تعرضنا في مقالات سابقة لبيان معنى الرؤية وحقيقتها، وكذلك أقسامها، ووصلاً بما سبق من حديثنا عن الرؤية نتكلم اليوم في الرؤيا وعلاقتها بالوحي والأحكام الشرعية، ولعل هذا الموضوع يكشف سبب اهتمام العلماء والفقهاء بالرؤيا.
ذهب جمهرة المفكرين إلى أن الرؤيا تنبع من نفس المعين الذي تستقي منه النبوة والولاية، وإن كان حظها منه أقل كماً وكيفاً. وقد اختلفت وجهات نظرهم في تفاصيل هذه الفكرة، وإن التقت آخر الأمر عند تأييدها.
فالنفس ذات روحانية، مدركة من غير آلات بدنية، وأدوات حسية، وتكون عندئذ أقل في الدرجة من نفوس الملائكة، أهل الأفق العالي، الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن أو غيره.
وهذا الاستعداد السالف يقوم في النفس ما دامت في البدن، وهو على صنفين :
أ- صنف خاص يتهيأ للأولياء.
ب- وآخر عام في البشر جميعا، وهو الرؤيا الصادقة.
أما الاستعداد الذي يتهيأ للأنبياء، فإنه يكون بانسلاخ النفس من البشرية إلى الملكية المحضة، وهي أعلى الروحانيات. فالرؤيا على هذا طور ضعيف من أطوار النبوة، وبينها وبين النبوة مرتبة واضحة المعالم، يقوم فيها إلهام الأولياء الذي يعتبر ضعيفا بالإضافة إلى الوحي النبوي قويا بالقياس إلى وحي الرؤيا.
وهكذا تنتظم الثلاثة في سمط واحد؛ فلنتحدث عن صلة الرؤيا بكل منهما على حدة؛ فإن مثل هذا الحديث يزيد العلاقة وضوحا، ويكشف لنا عن مكان الرؤيا في مجال الإدراك الغيي.
صلة الرؤيا بالبنوة :
للرؤيا صلة وثيقة بالنبوة، فكما ذكرنا من قبل أنها مبدأ الوحي، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن رؤيا الأنبياء وحي، أما نزول الوحي على لسان الملك إبان اليقظة فيكون للرسل فيما يقول بعضهم، وبها يمكن ادعاء النبوة، على أن لا يكون المدعي مكثراً في أحلامه، ولا كاذبا في أحاديثه، فإن قلت : رؤاه وكان صدوقا وجب أن يتريث حتى تتكرر الرؤيا، فيقطع بصحتها، على أن لا ينسخ بها بعد ذلك شرعا، ولا يستأنف عبادة بطلت، أليست الرؤيا وحي الله إبان النوم.
وقيل : إن الوحي قد نزل به، وهو نائم في الغار إذا جاءه الملك وفي يده صحيفة، وقال له : اقرأ، فأجاب مأخوذاً : ما أقرأ ؟ إلى آخر ما ترويه كتب السيرة.
وهكذا ينزل وحي الأنبياء في المنام أول الأمر، فإذا هدأت قلوبهم هبط عليهم الوحي إبان اليقظة، وإن ذهب البعض إلى أن الوحي قد ينزل على الرسول في يقظته لا في منامه، على أن الرأي الراجح عند المسلمين أن الرؤيا كانت إيذانا بدعوة الإسلام، وإرهاصا برسالته؛ كانت الرؤيا بدء الوحي، وأضحت اليوم بعد انقطاعه المظهر الباقي للنبوة، والتراث الذي خلفته لنا، فإن الرسالة قد انقطعت بعد الرسول « لا رسول بعدي ولا نبي » فلما شق هذا على الناس، قال : « وبقيت بعدي المبشرات » قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : « الرؤيا الصادقة يراها الرجل الصالح، أو ترى له ».
ومما ورد في القرآن من أمثلة الرؤيا للأنبياء رؤيا نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ - فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ - وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ - إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ - وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات : 101 : 107]
يقول الرازي في تفسيره لهذه الآيات : « إنه رأى في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح »
فإن قيل : إما أن يقال : إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أن كل ما رآه في المنام فهو حق وحجة، أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم. فإن كان الأول : فلم راجع الولد في هذه الواقعة ؟ بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور، وأن لا يراجع الولد فيه، وأن لا يقول له : ﴿ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾، وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد : ﴿ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ وأيضا فلم قلتم : إنه بقي في اليوم الأول متفكرا ؟ ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة.
وإن كان الثاني، وهو : أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يروه في المنام حق، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة ؟ والجواب: لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا متردداً فيه، ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح والله أعلم».
النموذج الثاني الذي ذكره الله في القرآن عن رؤيا أحد الأنبياء وهو سيدنا يوسف عليه السلام فقال تعالى : ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ - قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [يوسف : 4،5] إلى أن قال سبحانه في نهاية السورة : ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقاًّ ﴾ [يوسف : 100]
وقال القرطبي في تفسيره لهذه الآيات : « فإن قيل : إن يوسف عليه السلام كان صغيراً وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم، حتى يقول له أبوه : ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ ؟
فالجواب : إن الرؤيا إدراك حقيقة فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام، وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه، وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة»... إلى أن قال : « وأظن أن سبب نصيحة يعقوب بعدم قص الرؤيا على الإخوة كان ذكره لها أمامهم، وليس معصية منه لأبيه، وهذا الذكر أشعل نار الحسد في قلوبهم على يوسف، وأن معنى النهي ألت تقصص رؤياك التي من هذا النوع مرة أخرى على إخوتك، والله أعلم.
ويؤخذ من هذا كله أن للرؤى مكانة وتأثيرا وتأويلا حقيقيا، حتى ارتقت لمثابة طريقة لإثبات حكم الله، أو طريقة لوصول حكم الله إلى أنبيائه فهي عظيمة الشأن لنا فيها المبشرات بعد انقطاع النبوة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الرؤيا الصالحة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.