مرّ التشريع الإسلامي في تاريخه بمراحل عدة، إلا أن أهم مرحلتين في تاريخه هما مرحلة «الاجتهاد»، ومرحلة «التقليد»، حيث إنهما معاً شكَّلتا ما نعيشه من أزمة فكرية تتعلق بالفقه في عصرنا الحاضر، متمثلة في امتلاك تراث عظيم مليء بالكنوز، تم تكوينه ورعايته في عصر الاجتهاد، ووجود هوة عميقة تفصل بيننا وبين هذا التراث والتي تم تكوينها عبر العصور، إلا أن هذا لا يعني أن عصر التقليد خال من الإيجابيات، فله مميزاته إلا أنها ضاعت في نسيج الزمن.
وبتتبع عصر الاجتهاد، نجده يبدأ من أوائل القرن الثاني الهجري، بعد انتهاء عصر الصحابة التابعين، الذي لم يشهد أي تدوين واسع للسُنَّة أو الفقه إلا محاولات قليلة، ويمتد هذا العصر إلى منتصف القرن الرابع، وفي هذا الدور نما الفقه، وازدهر، وكثرت مسائله على نحو لم يعهد مثله من قبل، وهذه الظاهرة ترجع إلى أسباب كثيرة نذكر منها:
أولاً: اتساع البلاد الإسلامية، فقد كانت تمتد من الأندلس إلى الصين، وفي هذه البلاد الواسعة عادات وتقاليد مختلفة تجب مراعاتها، ما دامت لا تخالف نصوص الشريعة، فاختلفت الاجتهادات المبنية على الأعراف، بناء على اختلاف العادات والتقاليد.
ثانياً: ظهور المجتهدين الكبار ذوي الملكات الفقهية الراسخة، فعملوا على تنمية الفقه، وسد حاجات الدولة من التنظيمات والقوانين، وأنشأوا المدارس التي ضمت نوابغ الفقهاء.
ثالثاً: تدوين السُنة، فقد دُوِّنَت السنة، وعرف ما المقبول فيها من حيث الرواية والدراية وما المردود لوضعه أو ضعفه الشديد، فكان في ذلك تسهيل لعمل الفقهاء، وتوفير الجهد عليهم، فقد وجدوا السنة بين أيديهم، يصلون إليها دون كبير عناء، والسنة هي مادة الفقه ومصدره الثاني.
وفي هذه المرحلة أيضاً دُوِّن الفقه، وضُبطت قواعده، وجمعت أشتاته، وألفت الكتب في مسائله، وصار بناؤه شامخاً، وعلمه متميزاً عن غيره قائماً بنفسه.
ومن منتصف القرن الرابع، بدأ عصر التقليد، وهو العصر الذي شهد ركود الفقه، فقد جنح الفقهاء إلى التقليد، مع أن الأصل في الفقيه أن يكون مجتهداً مستقلاً، لا يتقيد بمذهب معين، وإنما يتقيد بنصوص الكتاب والسنة، وما يؤديه إليه اجتهاده المقبول، فهو يستنبط الأحكام الشرعية من مصدريها العظيمين الكتاب والسنة، وما يرشدان إليه من مصادر أخرى، إلا أنه في هذا الوقت ضعفت همم الفقهاء، واتهموا أنفسهم بالتقصير، والعجز عن اللحوق بالمجتهدين السابقين مع رسوخهم في الفقه، وتهيؤ أسبابه لديهم، ووجود مادته بين أيديهم من سنة ونحوها، مما يساعد على الوصول إليه بيسر وسهولة، وكان ذلك من أسباب شيوع التقليد بين الفقهاء إلا القليل النادر.
ونستطيع أن نلخص أسباب ذلك، في هذه المرحلة، فيما يلي:
أولاً: أن المذاهب الإسلامية دُوِّنَت تدويناً كاملاً، مع تهذيب مسائلها، وتبويب مسائلها الواقعية، مما جعل النفوس تستروح إلى هذه الثروة الفقهية، والاستغناء بها عن البحث والاستنباط.
ثانياً: ضعف الثقة بالنفس، والتهيب من الاجتهاد، فقد اتهم الفقهاء أنفسهم بالضعف والعجز والتقصير، وظنوا أنهم غير قادرين على تلقي الأحكام من منابعها الأصلية، وأن الخير لهم، واللائق بهم التقيُّد بمذهب معروف، والدوران في فلكه، والتفقه بأصوله، وعدم الخروج عنه.
وفي هذا العصر، دعا بعضهم إلى سد باب الاجتهاد، لأنه لما كثرت ادعاءات الاجتهاد ممن ليسوا أهله، وخشي الفقهاء من عبث هؤلاء الأدعياء وإفسادهم دين الناس، بالفتاوى الباطلة التي لا تقوم على علم أو فقه، أفتوا بسد باب الاجتهاد دفعاً لهذا الفساد، وحفظا لدين الناس. والحق أن الاجتهاد باق في حكم الشريعة، ولا يزول، إلا أن الاجتهاد لا بد له من توافر شروطه، فمن تتوافر فيه هذه الشروط فله أن يجتهد، ومن لم يحط بها علماً فحرام عليه الإفتاء في شرع الله بغير علم.
ومع ذلك فقد قام الفقهاء في عصر التقليد هذا بأعمال نافعة، منها:
1- تعليل الأحكام المنقولة عن أئمتهم، فليست كل الأحكام المنقولة عن الأئمة نُقِلَ تعليلها معها.
2- استخلاص قواعد الاستنباط من فروع المذهب، للتعرف على طرق الاجتهاد التي سلكها إمام المذهب.
3- الترجيح بين الأقوال المنقولة عن الإمام، فقد يكون الناقل لقوله ناقلاً قولاً رجع عنه، ولم يعلم برجوعه، وقد يكون بين القولين المختلفين فرق دقيق هو سبب اختلاف القولين، وقد يكون مأخذ أحد القولين قياساً والآخر استحساناً، فقام الفقهاء بترجيح هذه الأقوال في ضوء ما عرفوه من أصول المذهب وقواعده.
4- التفريع على القواعد والتخريج على الأقوال في مسائل جديدة أو قديمة رأوا فيها رأياً آخر يناسب العصر ويحقق المصالح ويراعي المقاصد ولا يخرج عن الإجماع.
5- تنظيم فقه المذهب، وذلك بتنظيم أحكامه، وإيضاح مجملها، وتقييد مطلقها، وشرح بعضها، والتعليق عليها، ودعمها بالأدلة، وذكر المسائل الخلافية مع المذاهب الأخرى، وتحرير أوجه الخلاف، وذكر الأدلة لدعم قول المذهب، وبيان رجحانه، ولا شك في أن هذه الأعمال خدمة كبيرة للفقه، وتوسيع له، وتوضيح لمبهمه.
وفي الوقت الحاضر، نشعر بتباشير نهضة فقهية، من مظاهرها: هذا الاهتمام الملحوظ بالفقه الإسلامي في أوساط التعليم الجامعي، ودراسة الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، وإظهار مزاياه وخصائصه وكثرة التأليف في مباحثه وظهور المبرزين فيه الجامعين بين الثقافة القانونية والشرعية، وظهور المجامع الفقهية والاجتهاد الجماعي، ونحن نأمل أن يزداد هذا الاهتمام بالشريعة الإسلامية وفقهها حتى تعود إلى مكانتها الأولى، وتسترد سيادتها القانونية وتمد هي والفقهُ الإسلامي الدولةَ بالتشريعات اللازمة في جميع شؤونها، كما كان الأمر في السابق، لكن بشرط أن يكون هذا الاهتمام في الجماعة العلمية ومن خلالها، حتى يظل اهتماماً رصيناً مبتعداً عن أهواء الجهلة وأطماع الحاقدين، والله -تعالى- ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.