مالا نهاية) هي مجرد تصور ذهني.. أي مقدّر، فهل يمكن أن يكون الأمر المقدّر مثل الـ"مالا نهاية" أمرًا محققًا؟ والمقدّر غير محدود، والمحقّق الموجود محدود، وبالتالي له نهاية (نهائي)!
لقد طُرِحت هذه الأمثلة لحل مشكلات فلسفية عقيدية؛ ولإلزام الخصم المجادل بحُجة من مصدره للمعرفة (الوجود المشهود)، علاوة على ما تعكسه هذه الأمثلة من تطور للعقلية التراثية
إلا أننا نحتاج من أجل مزيد من فهم أعمق للعلم الموروث، فلابد من إدراك عناصر تكوين العقلية التي أفرزت هذا النتاج أو العلم! ونفضِّل كلمة (عناصر التكوين العقلي) على كلمة (الرؤية الكلية)؛ إذ أن الأخيرة تعد إحدى تلك العناصر بالإضافة إلى مكونات أخرى للعقلية التراثية. وهذه المكونات ليس يحويها كتاب بعينه، إنما كان يضمرها كافة الناس. ومن ثم فهي لا تعبر عن -ولا تمثل- علم الفقه أو علم الكلام أو علمًا بذاته من العلوم التراثية، إنما تمثل الخلفية التي كانت وراء عقلياتهم وعلومهم. أعتقد أن فهم هذه المكونات يسهم في نقلنا نقلة نوعية في فهم تراثنا، وفي فهم ذاتنا، وكذلك في فهم الآخر.
ومع أن المقصود تتبع العناصر المنهجية في العقلية التراثية دون الوقوف على الجزئيات، فيمكن القول-كذلك- إن كثيرًا من جزئيات هذا الموروث لا تزال مهمة لنا ومطروحة الآن، وضرورية في بناء نموذجنا المعرفي، على الرغم من الزعم السائد بأن عصرنا لم يعد يتحملها الآن! فما الرأي في أن قضية (خلْق القرآن) التي أثيرت في الربع الثاني من القرن الثالث الهجري لا تزال مطروحة بكل قوة، لكن بألفاظ وعناوين مستجدة. فلدينا توجّه معاصر يتبناه أناس من أمثال نصر حامد أبو زيد، سعيد عشماوي، محمد أركون.. يرى أن القرآن زمنيّ تاريخاني!! أليس هذا هو عين القول بمخلوقية القرآن؟ (يتبع)