إن بناء الحضارة عملية فكرية في مقامها الأول تبدأ فور إدراكنا محور هذه الحضارة حيث يجب أن تسير عملية البناء في فلك هذا المحور، فلا تشذ عنه ولا تتعارض معه، وتبدأ عملية البناء من تحديد القواعد وتنتهي عند تحقيق الغايات، فلكل حضارة قواعد أساسية يقوم عليها البناء وغايات عليا تسعى لتحقيقها، وهذه القواعد وتلك الغايات هما طرفا عملية البناء الدائرة حول المحور.
وإذا نظرنا لحضارة الإسلام وجدنا أن محورها كما بينَّا هو النص بشقيه القرآن والسنة، وتبدأ عملية بنائها الفكري بتحديد القواعد الكلية التي سيتم تنظيم الفكر وفقاً لها، ثم تحديد الغايات المقصودة من بناء هذه الحضارة، ثم نرسم خطاً مستقيماً بين القواعد والغايات وهو الخط الفكري للحضارة، ثم يبدأ بعد ذلك البناء المادي الذي يكون في حقيقته انعكاساً واقعياً لما تم بناؤه في الفكر، فمع تحديد القواعد يتكون عقل المسلم فيعرف كيف يفكر؟ وبم يفكر؟ وما القواعد الضابطة له في التفكير؟
وكيف يتعامل مع الأحكام ومع الشريعة، ومع الواقع، ومع الآخر، بل مع نفسه؟ ويتعلم كيف ينظم علاقته مع ربه، ومع الكون، ومع الإنسان، ويتعلم كيف يرى ماضيه، وحاضره، ومستقبله، فإذا أدرك كل هذا استطاع أن يبني حضارة تجوب الآفاق.
وأمهات القواعد في الفكر الإسلامي خمس، وهي التي يدور عليها معظم أحكام الشريعة الإسلامية، وقد نظمها بعضهم في قوله:
خمسٌ محرَّرة قواعد مذهب |
* |
للشافعي بها تكون خبيرا |
ضررٌ يُزَالُ وعادةٌ قد حُكِّمَتْ |
* |
وكذا المشقةُ تجلب التيسيرا |
والشك لا ترفع به متيقنا |
* |
والنية أخلص إن أردت أجورا |
وتفصيل هذه القواعد الكلية الخمس فيما يلي:
القاعدة الأولى: الضرر يزال:
وهذه القاعدة مسوقة لبيان وجوب إزالة الضرر إذا وقع، وأصل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (رواه أحمد وابن ماجة)، وتتعلق بهذه القاعدة قواعد فرعية مهمة تؤسس الفكر والحضارة معاً منها: الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصانها عنها، ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة، وجاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه، وغير ذلك، ومنها: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، ومن ثم فلا يأكل من الميتة إلا بقدر سد الرمق، ومنها: الضرر لا يزال بالضرر، ومنها: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، ومنها: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة، قدّم دفع المفسدة غالباً، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (رواه البخاري ومسلم).
القاعدة الثانية: العادة محكمة:
وأصل هذه القاعدة قوله تعالى: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف:١٩٩]، ويقول ابن مسعود، رضي الله عنه: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» وهو حديث حسن، وإن كان موقوفاً عليه فله حكم المرفوع، لأنه لا مدخل للرأي فيه، وفي السيرة النبوية عدة نماذج توضح لنا كيفية التعايش مع العادات المختلفة، فهناك النموذج المكي قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وهناك النموذج المكي بعد بعثته، وهناك نموذج الحبشة مع قوم يدينون بدين المسيحية، وهناك نموذج المدينة في عهدها الأول مع تعدد الديانات من يهودية ومسيحية وإسلام، وهناك أخيراً نموذج المدينة في عهدها الأخير قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وكيف انفتح المسلمون على الشعوب المختلفة فتعايشوا معها واندمجوا بها دون أن يفقدوا هويتهم.
القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير:
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: (يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) [البقرة:١٨٥]، وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:٧٨]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» (أخرجه مسلم)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في بيتي هذا: «اللّهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (أخرجه مسلم)، وعن أبى الدّرداء، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أُعْطِىَ حظّه من الرّفق فقد أعطى حظّه من الخير، ومن حرم حظّه من الرّفق حرم حظّه من الخير» (أخرجه الترمذي في سننه).
القاعدة الرابعة: اليقين لا يُزَالُ بالشك:
واليقين في الاصطلاح: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثابت عن دليل، أما الشك فهو التردد بين النقيضين، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر، ودليل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أَخَرَجَ منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (أخرجه مسلم)، وهوية الإسلام وأصوله من الأمور اليقينية فلاشك فيها، فعدد صلوات اليوم والليلة هي خمس، وعدد ركعات كل صلاة أمر متفق عليه، ومقدار الزكاة محدد ومعلوم، والصيام الواجب في شهر رمضان أمر ثابت، والحج إلى بيت الله الحرام في مكة وغير ذلك من ثوابت الدين أمور يقينية لم يشذ عنها عاقل عبر العصور، أما الخلاف في المسائل الفرعية فهو سعة ورحمة تؤكد عالمية الإسلام وشموليته.
القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها:
والأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (صحيح البخاري)، ويندرج تحت هذه القاعدة قضية كبيرة ومحورية في بناء الحضارة وهي قضية التغيّر والتغيير، فالفرق بينهما هو القصد والإرادة التي يلزم منهما وضع الخطة والتنفيذ.حيث إن التغيّر يحدث تلقائياً بتبدل الزمان وتغير الناس بالحياة والموت، وجريان الأحداث وتشابكها، أما التغيير فهو ينظر إلى الواقع ويرى فيه شيئاً لابد أن يتبدل، وهنا يظهر القصد والإرادة لذلك التبديل، ويسعى الإنسان لوضع خطة مناسبة ويقوم بتنفيذها حتى يتم مراده أو بعض مراده من هذا التغيير. وتحت عنوان التغيير يقع المصطلحان (الإصلاح والتجديد)، وهما ليسا ضدين لا يجتمعان، ولا يفرح أحدنا بل ينبغي ألا يصنف نفسه مع الإصلاح في مقابلة التجديد أو مع التجديد في مقابلة الإصلاح، أو أن نصنف الناس بأن هذا مصلح وهذا مجدد. لأن التغيير المنشود يحتاج إلى الإصلاح والتجديد معاً. وفي بعض الأحيان تختلف النسبة فنحتاج إلى الإصلاح بنسبة أكبر من التجديد أو العكس، أو نكون على حد سواء في الاحتياج إليهما معاً وبنسبة متساوية.