وصلا بما سبق من الحديث عن الجهاد كمفهوم شامل، نواصل ذكر المواضع التي تحدثت عن القتال في التوراة أو بمعنى أدق في العهد القديم.
(5) ففي سفر القضاء إصحاح أول عدد 8، 9 " وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل "
(6) وفي صموئيل الأول " وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا في أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف في الحقل نحو أربعة آلاف رجل " ([1])
(7) وفي التكوين إصحاح 34 : " فحدث في اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابني يعقوب شمعون ولاوي أخوي دينة أخذا كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه"
(8) أن الله قد أمر موسى عليه السلام أن يشن حربا على أقوام قد عبدوا غير الله سبحانه وتعالى " وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلا : كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفاعاتهم"([2])
هذه بعض من حروب بني إسرائيل التي سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم، فمفهوم الحرب والقتال، ليس مفهوما سيء السمعة من وجهة النظر التوراتية، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية، وهي كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة قد استل سيفه من غمده فلا يرجع([3]).
الحرب في العهد الجديد:
وكذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية، بل جاء نص واضح صريح، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التي تمثلت في النص الشهير " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر" ـ ألا أنها تشير إلى أن السيد المسيح عليه السلام قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك ؛ فجاء في الأنجيل على لسان السيد المسيح : " لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاما على الأرض، ما جئت لأرسي سلاما، بل سيفا، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته "([4])
مما سبق يتبين لنا واضحا وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت في الأمم جميعا، ولم نر في تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال ورأينا من استعراض الكتب المقدسة -التوراة والإنجيل- انه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.
لقد كان هذا القدر كافيا في أن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام لا مما به يشان، وأن ما هو جواب لهم في تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جوابا لنا في مشروعية ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.
الحرب عند العرب قبل الإسلام :
سجلت كتب التاريخ والأدب العربي ما اشتهر وعرف بأيام العرب، وهي عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التي نشبت بين العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذي يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التي تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التي خلفتها هذه الحروب)
قال العلامة محمد أمين البغدادي : " اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب في الجاهلية أكثر من أن تحصر ومنه عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضا منها على سبيل الإجمال"([5]).
وقد ذكرت كتب التواريخ أياما للعرب غير ذلك (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذي قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان ....... إلخ) والمتأمل في هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التي لا تتسم بالعقل كانت هي الوقود المحرك لهذه الحروب هذا فضلا عن تفاهة الأسباب التي قامت من اجلها هذه المجازر، والمدة الزمانية الطويلة التي استمرت في بعضها عشرات السنين والآثار الرهيبة التي خلفتها هذه الحروب، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التي قيلت في وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء .... إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب في نفوس الناس من اليأس والشؤم، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبي سلمى طرفا من ذلك في معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان :
تداركتما عبسا وذبيان بعدما ** تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهو يقول للساعين للسلام : أنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا، ودقوا بينهما عطر منشم، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل في التشآؤم، دليل على عظم اليأس الذي أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب.([6])
هذه إطلالة سريعة ومختصرة على الحروب وأسبابها لدى العرب قبل الإسلام والآن نشرع في الكلام على تشريع الجهاد في الإسلام ثم نتبع ذلك بتحليل موثق لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
الجهاد في شرعة الإسلام :
لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسس حكومته النبوية بها، بعد ثلاثة عشر عاما من الدعوة إلى الله وتحمل الأذى والعذاب في سبيل ذلك تخللتها ثلاث هجرات جماعية كبيرة -هاجت ثائرة قريش وحقدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحرزه من استقرار ونجاح لهذه الدولة الوليدة ـ دون ظلم أو استبداد أو سفك للدماء ـ ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم مقصودا بالقتل، إذ ليس معقولا أن تنام أعينهم على هذا التقدم والنمو، ومصالحهم قائمة على الزعامة الدينية في جزيرة العرب، وهذه الدولة الجديدة قائمة على أساس ديني ربما يكون سببا في زوال هذه الزعامة الدينية الوثنية الموروثة.
وإذا كان الإسلام دينا بلغت الميول السلمية فيه مداها في قوله تعالى " فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ " إلا إن الميول السلمية لا تتسع لمنع القائمين بهذا الدين الجديد من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم الذي أنزله الله للإنسانية كآفة، في عالم يضيع فيه الحق والعدل إن لم يكن لهما قوة تحميهما ، فكان لامناص من من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذي يشهره خصومهم في وجوههم، ولذلك كان التعبير بقوله تعالى : " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "
أقول كان التعبير بالإذن الذي يدل على المنع قبل نزول الاية يدل على طروء القتال في الإسلام وأنه ظل ممنوعا طيلة العهد المكي وبعضا من العهد المدني .
(هذا ولم يغفل الإسلام حتى في هذا الموطن ـ موطن الدفاع عن النفس والدين ـ أن ينصح لأتباعه بعدم العدوان ؛ لأن الموضوع حماية حق لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات الصدور، وهذا من مميزات الحكومة النبوية فإن القائم عليها من نبي يكون كالجراح يضع مشرطه حيث يوجد الداء لاستئصاله، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة، ومقصده استبقاء حياة المريض لا قتله، والعالم كله في نظر الحكومة النبوية شخص مريض تعمل لاستدامة وجوده سليما قويا .... إن طبيعة هذا العالم مبنية على التدافع والتغالب ليس فيما بين الناس فحسب، ولكن فيما بينهم وبين الوجود المحيط بهم، وبين كل فرد والعوامل المتسلطة عليه من نفسه ولا أظن أن قارئا من قرائنا يجهل الناموس الذي اكتشفه دارون وروسل ولاس ودعواه ناموس تنازع البقاء وبنوا عليه كل تطور أصاب الأنواع النباتية والحيوانية والإنسان أيضا)([7]).
" ألم تر كيف تصدى خصوم الدين النصراني للمسيح وما كان يدعو إلا للصلاح والسلام حتى إنهم استصدروا أمرا بصلبه فنجاه الله منهم، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون في الأرض لا تجمعهم جامعة، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الأمبراطور قسطنطين الذي أعمل السيف في الوثنيين من أعدائهم ....... أفيريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية في عالم مبني على سنن التدافع والتمنازع واستخدام القوة الحيوانية لطمس معالم الحق ودك صروح العدل "
" يقول المعترضون : وماذا أعددتم من حجة حين تجمع الأمم على إبطال الحروب وحسم منازعاتها عن طريق التحكيم، وهذا قرآنكم يدعوكم إلى الجهاد وحثكم على الاستبسال فيه ؟
نقول : أعددنا لهذا العهد قوله تعالى : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]
"هذه حكمة بالغة من القرآن، بل هذه معجزة من معجزاته الخالدة، وهي أدل دليل على أنه لم يشرع الحرب لذاتها ن ولكن لأنها من عوامل الاجتماع التي لابد منها ما دام الإنسان في عقليته ونفسيته المأثورتين عنه، غير أنه لم ينف أن يحدث تطور عالمي يتفق فيه على إبطال الحرب فصرح بهذا الحكم قبل حدوثه ليكون حجة لأهله من ناحية، وليدل على أنه لا يريد الحرب لذاتها من ناحية أخرى، ولو كان يريدها لذاتها لما نوه لهذا الحكم"([8]).
أما غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتنفها حقائق :
- أن مجموع تحركاته العسكرية نحو ثمانين غزوة وسارية وتجريدة وأن القتال الفعلي لم يحدث إلا في نحو سبع مرات فقط
- المحاربين كانوا كلهم من قبائل مضر أولاد عمه صلى الله عليه وسلم ولم يقاتل أحد من ربيعة ولا قحطان
- أن عدد القتلى من المسلمين في كل المعارك 139 ومن المشركين 112 ومجموعهم 251 وهو عدد القتلى من حوادث السيارات في مدينة متوسطة الحجم في عام واحد وبذلك يكون عدد القتلى في كل تحرك من تلك الثمانين 3.5 شخص وهذا أمر مضحك مع ما جبل عليه العرب من قوة الشكيمة والعناد في الحرب أن يكون ذلك سبب لدخولهم الإسلام وتغير دينهم.
- لقد انتشر الإسلام بعد ذلك بطريقة طبيعية لا دخل للسيف ولا القهر فيها وإنما إقامة العائلات بين المسلمين وغيرهم وعن طريق الهجرة المنتظمة من داخل الحجاز إلى أنحاء الأرض وهناك حقائق حول هذا الانتشار حيث يتبين أنه في المائة عام الأولى من الهجرة كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5% وفي العراق 3% وفي سورية 2% وفي مصر 2% وفي الأندلس أقل من 1%
أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:ـ
إيران سنة 185 هـ ـ العراق سنة 225 هـ ـ سورية 275 هـ ـ مصر 275 هـ ـ الأندلس سنة 295هـ
والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي :
بلاد فارس 235 هـ ـ والعراق 280 هـ ـ وسورية 330 هـ ـ ومصر 330هـ والأندلس 355 هـ
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي
بلاد فارس 280 هـ ـ والعراق 320 هـ ـ وسورية 385 هـ ـ ومصر 385 هـ والأندلس سنة 400 هـ.
- تميز هذا الانتشار أيضا بخصائص منها :
(أ) عدم إبادة الشعوب
(ب) معاملة العبيد معاملة راقية بعد تعليمهم وتدريبهم وتوليتهم الحكم في فترة اشتهرت في التاريخ الإسلامي بعصر المماليك.
(ج) الإبقاء على التعددية الدينية من يهود ونصارى ومجوس حيث نجد الهندوكية على ما هي عليه وأديان جنوب شرق آسيا كذلك
(د) إقرار الحرية الفكرية فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة
(هـ) ظل إقليم الحجاز مصدر الدعوة الإسلامية فقيرا حتى اكتشاف البترول في العصر الحديث.
إن هذه الحقائق ظلت باقية إلى يومنا هذا وعبر التاريخ وعلى العكس منها تعرض العالم الإسلامي للاستعمار ولإبادة الشعوب وتهجيرها ولمحاكم التفتيش والحروب الصليبية ولسرقة البشر من غرب إفريقيا وصناعة العبيد في أمريكا من ملف واسع كبير.
والغرض من ذكره المقارنة بين نقاء الإسلام والحروب عند غيرنا قديما وحديثا.
([1]) سفر صموئيل الأول الإصحاح الرابع
([2]) سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون
([4]) إنجيل متى الإصحاح العاشر آية 34 : 36
([6]) شرح المعلقات السبع للزوزني ص 83 ط مصطفى الحلبي.
([7]) السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة لمحمد فريد وجدي ص 163،164 بتصرف
([8]) السيرة النبوية لمحمد فريد وجدي 165، 166