حكم إضافة لقب عائلة كافل اليتيم إليه
المبــادئ
1- يجوز شرعًا لكافل الطفل اليتيم أو مجهول النسب أن يضيف لقب عائلة الكافل إلى اسم الطفل، أو يغير الاسم الأخير من اسم الطفل إلى اسم تلك العائلة بحيث يظهر مطلق الانتماء إليها.
2- الولاء جائز شرعًا.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 1345 لسنة 2006م المتضمن:
هل يجوز إضافة اللقب "عبد الحميد" وهو الاسم الرابع في اسمي لمكفولي/ إبراهيم كامل إبراهيم بركات، ليصير: إبراهيم كامل إبراهيم عبد الحميد؟
الجــــــــــواب
يجوز شرعًا لكافل الطفل اليتيم أو مجهول النسب أن يضيف لقب عائلة ذلك الكافل، سواء أكان رجلا أم امرأة إلى اسم الطفل أو تغيير الاسم الأخير من اسم الطفل إلى اسم تلك العائلة بحيث يظهر مطلق الانتماء إليها دون الإخلال أو التدليس بأنه ابنه أو ابنته من صلبه حتى لا يدخل في نطاق التبني المحرم شرعًا، بل إن تلك الإضافة ستكون مثل علقة الولاء التي كانت بين القبائل العربية قديمًا، والولاء جائز شرعًا ويحقق مصلحة الطفل في مراحله العمرية المختلفة مع الاحتفاظ بالأحكام الشرعية من حرمة التبني وما يترتب عليه من آثار شرعية.
وبناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز إضافة اسم "عبد الحميد" بدلا من اسم "بركات"، فيكون اسم الطفل "إبراهيم كامل إبراهيم عبد الحميد"، ولا يعد ذلك من التبني المنهي عنه شرعًا.
حكم ترك المبيت بمِنى لأهل الأعذار، والتوكيل في رمي الجمار
المبـــــــادئ
1- المحافظة على النفس من المقاصد المهمة للشريعة الإسلامية.
2- درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
3- يرى الجمهور أن المبيت بمنى واجب، إلا أنهم رخصو لِمَن كان له عذر شرعي بترك المبيت بمنى، ويجوز له أيضًا التوكيل في رمي الجمرات.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 1609 لسنة 2009م المتضمن:
ما حكم ترك المبيت بمِنى للضَعَفة والمرضى والنساء من الحجاج؟ وما حكم توكيل هؤلاء لغيرهم في الرمي عنهم؟
الجــــــــــواب
المحافظة على النفس من المقاصد المهمة للشريعة كما هو معلوم، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد فإن من المقرر في قواعد الفقه أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، وإذا كان هناك تعارض بين المصالح وُفِّق بينها، وإلا قدم أعلاها على حساب أدناها، ونفس المؤمن تتوق دائمًا إلى أداء فريضة الحج، إلا أن الله قد جعل ذلك لمن استطاع إليه سبيلا، كما جعل الإحصار عذرًا في ترك تكملة أداء (المناسك).
والمحافظة على أرواح الحجيج واجب شرعي، فعلى الجميع أن يعملوا على المحافظة عليها؛ لعظم حرمتها. وعن ابن عباس قال: «لَمَّا نَظَرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الكعبة قال: مَرحَبًا بكَ مِن بَيتٍ، ما أَعظَمَك وأَعظَمَ حُرمَتَك، ولَلمؤمنُ أَعظَمُ عندَ اللهِ حُرمةً منك» رواه البيهقي.
وفي هذه الأيام تزداد الحاجة إلى التيسير على الناس في فتاوى الحج وأحكامه، فإن من الحكمة مراعاة أحوال الناس في أدائهم لمناسك الحج، بحيث نجنب الحجيج ما قد يصيبهم من أمراض وأوبئة، حتى يعودوا إلى أهلهم سالمين غانمين إن شاء الله تعالى، خاصة في الأماكن التي يكثر فيها التجمع، والتي جعل الله فيها سعة لعباده، والمبيت بمنى ليالي التشريق مختلف فيه بين العلماء: فالجمهور من الشافعية والحنابلة والمالكية على أنه واجب، والحنفية على أنه سنة، ووافقهم في ذلك بعض أقوال في المذاهب الأربعة وإن كانت غير معتمدة عندهم.
قال الفقيه داماد الحنفي في "مجمع الأنهر" -1/ 282، ط: دار إحياء التراث العربي-: "يكره أن لا يبيت بمنى ليالي منى، ولو بات في غيره من غير عذر لا شيء عليه عندنا". اهـ.
وقال العلامة الميرغيناني الحنفي في "الهداية" -2/ 501- 502 مع العناية للبابرتي ط: دار الفكر-: "ويُكرَه أن لا يَبِيتَ بمنى لياليَ الرمي؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- بات بمنى، وعمر -رضي الله عنه- كان يُؤَدِّبُ على ترك المُقام بها، ولو بات في غيرها متعمدًا لا يلزمه شيء عندنا خلافًا للشافعي رحمه الله؛ لأنه وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه فلم يكن مِن أفعال الحج، فتركه لا يوجب الجابر". اهـ.
والقول بسنية المبيت في منى قول للإمام الشافعي، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" -8/ 222 مع المجموع ط: المنيرية في تعليله-: "لأنه مبيت فلم يجب، كالمبيت ليلةَ عرفة". اهـ.
ونقل العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" -4/ 60، ط: دار إحياء التراث العربي- قولا عن الإمام أحمد أيضًا أنه سنة. ويدل على القول بالسُّنِّيَّة ما رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- «أن العباس -رضي الله عنه- استأذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له». ولو كان المبيت واجبًا لما رُخِّص في تركه لأجل السقاية، فعلم أنه سُنَّة. راجع فتح القدير للمحقق الكمال بن الهُمَام 2/ 501، 502، ط: دار الفكر.
ومما يقوي القول بالسنية أيضًا أن يقال: إن المبيت ليس مقصودًا في نفسه، بل قد شُرِعَ لمعنى معقول، وهو الرفق بالحاج، بجعله أقرب لمكان الرمي في غده، فهو مشروع لغيره لا لذاته، وما كان كذلك فالشأن فيه ألا يكون واجبًا، وإذا أضفنا إلى ما سبق اعتبار ما يَعتَرِي الحجيجَ مِن تعب شديد وضيق مكان وخَوف مرض، كان القول بسنية المبيت بمنى وعدم وجوبه هو المختار للفتوى، وإذا قلنا بالسنية لا الوجوب فمَن ترك مبيت الأيام الثلاثة جميعًا فمِن العلماء مَن قال: إنه يسن له أن يجبره بدم ولا يجب، ومن ترك مبيت ليلة واحدة جبرها بالتصدق بمُدٍّ من طعام، وهذا هو ما يستتبع القول الآخر للإمام الشافعي بسنية المبيت بمنى.
قال الإمام النووي في "المجموع" -8/ 223-: "فإن قلنا: المبيت واجب كان الدم واجبًا، وإن قلنا سنة فسنة". اهـ.
وقال الحنفية والإمام أحمد في رواية: "إنه لا يلزم من ترك المبيت بمنى شيء. وقال الإمام أحمد: لا شيء عليه، وقد أساء". اهـ. المغني لابن قدامة 3/ 232.
وحتى على قول الجمهور إن المبيت بمنى واجب، فإنهم يرخصون لِمَن كان ذا عذر شرعي بترك المبيت ولا إثم عليه حينئذ ولا كراهة، ولا يلزمه شيء أيضًا، ولا شك أن الخوف من المرض من جملة الأعذار الشرعية المرعية. قال الإمام النووي في "منسكه" -ص399، 402، مع حاشية العلامة الهيتمي ط: دار الحديث ببيروت-: "أما من ترك مبيت مزدلفة أو منى لعذر فلا شيء عليه، والعذر أقسام:... الثالث: مَن له عذر بسبب آخر؛ كمن يخاف على نفسه أو مال معه، فالصحيح أنه يجوز لهم ترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب ولا شيء عليهم". اهـ.
وقال الشيخ الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" -2/ 266، ط: دار الكتب العلمية-: "ويُعذَر في ترك المبيت وعدم لزوم الدم خائفٌ على نفس أو مال أو فوت أمر يطلبه؛ كآبق أو ضياع مريض بترك تعهده لأنه ذو عذر فأشبه الرعاء وأهل السقاية، وله أن ينفر بعد الغروب كما يؤخذ من التشبيه بأهل السقاية". اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" -5/ 257-: "وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم، كالرعاء في ترك البيتوتة; لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رخَّص لهؤلاء تنبيهًا على غيرهم، أو نقول: نصَّ عليه لمعنًى وُجِد في غيرهم، فوجب إلحاقه بهم". اهـ.
وقد وردت الرخصة من الشارع لأهل الرعاء والسقاية في ترك المبيت في منى، فروى الإمام مالك في موطئه عن عاصِمِ بنِ عَدِيٍّ -رضي الله عنه-: «أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَرخَصَ لرِعاءِ الإبِلِ في البَيتُوتةِ خارِجِينَ عن مِنًى يَرمُون يومَ النَّحرِ ثُم يَرمُون الغَدَ ومِن بعدِ الغَدِ ليَومَين ثُم يَرمُون يومَ النَّفرِ».
وروى الشيخان عن ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- قال: «استأذَنَ العَبَّاسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ -رضي الله عنه- رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يَبِيتَ بمَكَّةَ ليالي مِنًى مِن أَجلِ سِقايَتِه، فأَذِنَ له». ولا ينبغي الوقوف على النص الوارد هنا، بل ينبغي اعتبار مراد الشارع منه، وإلا كان جمودًا محضًا.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" -3/ 579، ط: دار المعرفة-: "وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم؟ فقيل: يختص الحكم بالعباس، وهو جمود. وقيل: يدخل معه آله. وقيل: قومه، وهم بنو هاشم. وقيل: كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك. ثم قيل أيضًا يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم مَن عَمَّمه، وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين. وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟ محل احتمال، وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده بأهل السقاية". اهـ.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" -17/ 263، ط: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب-: "وروى عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إذا كان للرجل متاع بمكة فخشي عليه الضيعة إن بات بمنى، فلا بأس أن يبيت عنده بمكة، وهذه الرواية أشبه؛ لأنه خائف مضطر فرخص له". اهـ.
ومعلوم أن الالتزام بالمبيت وإلزام الحاج به مع أعمال الحج الأخرى يزيد من إجهاده وضعفه، ويجعل الجسم في أضعف حالاته، فإذا انضم إلى ذلك ما نزل بالناس في هذه الأيام على المستوى العالمي من انتشار للأوبئة والأمراض الفتاكة التي يسهل انتقالها عبر التجمعات البشرية المزدحمة، فإن جسم الإنسان يكون أكثر عرضة لالتقاط الأمراض والعدوى بها، ولا شك أن أشد الناس تضررًا بذلك وضعفًا على احتماله هم النساء والأطفال والمرضى والضعفاء، فناسب أن يأخذ هؤلاء حكم مَن رُخِّص لهم، خاصة أن المبيت ليس من أركان الحج عند جميع المذاهب المتبعة.
أما النيابة في رمي الجمار للضعفة والمرضى والنساء فهي جائزة، ودليل ذلك أنه تجوز الاستنابة في الحج، فالاستنابة في الرمي جائزة من باب أولى؛ لأن الحج رمي وزيادة، وهي رخصة لأهل الأعذار من المرضى ونحوهم ممن توجد فيه العلة، ولذا فقد ذكر كثير من الفقهاء أمورًا غير التي ورد بها النص إلحاقًا بهذه الفروع على الأصل، كمن خاف على نفسه أو ماله، أو كان يتعاهد مريضًا أو ما ينبغي تهيئته للحجيج، وكذا من خاف على ماله أو نفسه كما تقدم. قال الإمام النووي في "المجموع" -8/ 219، 220-: "قال الشافعي والأصحاب -رحمهم الله-: العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما يستنيب مَن يرمي عنه". اهـ.
وقال: "إذا كان الرجل مريضًا أو محبوسًا أو له عذر، جاز أن يستنيب من يرمي عنه". اهـ.
ولذلك كله فإنه يجوز للضعفاء والمرضى والنساء تركُ المبيت بمنى، كما يجوز لهم أيضًا التوكيل في رمي الجمرات، ولا حرج عليهم ولا يلزمهم بذلك جبران.
تحية العلم والوقوف للسلام الوطني
السؤال
نرجو بيان الحكم الشرعي في تحية العلم والوقوف للسلام الوطني؛ حيث يدعي بعض الناس أن ذلك محرم شرعًا؛ لما فيه من تعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، خاصة إذا كان جمادًا؛ لأنه حينئذ يكون شركًا أو ذريعة إلى الشرك، وكذلك هو من التشبه بالكفار في عاداتهم القبيحة، كما أنه يعتبر بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
الجواب
العلم له عدة معان في اللغة؛ منها: الفصل بين الأرضين، والشيء المنصوب في الطريق يهتدى به، والجبل، والرسم في الثوب، والراية [انظر: تاج العروس للزبيدي 33/ 131، 132، ط. دار الهداية]. والمراد منه هنا: هو خصوص الراية التي هي الآن رمز للوطن وعلامة للدولة.
واعتبار العلم رمزًا كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام لا سيما في الحروب، وقد تضمن الشعر الجاهلي ذكر الرايات والأعلام والألوية؛ من ذلك قول عنترة العبسي:
وترى بها الرايات تخفق والقنا |
|
وترى العجاج كمثل بحر مزبد |
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ الرايات والألوية والأعلام، وعقد عليه المحدثون أبوابًا في كتبهم؛ فقالوا: "باب في الرايات والألوية" [سنن أبي داود]، "باب ما جاء في الألوية" [سنن الترمذي]، "باب ما جاء في عقد الألوية والرايات" [سنن البيهقي]، ونحوه.
وروى الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض"، وروى أبو داود عن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم رضي الله عنه قال: "رأيت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفراء"، وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض، وروى أحمد وابن ماجه عن الحارث بن حسان البكري رضي الله عنه قال: "قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وبلال قائم بين يديه متقلد بالسيف، وإذا رايات سود، فسألت: ما هذه الرايات؟ فقالوا: عمرو بن العاص قدم من غزاة".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [6/ 127، ط. دار المعرفة]: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مغازيه يدفع إلى رأس كل قبيلة لواء يقاتلون تحته" اهـ.
وللدلالة الرمزية للأعلام والرايات فإنه قد جرت العادة بأن يعمد العدو إلى ضرب حامل الراية وإسقاطه قبل غيره؛ ليثبط من عزيمة الجيش؛ فمتى كان العلم مرفوعًا كان ذلك دالا على العزة والقوة والصمود، ومتى نكس وسقط كان ذلك دالا على الهزيمة والذل والانكسار، وفي المقابل كان يحرص حامله على إبقائه مرفوعًا، ولو بذل في سبيل ذلك نفسه وروحه، لا لخصوص تعظيم القماش، بل لما يرمز إليه.
وقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أخذ الراية زيد فأصيب -يعني: في غزوة مؤتة-، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب -وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتذرفان- ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له)).
وروى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام، ثم قال: ((يا أسماء، هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السلام، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا -قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث أو أربع- فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثًا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت))، فقالت أسماء: هنيئًا لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكن أخاف أن لا يصدق الناس، فاصعد المنبر فأخبر به، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((يا أيها الناس، إن جعفرًا مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه سلم علي)) ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين، فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جعفرًا رضي الله عنه لقيهم؛ فلذلك سمي الطيار في الجنة.
وتحية العلم بنحو الإشارة باليد بهيئة معينة، أو الهتاف بالدعاء عند رفعه بأن تحيا البلاد، هو من قبيل الحركة أو الكلام، وإلف ذلك وتكراره -كما هو الحاصل- يجعله من العادات؛ إذ العادة هي: اسم لتكرير الفعل والانفعال حتى يصير سهلا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: "العادة طبيعة ثانية" [المفردات للراغب الأصفهاني ص594، ط. دار القلم]. والأصل فيما كان كذلك الإباحة، ما لم يرد دليل على المنع؛ قال تعالى: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم﴾ [الأنعام: 119]، وروى الترمذي عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)).
ثم إن هذه الممارسات والأفعال هي مما ارتبط عند الناس بحب الأوطان، وتواضعوا على دلالتها على ذلك، فصارت بذلك وسيلة عامة للتعبير عن حب الأوطان وإظهار الانتماء وتأكيد الولاء، وقد تقرر في قواعد الشريعة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان حب الوطن من المطلوبات الشرعية كما هو متقرر في أدلة الشريعة فإن وسيلته الجائزة في أصلها تكون كذلك مشروعة مطلوبة، ويتأكد ذلك إذا كان عدم القيام أمارةً عند الناس على عدم الاحترام.
أما السلام الوطني فهو عبارة عن مقطوعة موسيقية ملحنة على نشيد البلد أو الوطن تكون رمزًا للبلد أو الوطن تعزف في الحفلات العسكرية وبعض المناسبات العامة.
والمختار أن الموسيقى من حيث هي لا حرمة في سماعها أو عزفها؛ فهي صوت؛ حسنه حسن وقبيحه قبيح، وما ورد في تحريمها: صحيحه غير صريح، وصريحه غير صحيح.
وعدم التحريم هو المنقول عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعين: خارجة بن زيد، وسعيد بن المسيب، وعطاء والشعبي، وأكثر فقهاء المدينة، وممن بعدهم: أبو محمد بن حزم، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ عبد الغني النابلسي، وغيرهم خلق كثيرون. ولما سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن الآلات كلها، قال: "مباح"، فقال الشيخ شرف الدين التلمساني: "يريد أنه لم يرد دليل صحيح من السنة على تحريمه"، فسمعه الشيخ عز الدين، فقال: "لا، أردت أن ذلك مباح". [نقلا من فرح الأسماع برخص السماع، لأبي المواهب الشاذلي ص12، ط. الهند].
وأفرد بالتصنيف في الكلام عن إباحتها جماعة؛ منهم: ابن حزم، وابن السمعاني، وابن القيسراني، والأدفوي، وأبو المواهب الشاذلي المالكي وغيرهم.
والسلام الوطني الشأن فيه هو الشأن في العلم؛ من حيث كون كل منهما رمزًا، والوقوف عند عزفه ليس المراد منه إلا إظهار الاحترام والتقدير والإكرام لما يمثله، وهو الوطن.
وحب الوطن أمر قد جبل عليه الإنسان؛ حتى قال بعض الفلاسفة: "فطرة الرجل معجونة بحب الوطن" [الحنين إلى الأوطان للجاحظ، ص10، ط. دار الكتاب العربي].
وقد روى البخاري عن حميد الطويل أنه سمع أنسًا رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته -أي: أسرع السير بها-، وإن كانت دابة حركها. قال البخاري: "زاد الحارث بن عمير عن حميد: (حركها من حبها)".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [3/ 621، ط. دار المعرفة]: "وفي الحديث دلالة...على مشروعية حب الوطن والحنين إليه" اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في شرحه [4/ 453، ط. مكتبة الرشد]: "قوله: (من حبها)؛ يعني: لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة" اهـ.
والتعبير عن هذا الحب الوارد في الحديث له دوال ومظاهر؛ منها ما يكون بالأقوال ومنها ما يكون بالأفعال، ومن ذلك قول قيس بن الملوح:
أمر على الديـــــــــار ديار ليلى |
|
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا |
وما حب الديار شغفن قلبي |
|
ولكن حب من سكن الديارا |
والأصل في ذلك كله الإباحة حتى يرد الدليل الناقل عنها، ومن جملة الأفعال المعبرة عن الحب القيام لرمز الوطن وعلامته وشعاره، وهو العلم أو السلام الوطني؛ فالمحب يتعلق ويعتني بكل ما له صلة بمحبوبه، ولا يذم من ذلك إلا ما ذمه الشرع بخصوصه.
أما دعوى أن ذلك محرم شرعًا؛ لما فيه من تعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، خاصة إذا كان جمادًا، فيجاب عنه بأن ذلك وإن كان فيه تعظيم، إلا أن القول بأن مطلق التعظيم لا يجوز للمخلوق هو قول باطل، بل الذي لا يجوز هو ما كان على وجه عبادة المعظم، كما كان يعظم أهل الجاهلية أوثانهم، فيعتقدون أنها آلهة وأنها تضر وتنفع من دون الله، وهذا هو الشرك. أما ما سوى ذلك مما يدل على الاحترام والتوقير والإجلال فهو جائز، إن كان المعظم مستحقا للتعظيم، ولو كان جمادًا؛ وقد روى البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال واصفًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له".
وروى أحمد والحاكم أن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد رأيت من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه -أي: العباس- أمرًا عجيبًا".
وروى البيهقي بسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: ((اللهم زد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة)).
وروى الدارمي عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: "كتاب ربي، كتاب ربي".
وقال الإمام مالك في الموطأ [1/ 265، ط. الإمارات]: ((ويقال: ومن تعظيم الله عز وجل تعظيم ذي الشيبة المسلم)).
وتفصيل ذلك: أن هناك فارقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا ما بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة المأمور بها شرعًا هي: التقرب إلى الله بكل ما شرعه، ويدخل فيها تعظيم ما عظمه سبحانه من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فيسعى المسلم مثلًا للصلاة في المسجد الحرام والدعاء عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والملتزم تعظيمًا لما عظمه الله سبحانه وتعالى من الأماكن، ويتحرى قيام ليلة القدر والدعاء في ساعة الإجابة يوم الجمعة وفي ثلث الليل الآخر تعظيمًا لما عظمه الله من الأزمنة، ويتقرب إلى الله تعالى بحب الأنبياء والصالحين تعظيمًا لمن عظمه الله من الأشخاص، ويتحرى الدعاء حال السفر وعند نزول الغيث وغير ذلك تعظيمًا لما عظمه الله من الأحوال.. وهكذا؛ أي أنها تعظيم بالله، والتعظيم بالله تعظيم لله كما قال تعالى: ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ [الحج: 32]، كما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طاعة لله تعالى الذي أرسله: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ [النساء: 80]، ومبايعته مبايعة لله تعالى: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾ [الفتح: 10].
أما "الشرك" فهو تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله؛ ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانًا وتوحيدًا وكان سجود المشركين للأوثان كفرًا وشركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لما كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيمًا لما عظمه الله كما أمر الله كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولما كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شركًا مذمومًا يستحق فاعله العقاب.
وعلى ذلك فهناك فرق كبير بين الوقوف تعبدًا للموقوف له وبين الوقوف احترامًا؛ فالأول ممنوع لغير الله تعالى، والثاني قد ورد في السنة الشريفة ما يشهد لجواز جنسه في حق المخلوقين؛ ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن سعد بن معاذ لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: ((قوموا إلى سيدكم)).
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" [4/ 219، ط. دار الكتب العلمية]: "يسن القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف أو نحو ذلك؛ إكرامًا لا رياء وتفخيمًا. قال في الروضة: وقد ثبت فيه أحاديث صحيحة" اهـ.
وقد نص العلماء على استحباب القيام للمصحف؛ قال الإمام النووي في كتابه: "التبيان في آداب حملة القرآن" [ص191، ط. دار ابن حزم]: "ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه؛ لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار، فالمصحف أولى" اهـ.
ونص العلماء على أن جريان العادة بكون الوقوف لبعضهم علامةً على الاحترام يجعل ترك الوقوف لما هو آكد احترامًا أقرب إلى الذم؛ فقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" [1/ 49، ط. دار الكتب العلمية]: "إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض، فقد يقال: لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين في ذلك ولا محمودين، بل هم إلى الذم أقرب؛ حيث يقوم بعضهم لبعض، ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام؛ حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره... وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذكر مقرر له، غير منكر له" اهـ.
والقيام للعلم أو عند سماع نشيد السلام الوطني له نظير في فعل المسلمين قديمًا، فقد نص بعض العلماء على أن من حسن الأدب ما اعتاده الناس من القيام عند سماع توقيعات الإمام، وأخذوا من ذلك أولوية القيام للمصحف، وأن ترك القيام احترامًا إنما كان في أول الأمر، فلما اعتاده الناس وصار تركه مشعرًا بالاستهانة انتقل من الجواز إلى الاستحباب؛ جاء في "غاية المنتهى" للشيخ مرعي الكرمي وشرحه "مطالب أولي النهى" للشيخ مصطفى الرحيباني من كتب السادة الحنابلة [1/ 157، 158، ط. المكتب الإسلامي]: "(و) يباح (القيام له -أي: المصحف-) قال الشيخ تقي الدين: إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض، فقيامهم لكتاب الله أحق. وفي الفروع والمبدع: يؤخذ من فعل أحمد الجواز؛ وذلك أنه ذكر عنده إبراهيم بن طهمان، وكان متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ. قال ابن عقيل: فأخذت من هذا حسن الأدب فيما يفعله الناس عند ذكر إمام العصر من النهوض لسماع توقيعاته. قال في الفروع: ومعلوم أن مسألتنا أولى، وذكر ابن الجوزي أن ترك القيام كان في الأول، ثم لما صار ترك القيام كالهوان بالشخص، استحب لمن يصلح له القيام" اهـ.
فليس القيام للمصحف أو للقادم ذي الشأن إلا لإظهار الاحترام والتوقير، وتعليلات العلماء ناطقة بهذا، فلا بأس إذن من القيام عند رفع العلم أو السلام الوطني؛ إذ العلة واحدة.
أما دعوى أنه من التشبه بالكفار في عاداتهم القبيحة، فلا نسلم أصلا أن ذلك من عادات الكفار المختصة بهم، بل تلك دعوى عارية عن الدليل، ولو صحت لقلنا: لم يصر ذلك مختصا بهم الآن، بل صار عادة دخلت بلاد المسلمين وتواطؤوا عليها حتى تنوسي أصلها، فصارت من باب: قاعدة: "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء" [المنثور للزركشي 3/ 375، ط. وزارة الأوقاف الكويتية].
ولو كان تشبهًا بهم، فمجرد التشبه لا يكون حرامًا إلا فيما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية، وقد وردت أدلة كثيرة على هذا؛ منها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتغيير الشيب؛ فقال فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود))، وكان عدد كبير من الصحابة لا يخضبون، ولم ينقل أن الخاضبين قد أنكروا عليهم بأنهم قد ارتكبوا محرمًا بتركهم الخضاب لما في ذلك من التشبه الممنوع.
وقد نقل الإمام الطبري في "تهذيب الآثار" [ص518، ط. دار المأمون للتراث] الإجماع على أن الأمر بتغيير الشيب والنهي عن المشابهة هنا للكراهة لا للتحريم.
ومنها: ما رواه أبو داود عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم))، ولم ينقل عن أحد من الفقهاء القول بوجوب الصلاة في النعال، بل اختلفوا هل هو مستحب أو مباح أو مكروه [فيض القدير 4/ 67، ط. المكتبة التجارية الكبرى].
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)).
والسحور مستحب، ونقل الإمام ابن المنذر الإجماع على ذلك في كتابه "الإجماع" [ص49، ط. دار المسلم].
ومنها: ما رواه ابن سعد في "الطبقات" [1/ 159، 160، ط. دار صادر] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: ((وأما أنت يا جعفر فشبيه خلقي وخلقي))، قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما هذا يا جعفر؟))، فقال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحدًا قام فحجل حوله.
وظاهر ذلك أن هذه كانت عادة نصارى الحبشة، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه لم ينكر على جعفر ما أخذه من نصارى الحبشة، فهذا نص صريح في أن المخالفة ليست واجبة.
ومنها: ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قد مرضت فاطمة رضي الله عنها مرضًا شديدًا، فقالت لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: ألا ترين إلى ما بلغت أحمل على السرير ظاهرًا؟ فقالت أسماء رضي الله عنها: ألا لعمري، ولكن أصنع لك نعشًا، كما رأيت يصنع بأرض الحبشة، قالت: فأرنيه. قال: فأرسلت أسماء إلى جرائد رطبة، فقطعت من الأسواف، وجعلت على السرير نعشًا، وهو أول ما كان النعش، فتبسمت فاطمة رضي الله عنها، وما رأيتها متبسمة بعد أبيها إلا يومئذ، ثم حملناها ودفناها ليلا. وهذا كان بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم ينقل إنكار أحدهم لصنيع فاطمة رضي الله عنها بأن في ذلك تشبهًا بنصارى الحبشة، فكان إجماعًا سكوتيا، وهو حجة.
قال في "جمع الجوامع" وشرحه للعلامة المحلي [2/ 221 -مع حاشية العطار-، ط. دار الكتب العلمية]: "(والصحيح) أنه -أي: الإجماع السكوتي- (حجة) مطلقًا" اهـ.
وممن أشار إلى أن التشبه بغير المسلمين لا يحرم بمجرده: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [10/ 98، ط. دار المعرفة] عند كلامه على الأسباب التي من أجلها حرم استعمال أواني الذهب والفضة؛ حيث قال: "وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم. وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله. ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك" اهـ.
وقال الإمام المواق المالكي في "سنن المهتدين في مقامات الدين" [ص249، ط. مؤسسة الشيخ مربيه ربه بالمغرب]: "ونص من أثق به من الأئمة أنه ليس كل ما فعلته العجم منهيا عن ملابسته، إلا إذا نهت الشريعة عنه ودلت القواعد على تركه... ويختص النهي بما يفعلونه على خلاف مقتضى شرعنا، وأما ما فعلوه على وفق الندب أو الإيجاب أو الإباحة في شرعنا، فلا نترك ذلك لأجل تعاطيهم إياه؛ لأن الشرع لا ينهى عن التشبه بمن يفعل ما أذن الله فيه؛ فقد حفر صلى الله عليه وآله وسلم الخندق على المدينة تشبهًا بالأعاجم، حتى تعجب الأحزاب منه، ثم علموا أنه بدلالة سلمان الفارسي عليه" اهـ.
ثم إننا لو سلمنا أن التشبه بغير المسلمين ممنوع في كل صوره، فإن مجرد حصول ما يشبه صنيع أهل الكتاب لا يسمى تشبهًا إلا إذا كان الفاعل قاصدًا لحصول الشبه؛ لأن التشبه: تفعل، وهذه المادة تدل على انعقاد النية والتوجه إلى قصد الفعل ومعاناته؛ قال الإمام السيوطي في "جمع الجوامع" وشرحه "همع الهوامع" في علوم العربية [3/ 305، ط. المكتبة التوفيقية]: "(وتفعل) وهو (لمطاوعة فعل) ككسرته فتكسر وعلمته فتعلم (والتكلف) كتحلم وتصبر وتشجع إذا تكلف الحلم والصبر والشجاعة وكان غير مطبوع عليها" اهـ.
ومن الأصول الشرعية اعتبار قصد المكلف، ويدل على ذلك أيضًا: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا، فقعدنا، فلما سلم قال: ((إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم؛ إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا)). و(كاد) تدل في الإثبات على انتفاء خبرها مع مقاربة وقوعه، وفعل فارس والروم وقع منهم فعلا، لكن الصحابة لما لم يقصدوا التشبه انتفى ذلك الوصف عنهم شرعًا. والمسلم الذي يحيي العلم أو يقوم للسلام الوطني الشأن فيه أنه لا يخطر بباله التشبه بغير المسلمين، فضلا عن قصده.
قال الإمام الطحطاوي في حاشيته على "مراقي الفلاح" [1/ 336، ط. دار الكتب العلمية]: "التشبه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء؛ فإننا نأكل كما يأكلون ونشرب كما يشربون، وإنما الحرام التشبه بهم فيما كان مذمومًا وما يقصد به التشبه، قاله قاضيخان في شرح الجامع الصغير" اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" [1/ 624، ط. دار الفكر] -معلقًا على قول صاحب "الدر المختار": "(التشبه بهم -أي: أهل الكتاب- لا يكره في كل شيء)- فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون... ويؤيده ما في الذخيرة قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا الحديد بأسًا؟ قال: لا. قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأن فيه تشبهًا بالرهبان. فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا يضر؛ فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع. اهـ وفيه إشارة أيضًا إلى أن المراد بالتشبه أصل الفعل: أي: صورة المشابهة بلا قصد" اهـ.
أما دعوى أن ذلك يعد بدعةً؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، فنقول: سلمنا ببدعية ذلك، ولكن لا يلزم من البدعية التحريم، لأن البدعة تطرأ عليها الأحكام الشرعية الخمسة، فالبدعة ليس مرادفة للمحرم، بل البدعة مقسم والمحرم قسم.
قال شيخ الإسلام الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه الفذ: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" [2/ 204، 205، ط. دار الكتب العلمية]: "البدعة: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وللبدع الواجبة أمثلة؛ أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك واجب؛ لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب... وللبدع المحرمة أمثلة؛ منها:... مذهب المجسمة، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة. وللبدع المندوبة أمثلة؛ منها:... صلاة التراويح... وللبدع المكروهة أمثلة؛ منها:... تزويق المصاحف. وللبدع المباحة أمثلة؛ منها: المصافحة عقيب الصبح والعصر" اهـ.
ولمسألتنا شبيه ونظير؛ وهو مسألة تقبيل الخبز على وجه إكرام النعمة، والجامع بين هذه وتلك: هو إرادة الإكرام في كل دون نظر إلى المكرم بالذات، بل لما يمثله، وقد سئل الجلال السيوطي عنه، وهل هو بدعة؟ فقال في "الحاوي للفتاوي" [1/ 221، ط. دار الفكر]: "أما كون تقبيل الخبز بدعة فصحيح، ولكن البدعة لا تنحصر في الحرام، بل تنقسم إلى الأحكام الخمسة، ولا شك أنه لا يمكن الحكم على هذا بالتحريم؛ لأنه لا دليل على تحريمه، ولا بالكراهة؛ لأن المكروه ما ورد فيه نهي خاص، ولم يرد في ذلك نهي. والذي يظهر أن هذا من البدع المباحة، فإن قصد بذلك إكرامه؛ لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن" اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين ذلك الحكم في حاشيته [6/ 384، ط. دار الكتب العلمية] عن الشافعية عمومًا، ثم قال: "وقواعدنا لا تأباه" اهـ.
فإذا تقرر مما سبق أن المسؤول عنه جائز شرعًا في أصله، وحقيقة الجائز: أنه مأذون في فعله أو تركه، ثم لما تواضع الناس وتعارفوا على كونه دالا على احترام الوطن وتعبيرًا عن الانتماء ووسيلة لإظهار ذلك في الشأن الوطني والعلاقات بين الدول، صار حكمه حكم مدلوله ومقصده، فإذا انضاف إلى ذلك أن تركه يشعر بالاستهانة أو قلة الاحترام ويفضي إلى الخصام والشحناء وشق الصف والتراشق بالتهم بين أبناء الوطن أو المواقف المضادة في العلاقات الدولية، فإنه يتعين حينئذ الإعراض عن تركه؛ اتقاءً لهذه المحاذير، وممن نص على هذا المعنى الإمام شهاب الدين القرافي في "الفروق" [4/ 430، ط. دار الكتب العلمية] نقلا عن شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ومقرا له؛ فقال: "حضرت يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام -وكان من أعيان العلماء، وأولي الجد في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصة وعامة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلا عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم- فقدمت إليه فتيا فيها: ما تقول أئمة الدين -وفقهم الله- في القيام الذي أحدثه أهل زماننا مع أنه لم يكن في السلف؛ هل يجوز، أم لا يجوز ويحرم؟ فكتب إليه في الفتيا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانًا))، وترك القيام في هذا الوقت يفضي للمقاطعة والمدابرة، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدًا" اهـ.
وعليه: فإن تحية العلم المعهودة أو الوقوف للسلام الوطني أمران جائزان لا كراهة فيهما ولا حرمة كما شغب به من لا علم له، فإذا كان ذلك في المحافل العامة التي يعد فيها القيام بذلك علامة على الاحترام وتركه مشعرًا بترك الاحترام: فإن الوقوف يتأكد؛ فيتعين فعله حينئذ؛ دفعًا لأسباب النفرة والشقاق، واستعمالا لحسن الأدب ومكارم الأخلاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم قول الزوج لامرأته: أنت طالئ
المبـــــــادئ
1- من المقرر شرعا أن الأصل في الأبضاع هو الاحتياط.
2- لفظ "طالئ" بدلا من "طالق" كما هو جارٍ على لسان كثير من أهل مصر: يُخرِج اللفظ مِن الصَّراحة إلى الكناية التي تحتاج إلى نية مقارنة للفظ يقع به الطلاق.
3- الطلاق الشرعي لا يقع إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه؛ كإشارة الأصم والكتابة، فلو نواه بقلبه مِن غير لفظ لم يقع.
4- إذا أُبدلت الطاء في لفظ الطلاق تاءً مثناة "أنت تالق" لم يقع الطلاق إلا بالنية.
5- العبرة في الطلاق بالألفاظ والمباني لا بالمقاصد والمعاني.
6- الفتوى بالأخف ليست بالضرورة من التساهل في الفتوى؛ لأن هذا الأخف قد يكون هو المترجِّح لدى المفتي، أو هو الأليق بحال المستفتي.
الســــــــــؤال
اطَّلعنا على الطلب المقيَّد برقم 604 لسنة 2010م المتضمن:
ما حكم قول الزوج لامرأته: "أنت طالئ" بالهمزة بدلا عن القاف، على ما جرت به عادة كثير من المصريين في نطقهم القاف همزة؟ هل هو من كنايات الطلاق التي لا يقع الطلاق بها إلا بنيته؟ بحيث إن من قالها بقصد إسكات زوجته حال المشادَّة -مثلًا- لا يقع طلاقه. وهل نُقِل هذا القول عن أحد من العلماء المتقدمين أو المتأخرين؟
كما أنه لا يوجد أحد ممن يتلفظ بلفظ: "طالئ" إلا ويعلم أنها تفيد الطلاق، وهذه قرينة على قصد إيقاع الطلاق، فكيف يكون كناية مع ذلك؟
ثم إنَّ اشتهار لفظٍ في الطلاق يجعله صريحًا، وقد اشتهر في أهل مصر وغيرهم هذا اللفظ في الطلاق، فلم لا يكون صريحًا مع ذلك؟ وعدم القول بصراحته يلزم منه أيضًا أن الطلاق بغير العربية كناية إذا وقع من غير الناطق بالعربية.
ومن المقرر أن الأصل في الأبضاع هو الاحتياط، ومقتضى هذه القاعدة: أن يحتاط المفتي في الطلاق ويفتي بوقوعه، فكيف يُفتَى بعدم الوقوع في هذه الحالة؟
وهل يُعَدُّ الإفتاء بذلك تساهلا في الدين وتلمسًا للأقوال الشاذة؟ ومعلوم نهي السلف عن تتبع الشذوذات والقول بها.
ومن المعروف في الفقه والفتوى أنه ليس كل تيسير على الناس يكون صحيحًا؛ بل لا بد أن يكون للتيسير حظ من النظر السليم والفقه الصحيح، بدليل أن هناك من الأقوال في باب الطلاق ما لا يُؤخذ به مع كونه أيسر على الناس. فهل هذه المسألة من هذا الباب؟
الجــــــــــواب
جاء الشرع الإسلامي بلغة العرب، فنزل القرآن الكريم بلغتهم، وتكلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بها، وقد تصرف الشرع في بعض الكلمات، فأخرجها من الحقيقة الموضوعة لها إلى تخصيص في الاستعمال كالحج والصوم والطلاق.
وورود هذا النوع من الكلمات التي خُصِّصَتْ في الإطلاق الشرعي في القرآن الكريم هو قرينة قوية على أن الشرع قد قصد لفظها بعينه؛ ولذلك اتفق الفقهاء على أن لفظ "الطلاق" هو الصريح في الطلاق، وزاد الشافعية في المشهور والحنابلة في قول لفظَيْ: "السراح" و"الفراق"؛ بناءً على أن هذه هي الألفاظ التي وردت في القرآن للدلالة على إنهاء عقد النكاح دون غيرها، وزاد بعضهم ألفاظًا أخرى.
وهذه الكلمات التي يقع بها الطلاق لها نطق يدل عليها في لغة العرب، فإذا نُطِقَتْ محرَّفةً: فإما أن تغير المعنى، وإما ألا تغير المعنى، لكنها على كل حال لم تَعُدْ عربية في الدلالة على معنى الطلاق.
وتحريف الكلمة قد يكون بحذف بعض حروفها، أو بإبدال حرفٍ منها بآخر بسبب تقارب مخرجيهما -كما بين الطاء والتاء مثلا-، بحيث يُخرِج التحريفُ الكلمةَ عن أصل وضعها اللغوي.
وقد يكون الإبدال مقبولا لغة إذا كان قد سُمِع مِن العرب، وقد يكون مردودًا، فيُعَدّ مجرد خطأ لُغَويّ، كما أن حذف بعض الحروف قد يكون صحيحًا لغة كما في ظاهرة الترخيم عند النداء؛ كما في قولنا: "يا عائش"، بدلا مِن "يا عائشة"، وقد يكون الحذف سببًا في عدم ترتب الآثار الشرعية على التصرف؛ كمن قرأ بعض كلمات الفاتحة في الصلاة ناقصة الأحرف.
والمقصود بتحريف كلمة الطلاق: حذف أو تغيير حرف أو أكثر مِن حروف لفظ الطلاق الصريح؛ بحيث يخرج اللفظ عن وضعه اللغوي؛ وذلك كنطقها: "تالق" أو "تالئ" أو "طال" أو "طاق" أو "طالِئ" بدلا مِن "طالق"، وهذه الأخيرة هي التي اشتهرت على ألسنة أهل مصر وغيرهم.
والمقرر أن الطلاق الشرعي لا يقع إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه؛ كإشارة الأصم والكتابة، فلو نواه بقلبه مِن غير لفظ لم يقع في قول عامَّة أهل العلم؛ لما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه -واللفظ لمسلم- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله تَجَاوزَ لأُمَّتِي عمَّا حدَّثَت به أنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّموا أو يَعْمَلوا بِه»، ومُجَرَّد النية يُعَدّ مِن حديث النَّفْس المُتَجاوَز عنه، ولأن الطلاق تَصَرُّفٌ يزيل الملك، والملك لا يزول بمجرد النية؛ كالبيع والهبة والعتق، ولأن الطلاق أحد طرفي النكاح، فلم يصح بمجرد النية كالعقد. (راجع: الحاوي الكبير للماوردي 10/ 149، ط. دار الكتب العلمية، والمغني لابن قدامة 7/ 294، ط. دار الفكر).
وهذه الألفاظ والأفعال المعبِّرة عن الطلاق لا تقع جميعًا في مرتبة واحدة مِن حيث حصول أثرها؛ وذلك لأن بعض الألفاظ تعد صريحة في حَلّ عقد الزواج، وبعضها مِن الكنايات، وبعضها ليس بصريح ولا كناية، فهو غير معتبر في الطلاق أصلا.
فما ليس بمعتبر في الطلاق هو: ما لا دلالة له على الطلاق، ولا دلالة فيه على إرادة الفِراق، ولا يحتمله إلا على تأويل متعسِّف، فهو لَغْوٌ، كقوله: "اقعدي" و"اقربي" و"اطعمي" و"أَسقيني" و"بارك الله فيك"، وما أشبه ذلك، فإنه لا أَثَر له، ولا يقع به الطلاق وإن نوى؛ لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق، فلو أوقعنا الطلاق: لكان واقعًا بمجرد النية، والطلاق لا يقع بمجرد النية كما سبق. (راجع: نهاية المطلب للجويني 14/ 65، ط. دار المنهاج، والمهذب للشيرازي 4/ 296، ط. دار القلم والدار الشامية).
وأما "الصريح" فالمراد به في باب الطلاق: ما لا يحتمل ظاهره غير الطلاق. (شرح البهجة الوردية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري 4/ 250، ط. الميمنية)، واللفظ الصريح محصور عند الشافعية في ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح، وما اشتق منها -على تفصيل سيأتي-؛ لأن الأول اشتهر في معناه لغة وشرعًا، والأخيرين قد وردا في القرآن بمعنى الطلاق؛ قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} [الأحزاب: 49]، وقال تعالى: {أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ} [الطلاق: 2]. (شرح المحلي على المنهاج 3/ 325-مع حاشيتي قليوبي وعميرة-، ط. دار إحياء الكتب العربية).
وصريح الطلاق لا يفتقر إلى نية لإيقاعه؛ لأنه لا يحتمل غيره، فلا يتوقف إيقاع الطلاق فيه على النية، فلو قال الزوج: "لم أنو بالصريح الطلاق" لم تُقبَل دعواه، ووقع الطلاق.
وأما "الكناية" فالمراد بها في باب الطلاق: ما احتَمل الطلاق وغيره، ووقوع الطلاق بها موقوف على النية، فإن نوى به الطلاق وقع، وإلا فلا.
قال الإمام الغزالي في "الوسيط" (5/ 376، ط. دار السلام): "حَدُّ الكناية ما يَحتَمل الطلاق ولو على بُعْد". اهـ.
ومِن أمثلة كنايات الطلاق: قوله: "أنت بَرِيّة"، و"أنت خَلِيّة"، و"الحقي بأهلك"، وغير ذلك مما ذكره الفقهاء وهو محتمل للطلاق وغيره.
وهذا الفرق بين الصريح والكناية هو ما جَرَت عليه الشريعة في عامة الأبواب، بأن ميزت بالنية بين المحتمل لعدة أمور، كما في التمييز بين العادات والعبادات فيما يحتملهما، والتمييز بين مراتب العبادات فيما يحتملها، فلا بد في كل ذلك مِن النية.
قال الإمام الزركشي في "المنثور" (2/ 310، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): "الصريح لا يَحتاج إلى نية, وقد استُشكل هذا بقولهم: يُشترَط قَصْدُ حروفِ الطلاقِ لمعنَى الطلاق، وعلى هذا: فلا فرق بين الصريح والكناية, وقد تكلَّموا في وجه الجمع بكلام كثير, وأقرب ما يقال فيه: إن معنى قولهم: "الصريح لا يحتاج إلى نية"، أي: نية الإيقاع; لأن اللفظ موضوعٌ له، فاستغنى عن النية. أما قصد اللفظ فيُشترَط؛ لتَخرُج مسألةُ سَبْق اللسان، ومِن هاهنا يفترق الصريحُ والكنايةُ؛ فالصريح يُشترَط فيه أمرٌ واحدٌ، وهو: قصد اللفظ, والكناية يُشترَط فيها أمران: قصد اللفظ، ونية الإيقاع". اهـ.
والمفهوم مِن كلام الإمام الزَّركشي أنه يشترط في كلٍّ مِن الصريح والكناية أن ينطق باللفظ مع قصد اللفظ لمعناه؛ بأن يكون مُستَعمِلا له في معناه، ويزاد على ذلك في الكناية قصد الإيقاع (مغني المحتاج 4/ 456- 457، ط. دار الكتب العلمية، وحاشية الشَّرواني على تحفة المحتاج 8/ 4، ط. المكتبة التجارية الكبرى).
وألفاظ الكناية كثيرة لا تنحصر، فالفقهاء في كلامهم على ألفاظ الطلاق لم يستوفوا كل الكنايات، بل عدَّدوا منها جملا، ثم أشاروا إلى ما لم يذكروه بضابط، وسكوت الفقهاء عن التعرض لبعض ألفاظ الكنايات بخصوصها إنما هو لكونها لم تقع في زمنهم، كما أنه ليس كل استعمال للألفاظ المشتقة مِن مادة (ط ل ق)، يكون صريحًا في الطلاق، بل منه ما يكون كناية رغم أنه مشتق منها، كما لو استعمل المصدر فقال لها: "أنت الطلاق" مثلا، ويُعَلَّل ذلك بأن المصادر غير موضوعة للأعيان وإنما تستعمل فيها توسعًا، وهو استعمال غير معتاد، وليس جاريًا على قياس اللسان، وكان كالمعدول عن الوضع والعرف، فصار كناية، بخلاف ما إذا وقعت مبتدآت أو مفعولات أو نحو ذلك، فإنها صرائح. ومثله: لو استعمل الفعل المحتمل للطلاق وغيره؛ نحو: "أطلقتك"، أو الصفة المحتملة كذلك؛ كـ: "أنت مُطْلَقة"؛ لاحتمالهما الطلاق وغيره، مع عدم اشتهارهما في معنى الطلاق. (راجع: الشرح الكبير للرافعي 8/ 509، ط. دار الكتب العلمية، ومغني المحتاج 4/ 457، 458).
والضابط في ذلك أن نقول: إن مأخذ الألفاظ الصريحة هو ورودها لغة أو شرعًا مؤديةً للمعنى الموضوع لها لا غير، ولا مدخل لغَلَبَة الاستعمال وشيوعه وحصول التفاهم في كون اللفظ صريحًا، وهذا ما نَصَّ عليه الإمام النووي في "المنهاج" (ص230، ط. دار الفكر) بقوله: "ولو اشتهر لفظ للطلاق؛ كالحلال أو حلال الله عليَّ حرام، فصريح في الأصح. قلت -يعني: النووي-: الأصح أنه كناية. والله أعلم". اهـ.
وعبارته في "الروضة" (8/ 25، 26، ط. دار عالم الكتب): "إذا اشتهر في الطلاق لفظ سوى الألفاظ الثلاثة الصريحة؛ كحلال الله عليّ حرام، أو أنت عليّ حرام... ففي التحاقه بالصريح أوجه، أصحها: نعم؛ لحصول التفاهم، وغلبة الاستعمال، وبهذا قطع البغوي، وعليه تنطبق فتاوى القَفَّال والقاضي حسين والمتأخرين. والثاني: لا، ورجَّحه المُتَوَلي. والثالث حكاه الإمام عن القَفَّال: أنه إن نوى شيئًا آخر مِن طعام أو غيره: فلا طلاق، وإذا ادعاه صُدِّق، وإن لم ينو شيئًا، فإن كان فقيهًا يعلم أن الكناية لا تعمل إلا بالنية، لم يقع، وإن كان عاميًّا، سألناه عما يفهم إذا سمعه مِن غيره، فإن قال: يسبق إلى فهمي منه الطلاق، حمل على ما يفهم، والذي حكاه الـمُتَوَلي عن القفَّال أنه إن نوى غير الزوجة فذاك، وإلا فيقع الطلاق؛ للعرف. قلت: الأرجح الذي قطع به العراقيون والمتقدمون أنه كناية مطلقًا -أي: بلا تفصيل بين العامي والفقيه- والله أعلم. وأما البلاد التي لا يشتهر فيها هذا اللفظ للطلاق، فهو كناية في حق أهلها بلا خلاف". اهـ.
قال الإمام السيوطي في "فتح المغالق من أنت تالق" -ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي" (1/ 205)، ط. دار الكتب العلمية-: "فانظر كيف صدر الفرع بضابط وهو: "أن يشتهر في الطلاق لفظٌ" ولم يخصه بلفظ دون لفظ، ولا يَظُنُّ أحدٌ اختصاصَه بلفظ "الحلالُ عليَّ حرامٌ" ونحوه، فإنما ذكر هذه على سبيل التمثيل". اهـ.
وقال العلامة شهاب الدين القَرافي المالكي في كتابه: "الفروق" (3/ 153، ط. عالم الكتب): "وضابطُ مشهورِ كلامِ الأصحاب: أن اللفظ إن دَلَّ بالوضع اللغوي فهو صريح، وهذا هو الطلاق; لأنه لإزالة مطلق القيد، يقال: لفظ مطلق، ووجه طلق، وحلال طلق، وانطلقت بطنه، وأطلق فلان مِن السجن... والكناية: ما ليس موضوعًا له لغة، لكن يحسن استعماله فيه مجازًا؛ لوجود العلاقة القريبة بينهما". اهـ.
ويظهر من كلام القرافي تعريف الصريح، وأن مداره على الوضع اللغوي، وأنه متى لم يكن اللفظ موضوعًا للمعنى: لم يكن مِن الصريح في شيء.
ويقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (7/ 300) في سياق حديثه عن الكنايات التي اشتهرت بين الناس في الطلاق: "ومفهوم كلام الخِرَقي: أنه لا يقع إلا بنية; لقوله: "وإذا أتى بصريح الطلاق وقع، نواه أو لم ينوه"؛ فمفهومه: أن غير الصريح لا يقع إلا بنية، ولأن هذا كناية, فلم يثبت حكمه بغير نية كسائر الكنايات". اهـ.
وقد سئل الإمام الرملي الكبير مِن الشافعية عن ألفاظ اشتهرت في الطلاق عند أهل "ضيار" ببلاد الهند وبلغتهم وليست ترجمة الطلاق فيها، بل هي ألفاظ اشتهرت على ألسنتهم عند التطليق, واشتهار هذه الألفاظ عندهم أكثر مِن اشتهار الطلاق في الطلاق، هل هي مِن ألفاظ الطلاق أو لا؟ وإذا قلتم: نعم، فهل هي كناية أو صريحة؟ وفي تطليق أهل هذه الديار بلفظ الطلاق مع عدم معرفتهم معناه وغاية معرفتهم أنه للفراق بين الزوج والزوجة، هل تطلق بذلك أو لا؟
فأجاب: بأن الألفاظ المذكورة ليست صريحة في الطلاق, ثم إن احتملت الطلاق فهي كناية فيه، وإلا فليس بكناية. ولفظ الطلاق مِن المذكورين صريح. (انظر: فتاوى الرملي 3/ 340، ط. المكتبة الإسلامية، وانظر: حاشيته على أسنى المطالب 3/ 270، ط. دار الكتاب الإسلامي).
وعلى ما ذُكِر: فكل صور التحريف والتبديل والحذف في لفظ الطلاق مِن كناياته التي تحتاج إلى تحقق قصد معنى الطلاق ووجود النية، ومِن ذلك: "أنت تالق"، أو "أنت دالق"، أو "أنت طالك"، أو "أنت طال"، أو "طال"، أو "أنت طاق"، أو "أنت تالك"، أو "أنت دالك"، أو "أنت طالئ"، فكل هذه الألفاظ مِن قبيل الكنايات لا مِن الصرائح.
قال الإمام السيوطي في "فتح المغالق" (1/ 207): "والحاصل: أن هنا ألفاظًا بعضها أقوى من بعض: فأقواها تالق، ثم دالق -وفي رتبتها طالك-، ثم تالك، ثم دالك وهي أبعدها، والظاهر القطع بأنها لا تكون كنايةً طلاق أصلا.
ثم رأيت المسألة منقولة في كتب الحنفية؛ قال صاحب "الخلاصة": وفي "الفتاوى": رجل قال لامرأته: أنت تالق، أو تالغ، أو طالغ، أو تالك، عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل: أنه يقع وإن تعمد وقصد أن لا يقع، ولا يصدق قضاء ويصدق ديانة، إلا إذا أشهد قبل أن يتلفظ وقال: إن امرأتي تطلب مني الطلاق ولا ينبغي لي أن أطلقها فأتلفظ بها قطعًا لعلتها، وتلفظ، وشهدوا بذلك عند الحاكم، لا يحكم بالطلاق. وكان في الابتداء يفرق بين الجاهل والعالم كما هو جواب شمس الأئمة الحلواني، ثم رجع إلى ما قلنا. وعليه الفتوى". اهـ.
ويدل على أن تحريف كلمة الطلاق على الوجه المذكور يخرجها من الصريح إلى الكناية جملة من الأدلة؛ منها ما يلي:
الدليل الأول: أن اللفظ الصريح إنما يؤخذ مِن ورود القرآن به، أو موافقته الوضع اللغوي، فإذا اشتهر عرفًا لفظٌ للطلاق ولم يَرِد به القرآن ولا ورد به عرف اللغة فإنه يخرج عن أن يكون صريحًا، ويصير كناية.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في أسنى المطالب (3/ 272): "الصريح إنما يؤخذ من القرآن" اهـ، ولعل سبب هذا ما فيه من معنى التعبد.
(راجع: نهاية المطلب للجويني 14/ 104 وما بعدها، والمنثور في القواعد للزَّركشي 2/ 306، 308، والأشباه والنظائر ص293، ط. دار الكتب العلمية، والحاوي للفتاوي للسيوطي 1/ 207، ط. دار الكتب العلمية، وحاشية الشَّبْرَامَلِّسي على نهاية المحتاج 6/ 429، ط. دار الفكر، وحاشية الشِّرْوَاني على تحفة المحتاج 8/ 4، والشرح الكبير للرافعي 8/ 527).
الدليل الثاني: وهو مبنيٌّ على معرفة أن الصريح والكناية يُفرَّق بينهما مِن وجهين:
أحدهما: أن الصريح لا يحتمل إلا معنى واحدًا، فحُمِل على موجبه مِن غير نية، والكناية تحتمل أكثر مِن معنى، فلم تنصرف إلى أحدهما إلا بنية؛ كالعبادات: ما كان منها لا يعقد إلا على وجه واحد -كإزالة النجاسة- لم يفتقر إلى نية، وما كان محتملا -كالصوم- لم يصح أن يكون عبادة إلا بالنية.
والثاني: أن الصريح حقيقة، والكناية مجاز، والحقائق يفهم مقصودها بغير قرينة، والمجاز لا يُفهَم مقصوده إلا بقرينة، فلذلك افتقرت الكناية إلى نية، ولم يفتقر الصريح إلى نية. (انظر: الحاوي الكبير للماوردي 10/ 166).
وتخريجًا على هذا يقال: متى تحقق الوجهان في اللفظ المحرَّف، خرج مِن باب الصريح، وصار كناية يحتاج إلى نية، وهذه الألفاظ السابقة قد حُذِفَ حَرفٌ مِن حروفها الأصلية أو أُبدِلَ بحرفٍ آخر، فخرجت عن انحصارها في معنى واحد، وصارت تحتمل أكثر مِن معنى، وخرجت عن أن تكون حقيقة؛ لأن الحقائق يفهم مقصودها بغير قرينة، وهذه التي دخلها الإبدال أو الحذف لا يفهم مقصودها إلا بقرينةِ ملاحظة المحذوف أو المُبدَل. فقرينة الإبدال في هذه الألفاظ موجودة ومتحققة، وهي التي بسببها انصرف اللفظ مِن كونه صريحًا إلى كونه كناية؛ فإن الصريح لا يحتاج في فهم معناه إلى قرينة، ولفظ "طالئ" ونحوه لا يفهم المقصود منه إلا بملاحظة قرينة الإبدال، ولو سمعه العالم بلسان العرب دون أن يعرف ما استجد عند العامة مِن هذا الإبدال لتوقف في فهم المراد، ولم يحمله على شيء، ولو وُقِّف على هذه العادة بالإبدال لحمله بالقرينة، ومتى احتاج فهم معنى اللفظ إلى قرينة صار كناية، ومتى صار كناية احتاج إلى نية.
الدليل الثالث: سبق أن الشافعية يعلِّلون كون قوله: "أنت طلاق"، وقوله: "أنت الطلاق" كناية في الأصح بأنه كالمعدول عن الوضع، وهذه العلة موجودة في الكلمات المحرَّفة كـ "طالئ" ونحوها؛ فإنها معدول بها عن الوضع، وهذا العدول هو العلة الأساسية في إخراجها مِن باب الصريح إلى الكناية. (انظر: الشرح الكبير للرافعي 8/ 509).
الدليل الرابع: أن ثبوت الحُكم يقتضي ثبوت الاسم، وانتفاء الاسم يقتضي انتفاء الحكم (انظر: الحاوي للماوردي 10/ 158)، ومقتضى هذه القاعدة أن ثبوت حكم الطلاق يقتضي ثبوت اسم الطلاق، وانتفاء اسم الطلاق في صورة: "تالق، وطالئ" ونحوهما يقتضي انتفاء حكم الطلاق، فيصير بناء على هذه القاعدة لغوًا لا حكم له، لكن لما اشتهر استعماله عرفًا خرج عن أن يكون لغوًا، ولم يلتحق بأن يكون صريحًا؛ لعدم وروده في القرآن أو كونه موافقًا للوضع اللغوي، فلم يبق إلا أن يكون كناية يحتاج إلى نية.
الدليل الخامس: تَقَدَّم أنه ليس كل استعمال للألفاظ المشتقة مِن مادة (ط ل ق) يصير صريحًا في الطلاق، بل منه ما يكون كناية رغم أنه مشتق مِن مادة (ط ل ق)، كما لو استعمل المصدر فقال لها: "أنت الطلاق"، أو الفعل نحو: "أطلقتك"، أو الصفة نحو: "أنت مُطْلَقة"، فإذا كان الأمر كذلك: فإبدال حرف أو أكثر مِن مادة (ط ل ق) أولى بالنزول عن رتبة الصريحية إلى الكناية، بل ربما خرج عن باب الطلاق أصلا، ولم يدل عليه لا صراحة ولا كناية.
الدليل السادس: أن الكلمة الواردة في اللغة لها نطقٌ يدل عليها، فإذا نُطقت محرَّفة؛ فإن تغيَّر المعنى دلَّت على المعنى الجديد دون القديم المحرَّف عنه، وذلك كنطق الضاد ظاءً مُشَالَة، ونطق القاف همزة، ولذلك نصَّ الشافعية على أن مَن قرأ الفاتحة في الصلاة وقال: "ولا الظالين" بدلا مِن: {وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 7]، أو "المستئيم" بدلًا مِن: {ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، لم تصح منه هذه الكلمات؛ وبالتالي الفاتحة، وبطلت صلاته إن كان عامدًا عالمًا بالبطلان. وإن لم يتغيَّر المعنى بالتحريف، فلا أثر لهذا التحريف، ولذلك نَصُّوا على صحة صلاة مَن قرأ بالواو بدل الياء مِن {ٱلۡعَٰلَمِينَ} في الفاتحة. (راجع: حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي لمتن أبي شجاع 1/ 155، ط. عيسى الحلبي، وحاشية الرملي على أسنى المطالب 1/ 151، وحاشية البجيرمي على الإقناع 2/ 25، دار الفكر).
أما إذا حُرِّفت ولم تدل على أي معنًى، فإنها تصير كاللفظ المهمل لا المستعمَل؛ لأن الكلام العربي المستعمَل هو ما وضعته العرب ليدل على معنى معيَّن، وله قوانين لا يجوز تغييرها، ومتى غُيِّر ولم يدل على معنًى حُكِم عليه بأنه ليس بعربي، فصار مهملا، وقد اتفقوا على أن المهمل لم تضعه العرب قطعًا (انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار ص35، ط. مطبعة السنة المحمدية)، ومِن ثمَّ فإذا حُرِّفت الكلمة وخرجت عن نطاق الوضع العربي -كما في "تالق، وطالئ" ونحوهما- لم يَجْرِ عليها ما يجري على لفظ الطلاق الصريح وهو لفظ "طالق" ونحوه؛ لمخالفتها قوانين الكلام العربي، ولكونها لم توضع مِن العرب أصالة للدلالة على معنى الطلاق، فإنه إنما يُستدل على صريحية الكلمة في الطلاق بورودها شرعًا أو لغة مؤدية للمعنى الموضوع لها لا غير، فإذا لم تكن كذلك فقد دخل دلالتَها مِن الاحتمال ما يُخرجها عن الصريح إلى الكناية.
فإذا أُبدلت الطاء في لفظ الطلاق تاءً مثناة فقال الزوج: "أنت تالق"، لم يقع الطلاق إلا بالنية، قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 280، ط. دار الفكر): "ولو أتى بالتاء المثناة من فوق بدل الطاء كأن يقول: "أنت تالق" كانت كناية كما أفاده شيخي -يعني: الشهاب الرملي- قال: سواء كانت لغتُه كذلك أم لا". اهـ.
وقال العلامة القليوبي في حاشيته على شرح "المنهاج" (3/ 325، ط. دار الفكر): "وإبدال الطاء مثناةً كنايةٌ على المعتمد ولو لمن هي لغته". اهـ.
وقد صنف الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي رسالته المشهورة "فتح المغالق من أنت تالق" -وهي مطبوعة ضمن كتابه "الحاوي للفتاوي"- ليثبت أن تغيير الطاء في كلمة الطلاق إلى تاء يخرجها من حد الصريح إلى الكناية، وأن ذلك هو مذهب الشافعية.
ومعلوم أن التاء والطاء مشتركان في المخرج وبعض الصفات؛ قال الشيخ محمد مكي نصر في "نهاية القول المفيد" (ص: 89، ط. مكتبة الصفا) في الفصل الثالث في بيان الفرق بين الحروف المشتركة في المخرج والصفة: "والطاء والدال المهملتان والتاء المثناة الفوقية اشتركت في المخرج والشدة وانفردت الطاء بالإطباق والاستعلاء والتفخيم؛ فلولا هذه الثلاثة لكانت دالا، ولولا أضدادها في التاء لكانت طاء، ولو أُعْطِيَت الطاء همسًا مع بقاء الإطباق والاستعلاء والتفخيم لا تصير حرفًا معتدًّا به بل هو لحن، وتنفرد الدال عن التاء بالجهر فقط؛ فلولا الجهر لكانت تاء، ولولا الهمس في التاء لكانت دالا، فالطاء أقرب إلى الدال منها إلى التاء بدون العكس؛ لأن الدال أقرب إلى التاء وبالعكس". اهـ.
ومعلوم أيضًا أن القاف لهوية وأن الهمزة من حروف الحلق؛ فالقاف تخرج من المخرج الخامس ما بين أقصى اللسان يعني أبعده مما يلي الحلق وما يحاذيه من الحنك الأعلى، أما الهمزة فمخرجها المخرج الثاني وهو أقصى الحلق (راجع: نهاية القول المفيد ص54- 55).
وعليه فإذا كانت "تالق" تُخرج الكلمة من نطاق الصريح الذي ورد في اللغة العربية أو جاء في القرآن الكريم -وهما ما يستدل به على الصريحية كما سبق ذكره- فمن باب أولى أن كلمة "طالِئ" بالهمزة تُخرج الكلمة من الصريح إلى الكناية كذلك، وسبب الأولوية: أن التاء والطاء مشتركان في المخرج وبعض الصفات، وأن الهمزة والقاف مختلفان في المخرج، وهو حـق الحرف، فكان ذلك اللفظ –أعني ما بالهمزة– أولى في خروجه عن الصريح من "تالق".
الدليل السابع: أننا نقول: إن اللغات توقيفية، وواضعها هو الله سبحانه وتعالى، كما هو الراجح عند أهل أصول اللغة وأصول الفقه (راجع: المزهر للسيوطي 1/ 12 وما بعدها، ط. دار الكتب العلمية، وشرح الأصفهاني على مختصر ابن الحاجب 1/ 150، ط. جامعة أم القرى، والإحكام للآمدي 1/ 101- 107، ط. دار الصميعي)، وما دامت ألفاظ الطلاق المحرَّفة لم توضع لصريح الطلاق فإنها تكون مِن الكنايات التي يُحتاج في إيقاعها إلى النية.
قال الإمام الإسنوي في "التمهيد" (ص137- 139، ط. مؤسسة الرسالة): "ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أن اللغات توقيفية، ومعناه أن الله تعالى وضعها ووقَّفنا عليها، أي: أعلمنا بها، واختاره ابنُ الحاجب وصاحبُ المحصول في الكلام على القياس في اللغات. وقال الآمدي: إنه الحق، وذهب أبو هاشم إلى أنها اصطلاحية. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: الألفاظ التي يقع بها التنبيه إلى الاصطلاح توقيفية والباقي محتمل. وفي المحصول قول رابع: أن ابتداء اللغات اصطلاحي والباقي محتمل. وتوقَّف القاضي أبو بكر في المسألة، ونقله في المحصول عن جمهور المحققين. وذهب عبَّاد بن سليمان وطائفة إلى أن الألفاظ لا تحتاج إلى وضع، بل تدل بذاتها؛ لما بينها وبين معانيها مِن المناسبة، كذا نقله في المحصول. ومقتضى كلام الآمدي في النقل عنه أن المناسبة مشروطة لكن لا بد مِن الوضع. إذا علمت ذلك فمن فروع المسألة: إذا قال لزوجته: "أنت عليَّ حرام"، أو قال: "حلال الله عليَّ حرام"، أو "الحرام يلزمني"، ونحو ذلك، فهل هو صريح أو كناية؟ فيه وجهان: صحَّح الرافعي الأول، والنووي الثاني، فإن قلنا: اللغات اصطلاحية: كفى اشتهارُها في العرف والاستعمال العام عن النية، فتكون صريحة، وهو ما صحَّحه الرافعي. وإن قلنا: إنها توقيفية، فلا تخرج عن وضعها، بل تُستعمَل في غيره على سبيل التجوز، فإن نوى وقع، وإلا فلا، وهو الصحيح عند النووي". اهـ.
الدليل الثامن: أن العبرة في باب الطلاق بالألفاظ والمباني لا بالمقاصد والمعاني، وهذا يظهر مِن اختيار فقهاء الشافعية لألفاظ الطلاق الصريحة، فأثبتوا لفظ "الطلاق" بلا خلاف، و"الفراق" و"السراح" على خلاف فيه، واختلفوا في وقوعه فيهما بالاسم؛ لأن النص ورد فيهما بالفعل؛ يقول الجلال المحلي في شرحه للمنهاج (3/ 325): "ويقع" الطلاق "بصريحه بلا نية وبكناية بنية"، والكناية ما تحتمل معنى الصريح وغيره، "فصريحه: الطلاق" لاشتهاره فيه لغة وشرعًا، "وكذا الفراق والسراح على المشهور" لورودهما في القرآن بمعناه؛ قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} [الأحزاب: 49]، وقال: {أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ} [الطلاق: 2]، والثاني: أنهما كنايتان؛ لأنهما لم يشتهرا اشتهار الطلاق، ويستعملان فيه وفي غيره، ومثال لفظ الطلاق: "كطلقتك، وأنت طالق، ومُطَلّقة" بفتح الطاء "ويا طالق، لا أنت طلاق، والطلاق في الأصح"؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعًا، فيكونان كنايتين. والثاني: أنهما صريحان؛ كقوله: يا طالق، ويُقاس بما ذُكر: فارقتك، وسرحتك، فهما صريحان، وأنت مفارقة ومسرحة ويا مفارقة ويا مسرحة، فهي صريحة، وقيل: كناية؛ لأن الوارد في القرآن مِن اللفظين الفعل دون الاسم، بخلاف الطلاق، قال تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ} [البقرة: 228]، وأنت فراق والفراق وسراح والسراح؛ فهي كنايات في الأصح". اهـ.
ففي هذا إشارة إلى أن العبرة في هذا الباب بالألفاظ والمباني لا بالمقاصد والمعاني. وقد صرح غير واحد منهم أن الطلاق محمول على اللغة، بخلاف الأيمان؛ فمحمولة على العرف. (انظر: حاشية البيجوري الفقهية 2/ 405، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5/ 309، ط. دار الفكر، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 4/ 328، ط. دار الفكر العربي).
وكما أن مدار انعقاد النكاح على الألفاظ فالعبرة في حل قيده أيضًا تكون بالألفاظ، ولما كان قول القائل لزوجته: "أنت طالق" مما يُحَلُّ به عقد النكاح، كان الاعتماد في إمضاء هذا الحل على اللفظ لا على المعنى، وتحريفُ اللفظِ للفظٍ آخر لا تعرفه العربية إخراجٌ له عن أصله، ومِن ثَم لا يُعتمَد حل العقد به إلا إذا نوى به طلاقًا، فتكون نيته قرينة على إرادته حل العقد؛ إذ العبرة بالألفاظ الموضوعة في العربية، ولفظة "طالئ" ليست موضوعة في العربية للدلالة على حل العقد صراحة، وإنما تحتاج إلى اقتران نية المُطَلِّق معها للقول بوقوع الطلاق.
وقد ذكر الإمام السيوطي في شرحه لهذه القاعدة في "الأشباه والنظائر" (ص166) فروعًا متعددة: منها: "لو قال: أسلمتُ إليك هذا الثوب في هذا العبد. فليس بسَلَم قطعًا, ولا ينعقد بيعًا على الأظهر؛ لاختلال اللفظ. والثاني: نعم؛ نظرًا إلى المعنى". اهـ.
وفي هذا الفرع نرى أنه قد نطق بلفظ السلم صحيحًا مِن حيث اللغة، ولكنه أخطأ مِن حيث الشرع؛ لأنه أراد غير معناه الذي وضع له في الحقيقة الشرعية، فلم يعتبروا ما يؤدي إليه معنى اللفظ باتفاق، ثم اختلفوا في اعتبار المعنى: هل يصير بيعًا أم لا؟ فأشبه هذا ما لو نطق بلفظ الطلاق محرَّفًا على غير ما وضع له في اللغة كقوله: "أنت طالئ"، فمِن باب أولى ألا نقطع بدلالة هذا اللفظ على الطلاق شرعًا إلا بقرينة، وذلك لا يُعرَف إلا بسؤال المتلفظ به عن نيته.
وبعد بيان الأدلة على دعوانا، فإنه ينبغي التنبيه على أمرين:
الأول: في موضع النية من التلفظ بالكناية؛ فإنها تكون مقترنة باللفظ الكنائي، فإن تَلَفَّظَ بالكناية من غير نية ثم نوى بها بعد ذلك لم يقع بها طلاق.
قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (6/ 32): "فصل: الكناية لا تعمل بنفسها، بل لا بد فيها من نية الطلاق، وتقترن النية باللفظ، فلو تقدمت ثم تلفظ بلا نية، أو فرغ من اللفظ ثم نوى، لم تطلق". اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (7/ 306): "فصل: فأما غير الصريح; فلا يقع الطلاق به إلا بنية, أو دلالة حال... ولنا: أن هذه كناية لم تعرف بإرادة الطلاق بها, ولا اختصت به, فلم يقع الطلاق بها بمجرد اللفظ, كسائر الكنايات, وإذا ثبت اعتبار النية, فإنها تعتبر مقارنة للفظ, فإن وجدت في ابتدائه, وعَرِيَتْ عنه في سائره, وقع الطلاق... ولنا: أن ما تعتبر له النية يكتفي فيه بوجودها في أوله؛ كالصلاة وسائر العبادات, فأما إن تلفظ بالكناية غير ناوٍ, ثم نوى بها بعد ذلك, لم يقع بها الطلاق, وكما لو نوى الطهارة بالغسل بعد فراغه منه". اهـ.
الثاني: أن ما قررناه من أن تحريف كلمة الطلاق يجعلها كناية، لا يتناول ما إذا نطق القاف في كلمة الطلاق قافًا معقودة، كما عليه أهل صعيد مصر وغيرهم.
والقاف المعقودة: هي التي ليست بقاف خالصة ولا بكاف خالصة، بل هي متوسطة في النطق بين القاف والكاف، وهي الجيم المصرية، مثاله: أن تُنطَق كلمة: معقول: معجول.
ونُطْقُ القاف الخالصة قافًا معقودة عربي خالص، وهو لغة بني تميم؛ قال الإمام اللُّغَوي أبو الحسين أحمد بن فارس القزويني في كتابه: "الصاحبي في فقه اللغة" (ص25، ط. المكتبة السلفية): "فأما بنو تميم: فإنهم يُلحِقون القاف باللَّهاة حتى تَغْلظ جدا؛ فيقولون: "القوم"، فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر:
ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت |
|
ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفولُ |
...". اهـ.
وقد نَصَّ علماء الشافعية على صحة الفاتحة إذا قرأ: {ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} فيها بالقاف المعقودة؛ بناء على أنها عربية صحيحة؛ قال الإمام جمال الدين الإسنوي في "الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية" (ص480، 481، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية): "مسألة: إبدال الهاء من الحاء لغة قليلة، وكذلك إبدال الكاف من القاف... أما الثاني -أي: إبدال الكاف من القاف-: فمن فروعه: إذا قرأ: {ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} بالقاف المعقودة المشبهة للكاف، وهي قاف العرب، أي: التي ينطقون بها، فإنها تصح أيضًا كما ذكره الشيخ نصر المقدسي في كتابه المسمى بالمقصود والروياني في الحلية وجزم به ابن الرفعة في الكفاية ونقله النووي في شرح المهذب عن الروياني ثم قال: وفيه نظر. ومال المحب الطبري في شرح التنبيه إلى البطلان، لكن اللحن الذي في الفاتحة لا يمنع الصحة إذا كان لا يختل المعنى كما جزم به الرافعي وإن كان حرامًا كما قاله النووي في شرح المهذب، وحكى فيه وجهًا أن الصلاة لا تصح أيضًا، وحينئذ فالصحة في أمثال هذه الأمور لأجل وروده في اللغة". اهـ.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح المنهج" (1/ 346، ط. دار الفكر، مع حاشية الجمل): "ويجب رعاية حروفها -أي: الفاتحة-" فلو أتى قادر أو من أمكنه التعليم بدل حرف منها بآخر لم تصح قراءته لتلك الكلمة؛ لتغييره النظم، ولو نطق بقاف العرب المترددة بين القاف والكاف صحت، كما جزم به الروياني وغيره". اهـ.
قال العلامة الجمل في حاشيته عليه (1/ 346): "المراد بالعرب: أجلافهم, وأما الفصحاء منهم فلا ينطقون بذلك...، وقوله: "صحت" أي: ولو كان قادرًا على القاف الخالصة، ووجه الصحة حينئذ: أن ذلك ليس بإبدال حرف، بل هي قاف غير خالصة". اهـ.
وقال العلامة الرملي في نهاية المحتاج (1/ 481): "ولو نطق بالقاف مترددة بينها وبين الكاف كما ينطق بها بعض العرب صح مع الكراهة، كما جزم به الشيخ نصر المقدسي والروياني وابن الرفعة في الكفاية، وإن نظر فيه في المجموع". اهـ.
وبناء على ما سبق: فلو قال رجل لامرأته: "أنت طالق" بالقاف المعقودة؛ بحيث يكون نطقها: "أنت طالج" كان هذا طلاقًا صحيحًا صريحًا، ولا يكون مِن باب الكناية، ولا يسأل فيه عن النية؛ لأن نطق القاف الخالصة قافًا معقودة نطق عربي لا عُجْمَة فيه كما سبق، وبهذا يفترق نطق القاف الخالصة قافًا معقودة عن نطقها همزة.
وهذا الفرع بخصوصه قد نص عليه أئمة الشافعية في كتبهم:
قال الإمام السيوطي في رسالته: "فتح المغالق من أنت تالق" (1/ 253): "فرع: ولو قال: أنت طالق -بالقاف المعقودة قريبة من الكاف كما يلفظ بها العرب- فلا شك في الوقوع". اهـ.
وما قاله السيوطي هو ما نَصّ عليه أيضًا الشيخ الشبرامَلِّسي في حاشيته على نهاية المحتاج (6/ 429)، والشيخ عبد الحميد الشَّرواني في حواشيه على تحفة المحتاج (8/ 4).
أما السؤال عمن اعتبر من الفقهاء السابقين أن كلمة "طالئ" هي من الكنايات المفتقرة إلى النية:
فقد ذكر فقهاء الشافعية في مصنفاتهم صورًا عديدة للتحريف، وبيَّنوا أنها ليست صريحة في الطلاق، وعَلَّلوها بِعِلَّة تجعل كلمة "طالئ" أولى في الحكم عليها بالكناية مما ذكروه -كما سبق بيانه-، والفتوى في النهاية مرتبطة بالواقع، وليست حكمًا شرعيًّا مُجَرَّدًا، بل هي جمعٌ بين حُكم شرعي وصورة لواقع يتعلق به هذا الحكم في ذهن المجتهد أو المفتي فينتج الفتوى، فالحكم غير الفتوى، بل هو أحد عناصرها، وهو منضبط لا يتغيَّر، والفتوى قد تتغير بتغيُّر مُتَعَلَّق الحُكم -وهو الواقع- إذا تغيرت جهة من جهاته الأربع: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال؛ فقد تَجِدُّ أمورٌ لم تكن في العصور الأولى، ثم تكون في العصور التالية، كما هو الواقع في كثير من قضايا الفقه الإسلامي، وهذا يكون لتغير الأحوال في الأمصار المترامية الأطراف، وهذا مقرر معلوم، وكون هذه الكلمة لم تُذكَر بخصوصها في كنايات الطلاق لا حجة فيه على أنها ليست كذلك؛ فعدم الذِّكْر لا يصح دليلا على المنع، خاصة وأن إدراك علل المسائل المنصوص عليها وبناء المسائل المستجدة عليها هو لباب الفقه؛ فالأحكام الشرعية تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، والمفتي يقوم بهذا الدور في هذه المسألة وغيرها، وقد رد الإمام السيوطي على من أنكر كون كلمة "تالق" كناية بكونها لم ترد في كنايات الطلاق المذكورة في كتب الفقه بأن هذا لا يستلزم عدم كنائيتها، لأن كنايات الطلاق غير محصورة، والفقهاء لم يشترطوا حصرها في كتبهم عند ذكرهم لأمثلتها، فقال في "فتح المغالق" (1/ 205): "فإن نظر ناظر إلى أن الفقهاء لم ينبهوا على هذا اللفظ في كتبهم، قلنا: الفقهاء لم يستوفوا كل الكنايات، بل عددوا منها جُمَلا، ثم أشاروا إلى ما لم يذكروه بضابط، وقد استنبط البلقيني من حديث قول إبراهيم لامرأة ابنه إسماعيل عليهما السلام: "قولي يغير عتبة بابه"، أن هذه اللفظة من كنايات الطلاق، ولم ينص على هذه اللفظة أحد قبله، ولعل الفقهاء إنما سكتوا عن التعرض للفظة "تالق" لكونها لم تقع في زمنهم، وإنما حدث ذلك في ألسنة العامّة من المتأخرين". اهـ.
فلا وجه لانتقاد هذه دون غيرها من المسائل، وإذا اقتصر دور المفتي على المنصوص فقط فمَن يتصدى مِن الأمة للنوازل والمسائل المستجدة؟! يضاف إلى ذلك أن عدم ذكر الفقهاء لهذه الكلمة بخصوصها يعلَّل بكونها مرتبطة بعرف سائد الآن في كلام الناس لم يكن موجودًا في عصرهم، كما سبقت الإشارة إليه في كلام الحافظ السيوطي.
قال العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين الشامي في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 47 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي): "جمود المفتي أو القاضي على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقرائن الواضحة والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة وظلم خلق كثيرين". اهـ.
وكثير من الفروع الخلافية بين أبي حنيفة وأصحابه يصف أئمة الحنفية الخلاف فيها بأنه: "اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم وبيان" لهذا المعنى الذي ذكرناه. (انظر مثلا: المبسوط للسرخسي 8/ 178، ط. دار المعرفة، بدائع الصنائع 6/ 31، ط. دار الكتب العلمية، تبيين الحقائق 1/ 43، ط. دار الكتاب الإسلامي، البحر الرائق 4/ 351، ط. دار الكتاب الإسلامي).
أما دعوى أنه لا يوجد الآن أحد ممن يتلفظ بلفظ: "طالئ" إلا ويعلم أنها تفيد الطلاق، وأن هذا قرينة على أنه إذا تلفظ بها فإنما يقصد إيقاع الطلاق، فهي دعوى غير سديدة.
وجوابها: أن هناك فارقًا بين العلم بمعنى اللفظ وبين إرادة إيقاعه، ودعوى أن كل مَن يتلفظ بهذه الألفاظ المحرَّفة إنما يقصد بها إيقاع الطلاق هي محض مجازفة؛ بل من واقع الخبرة الطويلة لدار الإفتاء المصرية في فتاوى الطلاق فإن أغلبية مَن يتلفظ بهذا اللفظ المحرَّف على زوجته –أي: طالئ- إنما يقصد تهديدها أو تأديبها أو زجرها أو إسكاتها أو النكاية فيها، ولا يقصد الطلاق الذي هو بمعنى انفصام العلاقة الزوجية حالًا أو مآلًا.
فإن قيل: إن هؤلاء المذكورين إنما ادَّعَوا ذلك تَخَلُّصًا مِن تبعات فعلهم وتحايُلا لإبقاء العلاقة الزوجية. فالجواب: أن هذا سوءُ ظنٍّ بالمسلمين ورميٌ لهم بالباطل تخرصًا مِن غير بينة ولا برهان؛ وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞ} [الحجرات: 12]، وفي هذا نهي للمؤمنين عن كثير مِن الظن، وهو التهمة والتخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فيُجتنب كثيرٌ منه احتياطًا (تفسير ابن كثير 7/ 377، ط. دار طيبة). وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».
ولو سلَّمنا بعمومية إفادة الألفاظ المحرَّفة لمعنى الطلاق، فلا يلزم مِن هذا أن كل مَن يتلفظ بها تتوجه نيته وقصده لإيقاع الطلاق، بدليل الواقع الذي ذكرناه، والواقع لا يرتفع، ويُتصور أيضًا أن يفعل هذا فقيه يَعْلم الحكم مِن كون هذه الألفاظ المحرَّفة كناية، ويقولها لزوجته قاصدًا إرعابها وتقويمها إذا اعوجَّت ونشزت عليه، دون أن يقصد التطليق. فدعوى أن أغلب الناس يقصدون الطلاق عند التلفظ بهذه الألفاظ وأن مَن لا يقصد داخل في حد النادر الذي لا حُكمَ له دعوى مردودة لا اعتبار بها، وعلى التسليم الجدلي بها فإنها تُرَدُّ بقاعدة: "تعارض الأصل والغالب"، والضابط فيها: أن الغالب إنما يرجَّح على الأصل إذا كان مستندًا لسبب قوي منضبط، أما إذا كان ما يعارض الأصل مستنده احتمال مجرَّد أو يستند لسبب ضعيف، فحينئذ يترجَّح الأصل (انظر: المنثور للزركشي 1/ 311- 330، والأشباه والنظائر للسيوطي ص64- 68)؛ والأصل هنا في مسألتنا هو عدمُ القصد الموافق لبقاء النكاح، والغالب المدَّعى هو حصول القصد الناقل عن هذا الأصل، وهذا الغالب المدَّعى لا يخرج عن أن يكون مجرد احتمال لا يسنده واقع أو استقراء، أو هو احتمال مستَنِد لسبب ضعيف، فلا يقوى على تغيير استصحاب الأصل.
أما القول بأن اشتهار لفظٍ في الطلاق يجعله صريحًا، وقد اشتهر في أهل مصر هذا اللفظ في الطلاق، فيكون مِن باب الصَّريح لا من باب الكناية: فقد تقدم الجواب عنه، وأن جعل الاشتهار موجبًا للصريحية في الطلاق فيه خلاف بين الشافعية على ثلاثة أوجه حكاها النووي في الروضة ورجح أنه كناية مطلقًا، ونقل القطع به عن الشافعية العراقيين، وهو المفتى به في المذهب.
ومسألة الطلاق بغير العربية -المذكورة في السؤال- قد ورد فيها وجهان عند فقهاء الشافعية؛ الأول: أنه صريح إذا كان اللفظ موضوعًا للطلاق بخصوصه في لغة غير العرب، وبشرط أن يشتهر استعماله في تلك اللغة اشتهار الصريح عند أهل العربية. والثاني: أنه كناية قصرًا للصريح على العربي فحسب.
قال الإمام النووي في الروضة (8/ 25): "ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية وسائر اللغات صريح على المذهب؛ لشهرة استعمالها في معناها عند أهل تلك اللغات، كشهرة العربية عند أهلها، وقيل: وجهان. ثانيهما: أنها كناية". اهـ.
وعلى كلا الوجهين، فإن "طالئ" ونحوها خارج عن باب الصريح إلى الكناية، لأنه ليس بوضع عربي ولا غير عربي، وإنما يبقى في دائرة الكناية؛ لاشتهار الاستعمال عند العامة، ولشبهه بالظواهر اللغوية العربية مِن إبدال بعض الحروف ببعضها.
أما الاعتراض بأن الأصل في الأبضاع هو الاحتياط، وهذا يقتضي أن يحتاط المفتي في مثل واقعة السؤال ويفتي بالطلاق، فهو ممنوع؛ بل مقتضى الاحتياط: هو الإفتاء بعدم الوقوع بشرطه؛ حيث إن الاحتياط في مسائل الفروج مقتضٍ للإبقاء على الزوجية لا إنهائها كما ورد بالسؤال؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان (الأشباه والنظائر ص51)، والنكاح المُتَيقَّن لا يزال إلا بيقين مثله.
وهذا هو ما عَلَّل به الإمام أحمد عدم وقوع طلاق السكران، فقال في رواية أبي طالب: "والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة, والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه, وأحلها لغيره, فهذا خير من هذا" اهـ من "إعلام الموقعين" (4/ 39، ط. دار الكتب العلمية). فكذلك هنا؛ فإن من يوقع الطلاق قد أتى بهاتين الخصلتين، ومن لم يوقعه لم يأت إلا بخصلة واحدة.
قال الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه: "الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس" (ص 26، ط. دار عمار): "النكاح الـمُتَيقَّن لا يزال إلا بيقين مثله مِن كتاب أو سنة أو إجماع مُتَيقَّن، فإذا وجد واحد مِن هذه الثلاثة رفع حكم النكاح به، ولا سبيل إلى رفعه بغير ذلك؛ وذلك لأن الفروج يجب الاحتياط لها؛ أي أن الفرض هو أن يبقى الزوجان على يقين النكاح الذي سماه الله تعالى عقدة النكاح حتى ما يُزيله بيقين. وكيف يرتكب تحريم الفروج على مَن كانت حلالا له بيقين ولا تحل لغيره إلا بيقين؟!". اهـ.
وأما القول بأن الفتوى بذلك من التساهل الممقوت، وأنه أَخذٌ بالشاذ من الفتاوى فغير سديد؛ لأن التساهل في الفتوى معناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير استجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لِهوًى في نفسه، لكن الفتوى من المتأهل بعد استجماع الأدلة والنظر في المقاصد هي من باب الاجتهاد المأجور فاعله.
قال الإمام النووي في "المجموع" (1/ 79، 80): "يحرم التساهل في الفتوى, ومن عرف به حَرُم استفتاؤه, فمن التساهل: أن لا يتثبت, ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر, فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة, وعلى هذا يُحمَل ما نُقِل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة, والتمسك بالشُّبَه؛ طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه, أو التغليظ على من يريد ضره, وأما من صَحَّ قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها, لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا". اهـ.
والفتوى بالأخف ليست بالضرورة من التساهل في الفتوى؛ لأن هذا الأخف قد يكون هو المترجِّح لدى المفتي، أو هو الأليق بحال المستفتي، كما قال سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيُحسِنه كلُّ أَحَد". (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/ 784، ط. دار ابن الجوزي).
والحكم على فتوى معينة بالشذوذ لا يكون بمجرد التذوق والتشهي، بل إن له ضوابط وأسبابًا؛ منها:
أن يكون القول مخالفًا للإجماع؛ قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 434، ط. دار الكتبي): "الخلاف الثاني لا اعتبار له... وهكذا يقول الحنفية في الخلاف في الشاذ: إنه لا خلاف ولا اختلاف. يعنون بذلك أنه إنما يعتبر الخلاف المشهور القريب المأخذ بخلاف الشاذ البعيد, فهو خلاف لأهل الحق". اهـ.
ومنها: أن تكون المسألة مما لم يُعلَم فيها خلاف، ولكن لم يُدَّع فيها الإجماع، فيأتي القول ليقرر حُكمًا مغايرًا للسابق الذي لم يعلم فيه خلاف؛ قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في فتاويه (2/ 19، ط. دار المعارف) -عند كلامه على قضاءٍ مخالفٍ لشرطِ الواقف-: "وهو مخالفٌ لما علمناه من المذاهب الأربعة، وما لم نعلم فيه خلافًا فهو كالمخالف للإجماع، وإن ثبت فيه خلافٌ فيكون شاذًّا، والخلاف الشاذ لا اعتبار به، كما أن الاحتمال البعيد لا يُخْرِجُ النصَّ عن كونه نصًّا". اهـ.
ومنها: أن يكون لا دليل عليه، والعمل بما لا دليل عليه تَحَكُّم؛ إذ إن فيه ترجيحًا لجانب الفعل على جانب الترك أو لجانب الترك على جانب الفعل بلا مرجِّح معتبر، والترجيح بلا مُرَجِّح باطل. (انظر: التوضيح لصدر الشريعة مع شرح التلويح 1/ 352، ط. مكتبة صبيح).
وقال العلامة القرافي في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (ص225، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب): "الفتيا بغير مستند باطلة إجماعًا، وحرام على قائلها ومعتقدها". اهـ.
ومنها: أن يكون القول مبنيًّا على مُدرَك ضعيف.
قال القرافي في "الفروق" (4/ 51): "الخلاف الشاذ المبني على المُدرَك الضعيف لا يرفع الخلاف، بل يُنقَض في نفسه إذا حُكِم بالفتوى المبنية على المُدرَك". اهـ.
وعليه فالفتوى بذلك -وهو ما عليه دار الإفتاء المصرية- لا يَصدُق عليه أبدًا أنه من شاذ الفتاوى؛ لأنه لا ينطبق عليه أيُّ شيء مما ذُكِر.
وأما القول بأنه ليس كل تيسير على الناس يكون صحيحًا؛ بل لا بد أن يكون للتيسير حظ من النظر السليم والفقه الصحيح، بدليل أن هناك من الأقوال في باب الطلاق ما لا يُؤخذ به مع كونه أيسر على الناس، فجوابه: أن هذا الكلام صحيح في نفسه، وقد بينا من الدلائل الفقهية والمستندات الشرعية ما يثبت صحة هذه الفتوى وقوة مأخذها، كما أن الرفق بالناس والتيسير عليهم والرحمة بهم لم تكن يومًا مدعاة للذم أو سببًا للوم، بل هي قِيَمٌ لا ينبغي أن تزيغ عن عين المفتي، ما دامت منضبطة مع قواعد الفتوى والفقه؛ فما كان أرفق بالناس فالفتوى به أولى; لأن الحرج مدفوع شرعًا، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ} [الحج: 78].
والفتوى بهذا القول الذي اخترناه لا شك أنها أرفق بحال أفراد الأسرة، خصوصًا المرأة والأولاد، وفيه مراعاة لتغير أحوال أهل الزمان في الاستهانة بالتلفظ بألفاظ الطلاق غير ملتفتين لما يترتب على ذلك شرعًا، والعرف والزمان معتبران في الفتوى قطعًا.
يقول ابن عابدين في رسالته "نشر العَرْف في بناء بعض الأحكام على العُرْف" (ضمن مجموع الرسائل 2/ 125): "قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس؛ فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان؛ بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام". اهـ.
وإرادة التيسير قد تتعارض مع ما هو أرجح منها من المصالح تارة ومن المفاسد تارة أخرى. ينضاف إليه أن تتبع الأهون في كل مذهب قد ذهب كثير من العلماء إلى ذمه والمنع منه؛ قال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله". (انظر: حلية الأولياء 3/ 32، ط. السعادة)، وأطلق الإمام أحمد أنه لو عمل رجل بكل رخصة كان فاسقًا (انظر: البحر المحيط 8/ 382).
وما يختاره المفتي للفتوى يكون له أسباب متنوعة، منها:
أن يكون سبب اختياره أنه الراجح في رأيه واجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، والعمل بالراجح واجب. (جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية العطار 2/ 404، ط. دار الكتب العلمية).
أو أن يكون هو الراجح في مذهبه إن كان المفتي لم يبلغ رتبة الاجتهاد. (شرح منظومة عقود رسم المفتي -ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين- 1/ 11- 13).
أو أن تتكافأ الأدلة فيجنح المفتي للأيسر، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر قط بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا».
قال الحافظ ابن عبد البر: "فيه أنه ينبغي ترك ما عَسُر من أمور الدنيا والآخرة, وترك الإلحاح فيه إذا لم يُضطر إليه, والميل إلى الأيسر أبدًا, وفي معناه الأخذ برُخَصِ الله عز وجل ورُخَصِ رسوله عليه الصلاة والسلام ورُخَصِ العلماء، ما لم يكن القول خطأ بَيِّنًا". اهـ. (بواسطة: طرح التثريب للعراقي 7/ 209، 210، ط. دار إحياء الكتب العربية).
وهذا المعنى قد أُثِر عن غير واحد من علماء السلف؛ فقال الإمام يحيى بن سلام: "ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثَم". (التمهيد للحافظ ابن عبد البر 8/ 147، ط. وزارة الأوقاف المغربية).
وقال مَعمَر والثوري: "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد". (التمهيد لابن عبد البر 8/ 147، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 785).
ومن الأسباب أيضًا: أن يكون المفتى به هو الأليق بحال المستفتي بحساب المصالح والمفاسد؛ قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر" (1/ 338، مع شرح الحموي، ط. دار الكتب العلمية): "المفتي إنما يفتي بما يقع عنده من المصلحة". اهـ.
ومن هذا الباب: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، ثم سأله آخر، فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته, وأما الثاني فقد قتل وجاء يطلب المخرج فلم أقنطه. (أسنى المطالب 4/ 281).
ومن الأسباب: أن يكون سبب الإفتاء بقول معين هو عموم البلوى، بل قد أجاز العلماء للإنسان أن يقلد المذهب المخفِّف في حال الابتلاء والضرورة أو خوف الوقوع في المحرَّم، ولأَن يُقدمَ المرء على فعل ما له وجه جائز شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له مندوحة بأن يقلد فيه من أجازه من العلماء.
جاء في متن أبي شجاع وشرحه لابن قاسم الغزي: "ولا يجوز" لغير ضرورة لرجل أو امرأة "استعمال" شيء مِن "أواني الذهب أو الفضة" لا في أكل ولا في شرب ولا غيرهما". اهـ.
قال شيخ الإسلام إبراهيم البيجوري في حاشيته عليه (1/ 40): "وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك -كما يقع كثيرًا- تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة". اهـ.
والخلاصة: أن تحريف لفظ الطلاق الصريح بأن يُنطَقَ "طالئ" بدلا من طالق كما هو جارٍ على لسان كثير من أهل مصر، يُخرِج اللفظ مِن الصَّراحة إلى الكناية التي تحتاج إلى نية مقارنة للفظ يقع به الطلاق، وأن الفتوى بهذا القول ليست مخترعة ولا مصادمة للنصوص، بل هي مبنية على مذهب السادة الشافعية تفريعًا وتنظيرًا، وأن الإفتاء بهذا الاختيار فيه مراعاة لأحوال الناس والزمان، وفيه تحقيق لمصلحة بقاء الزوجية قائمة، بما يستتبعها من الحفاظ على كيان الأسرة في زمن تَهَدَّد فيه بقاء الأسرة، واتجه بالإنسانية إلى الفردانية.
تحديد السن في الأضحية
السؤال
هل يشترط سن محدَّد للأضحية التي يجوز التضحية بها أم لا؟ وإذا لم يوجد السن المشروط فهل يجوز التضحية بما هو أقل سنًّا، لا سيما وأنه يوجد الآن بعض الأعلاف المركزة التي يتغذَّى بها الحيوان تجعل لحمه أسمن وإن كان صغيرًا؟
الجواب
الأضحية من السنن المؤكَّدة، وشرعت شكرًا لله تعالى، وإحياءً لسنة سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، كما أن فيها تعظيمًا لشعائر الله سبحانه، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقال: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى} [الحج: 37].
وقد اشترط الفقهاء شروطًا في الأضحية، بعضها يرجع إلى الأضحية ذاتها، وبعضها يرجع إلى الـمُضَحِّي، فمن شروط الأضحية ذاتها كونها من الأنعام، أي الإبل والبقر والجواميس والغنم، سواء كانت الغنم ضأنًا أو ماعزًا، فلا يجزئ غير ذلك من الدواب والطيور؛ لقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34].
يقول القرطبي: «والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم» [تفسير القرطبي 12/ 44، ط. دار الكتب المصرية].
وقال أيضًا: «والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر» [تفسير القرطبي 15/ 109].
ويقول البغوي: «وقال: {بهيمة الأنعام} وقيَّدها بالنعم؛ لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، لا يجوز ذبحها في القرابين» [معالم التنزيل 3/ 340، ط. دار إحياء التراث العربي].
ومن شروطها أيضًا سلامتها من العيوب الفاحشة التي تنقص اللحم أو الشحم إلا ما استثني من ذلك. ومن شروطها: بلوغ الأضحية سن التضحية، فليس كل الأنعام يصح جعلها أضحية يتقرب بها إلى الله عز وجل، فقد اتفق جمهور الفقهاء على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثَّنِي فما فوقه، ويجزئ من الضأن الـجَذَع فما فوقه، وقد روى مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مُسِنِّة إلا أن يَعسُر عليكم فتذبحوا جَذَعَة من الضأن)). أي: لا يجوز في الأضحية إلا الـمُسِنَّة أي الثَّنِي من الإبل والبقر والمعز، أما الضأن (الخروف) فلا يجوز فيه إلا الـجَذَعة، وقد اختلف الفقهاء في تفسير الثَّنِي والـجَذَعَة، ومذهب الشافعية أن الـجَذَعة ما بلغ سنة، والثَّنِي من الإبل ما بلغ خمس سنين، ومن المعز والبقر ما بلغ سنتين [راجع: تحفة المحتاج 9/ 348، ط. دار إحياء التراث العربي].
ووافق المالكيةُ الشافعيةَ في هذه الأسنان، عدا ثَنِي البقر، فيرى المالكية أن الثَّنِي من البقر ما له ثلاث سنوات ودخل في الرابعة [راجع: حاشية الدسوقي 2/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي].
وجمهور الفقهاء أيضًا على أنه لا يجوز النقصان عن هذه السنين المقدَّرة، ونصوصهم دالة على ذلك، يقول الكاساني في «بدائع الصنائع»: «وتخصيص هذه القربة بسن دون سن أمر لا يعرف إلا بالتوقيف فيتبع ذلك» [5/ 70، ط. دار الكتب العلمية].
وفي «البناية على الهداية» لبدر الدين العيني: «ويجوز في الأضحية إذا كانت الشاة عظيمة الجثة وهي جَذَع، وإذا كانت صغيرة الجثة لا يجوز إلا أن يتم لها سنة وطعنت في السنة الثانية، وأما المعز لا يجوز إلا ما تمت له سنة وطعنت في الثانية، وأما البقر لا يجوز إلا ما تمت له سنتان وطعنت في السنة الثالثة سواء كانت عظيمة الجثة أو لا» [12/ 47، ط. دار الكتب العلمية].
وقال ابن عابدين: «وفي البدائع: تقدير هذه الأسنان بما ذكر لمنع النقصان لا الزيادة، فلو ضحى بسن أقل لا يجوز، وبأكبر يجوز وهو أفضل» [رد المحتار 6/ 322، ط. دار الفكر].
وقال الـخَرَشي بعد بيان أسنان الأنعام التي تجزئ في الأضحية: «وإنما اختلفت أسنان الثنايا من هذه الأصناف لاختلافها في قبول الحمل والنزوان، فإن ذلك لا يحصل غالبًا إلا في الأسنان المذكورة، ولما كان ما دون الحلم من الآدمي في حد الصغر ناقصًا كان ذلك في الأنعام كذلك لا يصلح للتقرب به» [3/ 34، ط. دار الفكر].
ويقول الماوردي في «الحاوي»: «إذا تقرر أن الضحايا بالإبل والبقر والغنم دون ما عداها من جميع الحيوان، فأسنان ما يجوز في الضحايا منها معتبرة، ولا يجزئ دونها، وقد أجمعنا على أنه لا يجزئ ما دون الجذاع من جميعها، ولا يلزم ما فوق الثنايا من جميعها» [15/ 76، ط. دار الكتب العلمية]
وفي أسنى المطالب: «(ولا) يجزئ (أقل من جَذَع الضأن وثني المعز والإبل والبقر والجذع ذو سنة) تامة» [1/ 535، ط. دار الكتاب الإسلامي].
وقال ابن قدامة في «المغني»: «ولا يجزئ إلا الـجَذَع من الضأن، والثَّنِي من غيره» [9/ 439، ط. مكتبة القاهرة].
وعلَّل الجمهور ما ذهبوا إليه بحديث البراء بن عازب، قال: ((خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: من صلَّى صلاتنا ونَسَك نُسكنا فقد أصاب النُّسُك، ومن نَسَك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة ولا نُسَك له، فقال أبو بردة بن نيار خال البراء: يا رسول الله فإني نَسكتُ شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: شاتك شاة لحم، قال: يا رسول الله، فإن عندنا عَنَاقًا لنا جَذَعة هي أحبُّ إلي من شاتين، أفتجزي عني؟ قال: نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)) [متفق عليه].
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولن تجزي عن أحد بعدك)) دليل اختصاص أبي بردة بهذا النقصان عن السن المحدَّد في الأضحية، ودليل على أنه لا يجوز التضحية بالـجَذَع من الغنم لغير أبي بردة، والعَنَاق أنثى المعز، ومن باب أولى عدم إجزاء الإبل والبقر. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((شاتك شاة لحم))، أي ليس ما ذبحتَه أضحية، وليس لها ثواب الأضحية بل هي كغيرها مما يذبح عادة للأكل، وقد يستدل به على أنه ليس المقصود من الأضحية أصالة اللحم، فلو كان المقصود اللحم لصحَّح النبي صلى الله عليه وسلم شاة أبي بردة رغم التجوُّز في الوقت، ولَمَا سأله أبو بردة عن إجزاء العَنَاق.
وقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر رضي الله عنه ما دون السن الشرعي للأضحية، ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم أعطاه غَنَمًا يَقسِمُها على صحابته، فبَقيَ عَتُودٌ أو جَديٌ، فذكره للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((ضَحِّ به أنت))، وفي رواية للبيهقي: ((ولا رخصة فيها لأحد بعدك)). والعتود: هو الصغير من أولاد المعز إذا قوي ورعى وأتى عليه حول.
وكأن المعنى الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء أن علة الاقتصار على أسنان الأنعام غير معقولة، فلا يجوز النقصان عنها، بينما خالف الجمهورَ بعضُ السلف كطاوس وعطاء والأوزاعي، حيث أجازوا النقصان عن هذه الأسنان، فأجازوا الـجَذَع من الإبل والبقر والغنم مطلقًا دون اختصاص بشخص دون آخر [راجع: المغني 9/ 348، والمجموع 8/ 366، ط. مكتبة الإرشاد]، يقول ابن حزم: «ومن طريق وكيع، نا عمر بن ذر الهمداني، قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن إنا ندخل السوق فنجد الـجَذَع من البقر السمين العظيم فنختار الثَّنِي لسِنِّه. فقال طاوس: أحبهما إليَّ أسمنهما وأعظمهما» [المحلى 6/ 26، ط. دار الفكر]، والـجَذَع من البقر ما تم سنة.
ورأي الجمهور أقوى من حيث الدليل، لكن عند النظر يمكن أن يقال: إن اشتراط سن معينة للأضاحي مظنة أن تكون ناضجة كثيرة اللحم رعاية لمصلحة الفقراء والمساكين، وإذا كانت المستوفية للسن المبين في الشرع الشريف هزيلة قليلة اللحم، ويوجد ما هو أصغر منها سنًّا بمعنى أنها لم تستوف السن المحددة شرعًا إلا أنها كثيرة اللحم كما يحدث في هذا الزمان من القيام بعلف الحيوان الصغير بمركزات تزيد من لحمه، وإذا وصل إلى السن المحددة هزل وأخذ في التناقص، فإن الإسلام راعى مصالح العباد وهو مقصد من مقاصد الشريعة الغراء، فإذا لم يوجد حيوان مستوفٍ السن المحددة شرعًا كثير اللحم ووجد ما هو أقل سنًّا كثير اللحم، فإنه تجوز الأضحية به لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) [رواه مسلم]، وقياسًا على ذلك فإنه يجوز للحاجة، والحاجة قد تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. والله تعالى أعلم.
المحافظة على المواقع الأثرية - الآثار الدينية
السؤال
هل الإسلام يَحُثُّ على المحافظة على المباني والآثار والمواقع التي شهدت أحداثًا تاريخيةً ذات طابعٍ دينيٍّ مهم، أو أن ذلك ممنوع؛ لأن تعظيم تلك الأماكن مُحَرَّم، وقد يكون من ذرائع الشرك؛ لأنه يؤَدِّي إلى أن يعتقد العوام بَرَكَةَ تلك الأماكن كما يَزعُم ذلك بعضُ المنسوبين إلى العلم؟
الجواب
المحافظة على الأماكن والمباني التاريخية والأثرية ذات الطابع التاريخي الديني من المطلوبات الشرعية والمستحبات الدينية التي حثت عليها الشريعة؛ لأن فيها تعظيمًا لِمَا عظَّمه الله تعالى من الأيام والأحداث والوقائع والأشخاص والأعمال الصالحة التي حصلت فيها أو ارتبطت بها؛ فهي تُذَكِّر المسلمين بماضيهم وتربط قلوبهم بوقائعه وأيّامه، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، فهذا أمر مُطْلَق بالتذكير بأيام الله؛ التي هي وقائع الله في الأزمنة السابقة، فكُلّ ما يحصل به هذا التذكير يكون وسيلةً لتحقيقه، فيكون مطلوبًا شرعًا؛ والقاعدة الشرعية «أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد»، و»أن المُطْلَق يجري على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده».
قال الإمام الزركشي في (البحر المحيط، 5/ 8، ط. دار الكتبي): «الخطاب إذا ورد مُطلَقًا لا مُقَيِّد له حُمِلَ على إطلاقه». اهـ.
ومن الفوائد الجليلة لهذا التذكير أيضًا: أنه يعطي دليلًا واقعيًّا على صحة هذه الوقائع التي حدثت فيها، أما إزالتها وهدمها فهو الذي يكون ذريعةً لإنكار هذه الأحداث مِن أصلِها، وادعاء أنها قضايا مفتعلة ليس لها أساسٌ واقعيّ.
ومن مقاصد الشريعة الربط بين العبادات والشعائر وبين الأماكن التي تذكر بأصلها التاريخي الديني؛ كالصفا والمروة التي كانت السيدة هاجر -رضي الله عنها- تتردد بينهما؛ فيقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
وقال تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، وقد جاء في تفسير المقام أنه الحَجَر الذي فيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحَجَر حين قام عليه ودَعَا الناس إلى الحج، أو رَفَعَ بناءَ البيت وهو موضعه اليوم. واتخاذه مصلى: أن يُدعى فيه، ويُتَقَرَّب إلى الله تعالى. (تفسير البيضاوي، 1/ 105، ط. دار إحياء التراث العربي)، فالأمر باتخاذه مُصلًّى يَلزم منه المحافظةُ عليه، وعلى تعيين موضعه، وإشهارُه بين الناس.
ويقول تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [النور: 36]؛ روى ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة -رضي الله عنهما-: ((أنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قرأ هذه الآية ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾، فقام إليه رجل، قال: أيّ بيوتٍ هذه يا رسول الله! قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر -رضي الله عنه-، وقال: يا رسول الله! وهذا البيت منها -مشيرًا إلى بيتِ عليٍّ وفاطمة -رضي الله عنهما-؟ فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: نعم، مِن أفاضلِها)) (الدر المنثور، 6/ 203، ط. دار الفكر).
قال الإمام أبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط، 8/ 48، ط. دار الفكر): «والظاهر أن ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ مُطْلَق؛ فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعِلم» اهـ.
ومن معاني الرفع في الآية الكريمة: التعظيم -كما هو مقرر في مَحَلِّه من كتب التفسير-؛ قال الحافظ ابن الجوزي في (زاد المسير، 3/ 298، ط. دار الكتاب العربي): «وفي معنى ﴿أَنْ تُرْفَعَ﴾ قولان: أحدهما: أن تُعَظَّم؛ قاله الحسن، والضحّاك». اهـ.
فإذا كان الله تعالى قد أذِن -أي: أَمَر- بتعظيم تلك الأماكن، فإن المحافظةَ عليها لَازمةٌ عن تعظيمها؛ إذ إن الإزالةَ منافيةٌ للتعظيم المستلزم لبقاء المُعَظَّم ليَحْصُل تعظيمُه، والتعظيم المطلوب أيضًا مُطْلَقٌ لا يمنع منه إلا ما منعه الشرع بخصوصه.
وروى البزار في (مسنده 12/ 230) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن آطام المدينة أن تُهدَم.
وروى الطحاوي في (شرح معاني الآثار، 4/ 194) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال: ((لَا تَهْدِمُوا الْآطَامَ، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ))، وآطام المدينة هي: حصونها.
وبَوَّب على هذا الحديث الإمام الهيثمي في (مجمع الزوائد، 3/ 301، ط. القدسي)، فقال: «باب النهي عن هدم بُنيانها -أي: المدينة-». اهـ.
وقد جرى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- على التبرك بمواضع صلاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وذلك بإقرار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفعله؛ فكانوا يطلبون من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصلاة في بيوتهم؛ ليتخذوا موضع صلاته مصلًّى لهم؛ فأخرج البخاري ومسلم وغيرهما ((عن محمود بن الربيع الأنصاري -رضي الله عنه-، قال: سمعت عتبان بن مالك الأنصاري، ثم أحد بني سالم -رضي الله عنه-، قال: كنت أصلي لقومي بني سالم، فأتيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقلت: إني أنكرت بصري، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فلوددت أنك جئتَ، فصليت في بيتي مكانًا حتى أتخذه مسجدًا، فقال: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فغدا عليَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- معه بعد ما اشتد النهار، فاستأذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأذنتُ له، فلم يجلس حتى قال: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فأشار إليه مِن المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام، فصففنا خلفه، ثم سلم وسلمنا حين سلم)).
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتحرون أماكن صلاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومواضع سيره، وحله، وترحاله، وأثره فيتبركون بها، وينزهونها وينهون عن إهانتها. وبوَّب على ذلك الإمام البخاري في «صحيحه» بقوله: (باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-)، ثم روى عن موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، «وأنه رأى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يصلي في تلك الأمكنة». قال: وحدثني نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألتُ سالمًا، فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الرَّوْحَاء.
ومن ذلك غضب السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وغيرها من التابعين مما فعله مروان بن الحكم حين صلب رجلا يُسمَّى «ذبابًا» على موضع «ذباب» وهو موضع صلى فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان مضربًا لقُبَّته، وذلك تنزيهًا للأماكن التي صلى فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عمَّا لا يليق بها.
فروى ابن شبة في (تاريخ المدينة 1/ 62، ط. جدة) عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب قال: بعثَت عائشة -رضي الله عنها- إلى مروان بن الحكم حين قتل ذبابًا وصلبه على ذباب: «تعِسْتَ؛ صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واتخَذْتَه مَصْلَبًا!» قال: وذباب رجل من أهل اليمن عدا على رجل من الأنصار... قال أبو غسان: وأخبرني بعض مشيختنا أن السلاطين كانوا يصلبون على ذباب، فقال هشام بن عروة لزياد بن عبيد الله الحارثي: يا عجبًا! أتصلبون على مضرب قبة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ فكف عن ذلك زياد، وكفت الولاة بعده عنه.
وأمَّا دعوى أن تعظيم هذه الأماكن مُحَرَّم، وقد يكون من ذرائع الشرك؛ لأنه يؤدِّي إلى أن يعتقد العوام بَرَكَة تلك الأماكن فليست بمُسَلَّمة؛ لأن الشرع لم يَمنع من مُطْلَق تعظيم غير الله، وإنما يَمنع منه ما كان على وجه عبادة المُعَظَّم كما كان يفعل أهل الجاهلية مع معبوداتهم الباطلة فيعتقدون أنها آلهة، وأنها تضر وتنفع مِن دون الله، وأما ما سوى ذلك مِمَّا يدل على الاحترام والتوقير والإجلال فهو جائزٌ إن كان المُعَظَّم مُستحِقًّا للتعظيم، ولو كان جمادًا من بناءٍ أو غيرِه؛ وقد روى البيهقي بسنده أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: ((اللهم زِد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة)).
وروى الدارمي عن عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- أنه كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: «كتاب ربي، كتاب ربي».
فتعظيم ما عَظَّمه الله تعظيمٌ بالله، والتعظيم بالله تعظيمٌ لله؛ كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، كما أن طاعة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم طاعةٌ لله تعالى الذي أرسله: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾[النساء: 80]، ومبايعته مبايعةٌ لله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].
أما كون ذلك من ذرائع الشرك؛ لأنه يؤدي إلى أن يعتقد العوام بَرَكَة تلك الأماكن، فهو مبني على خَلَلٍ في مفهوم الشرك؛ فالشرك تعظيمٌ مع الله أو تعظيمٌ مِن دون الله؛ ولذلك كان سجودُ الملائكة لآدم -عليه السلام- إيمانًا وتوحيدًا، وكان سجودُ المشركين للأوثان كفرًا وشركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لَمَّا كان سجودُ الملائكة لآدم -عليه السلام- تعظيمًا لِمَا عَظَّمه الله كما أمر الله كان وسيلةً مشروعةً يَستحق فاعلُها الثواب، ولَمَّا كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شركًا مذمومًا يَستحق فاعلُه العقاب.
واعتقاد وجود البَرَكَة أو حصولِها بواسطة مخلوقٍ مُعيّنٍ لا علاقة له بالشرك مِن قريبٍ أو مِن بعيد، فضلًا عن أن يكون ذريعةً له، إلا أن يُعتقد بأن ذلك المخلوق مؤثرٌ بذاته في إيجاد تلك البَرَكَة على وجه الاستقلال، أمَّا إن اعتقد الإنسان أن البَرَكَة مِن الله، وأنه هو الذي يجعلها في إنسانٍ مُعيّنٍ أو شيءٍ مُعيّنٍ أو بُقعةٍ مُعيّنة، وأن البَرَكَة توجد عند هذه الأشياء لا بها؛ لأنه لا مُؤثِّر في الوجود إلا الله، فهذا عين التوحيد؛ لأنه مِن توحيد الأفعال.
وقد تضافرت الأدلة التي تثبت وجود البركة في الذوات المخلوقة بإيجاد الله تعالى لها؛ وقد حكى الله تعالى لنا قصة إنزال التابوت -الذي كان يُتَبَرَّك به- على بني إسرائيل، بما كان فيه من آثار الأنبياء؛ فقال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248].
قال في «تفسير الجلالين»: «﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ الصندوق كان فيه صور الأنبياء، أنزله على آدم، واستمر إليهم، فغلبهم العمالقة عليه وأخذوه، وكانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه في القتال، ويسكنون إليه؛ كما قال تعالى ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾: طمأنينة لقلوبكم ﴿مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾؛ وهي نعلَا موسى، وعصاه، وعمامة هارون، وقَفِيزٌ من المَنَّ الذي كان ينزل عليهم، ورُضَاضٌ من الألواح» اهـ.
وتبرك الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حياته وآثاره المنفصلة منه بعد انتقاله، وحتى الأماكن التي كان يتردد عليها، معروفة مشهورة في كتب السنة والحديث.
ومنها ما رواه البخاري ((عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ أمَّ سليمٍ كانت تبسط للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نِطَعًا، فَيَقِيل عندها على ذلك النطع. قال: فإذا نام النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذت من عَرَقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في سُكٍّ. قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة، أوصى إلىَّ أن يُجعلَ في حنوطه من ذلك السُك، قال: فجعل في حَنُوطه)).
وروى البخاري عن ابن سيرين، قال: قلت لعبيدة: «عندنا من شَعر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصبناه من قِبَلِ أنس، أو من قِبَلِ أهل أنس»، فقال: «لأن تكون عندي شَعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها».
وروى ابن السّكن عن ثابت البنانيّ أنه قال: قال لي أنس بن مالك -رضي الله عنه-: «هذه شَعرة من شَعر -رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم-، فضعها تحت لساني». قال: «فوضعتُها تحت لسانه، فدُفن وهي تحت لسانه». (الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر، 1/ 276، ط. دار الكتب العلمية).
وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/ 557، ط. دار الفكر) عن يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم إذا خلَا لهم المسجد قاموا إلى رمانة المنبر القرعا، فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك.
ولم يكن هذا منحصرًا في تبرك المفضول بالفاضل، بل قد جاء ما يفيد مشروعية تبرك الفاضل بالمفضول؛ فروى الطبراني في الأوسط ((عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يبعث إلى المطاهر، فيؤتى بالماء، فيشربه، يرجو بَرَكَة أيدي المسلمين)).
بل قد ورد في الصحيح تَبرُّك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالمطر؛ فروى مسلم عن ((أنس -رضي الله عنه- قال: قال أنس: أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مطر، قال: فحَسَر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثوبَه، حتى أصابه مِن المطر، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهدٍ بربه تعالى)).
ومن شأن العقلاء في كل الأمم احترام آثار سلفهم ومقدميهم، وقد جرى الصحابة والتابعون وعلماء الأمة وأئمتها من الفقهاء والمحدثين والمؤرخين على تعظيم هذه الأماكن والآثار الدينية، وعدوا ذلك تعظيمًا للشريعة، وجرى على هذا عملُ السلف والخلف، ولم يَقُل أحدٌ مُعتَبَر بمَنْعِ ذلك؛ لأنه شركٌ أو يؤدِّي إلى الشرك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل هناك فرق بين الفوائد البنكية والربا أم أن حقيقتهما واحدة؟
الجواب
البنك في الأصل من الكلمة الإيطالية: "بنكو" والتي تعني: مائدة، في إشارة إلى تلك المائدة التي كان يضعها الصيرفي في العصور الوسطى، ولهذه الإشارة علاقة بنشأة البنوك في العصر الحديث، وقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة "بنك"؛ وهي النطق الصوتي للكلمة الإنجليزية وأصبحت تكتب "بنك"، وتجمع على "بنوك" وأدخلت الكلمة معاجم اللغة العربية الثلاثة: الوجيز والوسيط والكبير، وعرفوه بأنه: مؤسسة تقوم بعمليات الائتمان بالاقتراض والإقراض. [المعجم الوسيط 2/ 976].
وترتبط حقيقة البنوك بعملية الصَّرف وعمل الصيارفة، والصَّرف في اللغة: يأتي بمعان، منها: رد الشيء عن الوجه، يقال: صَرَفَهُ يَصْرِفُهُ صَرْفًا إذا ردَّه، وصَرَفْتُ الرجلَ عني فانْصَرَفَ. ومنها: الإنفاق، كقولك: صَرَفْتُ المال، أي: أنفقته. ومنها البيع، كما تقول: صَرَفْتُ الذهب بالدراهم، أي: بِعْتُهُ، واسم الفاعل من هذا صَيْرَفِيٌّ وصَيْرَفٌ، وصَرَّافٌ للمبالغة، ومنها الفضل والزيادة. قال ابن فارس: الصَّرْفُ: فضل الدرهم في الجودة على الدرهم، والدينار على الدينار.
وفي الاصطلاح: عرَّفه جمهور الفقهاء بأنه بَيْعُ الثمن بالثمن، جِنْسًا بِجِنْسٍ أو بغير جِنْسٍ، فيشمل بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، كما يشمل بيع الذهب بالفضة، والمراد بالثمن ما خلق للثمنية، فيدخل فيه بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنقد.
وتساعد معرفة نشأة البنوك والنقود الورقية في إدراك حقيقتها، والوصول إلى حكم تعاملاتها؛ فكانت البداية تتمثل في عمل الصرَّاف الذي كان يقوم بتبادل النقود لسدِّ حاجة من يريد أن يستبدل الدينار بالدراهم مثلا أو العكس، أو تبديل الدنانير المكسورة أو غير ذلك.
وكان الصرَّاف دائمًا يحتاج لوجود كمية من النقد، فكان له الصندوق الذي يحفظ فيه أمواله؛ لتيسير هذه المبادلات والمعاملات اليومية؛ ونظرًا لصيانة هذه الصناديق التي لدى الصرَّاف وقربها من أماكن المعاملات، بدأ الناس في إيداع نقودهم بهذه الصناديق كأمانة للحفاظ عليها، مقابل أجرٍ يتناسب مع مدة بقاء الوديعة ومبلغها. وكان الصيارفة يعطونهم إيصالات ورقية تفيد بأن هذه الوديعة موجودة لديهم.
ولاحظ الصيارفة أَنَّ أصحابَ الودائع يتركونها فتراتٍ طويلةٍ بشكلٍ شبه دائم، حيث كان أصحاب الودائع يتعاملون بتلك الإيصالات الورقية بين الناس، بدلا من النقود المودعة لدى الصيارفة. وشجع هذا الحال الصيارفة في الإقراض من هذه الودائع مقابل فائدة، وبدأ الصيارفة لتشجيع المُودِعِين على إيداع المبالغ، يتنازلون عن أجرِ حفظ الودائع، وزيادة في التشجيع بدأ الصيارفة إعطاء المُودِعِين جزءًا من الفوائد التي تحصل من إقراض تلك الودائع ومع زيادة ثقة المتعاملين في هذه الإيصالات تمَّ تبادلها، وكانت هذه الإيصالات الورقية بداية نشأة النقود الورقية، والتي كانت في أصلها تعبر عن وجود قيمة ذهبية لدى الصيرفي، وهو ما كان يعرف بقاعدة الذهب.
وكانت إيطاليا أول دولة تعرف البنوك في شكل قريب من الشكل المعاصر، حيث أنشئ أول بنك في التاريخ عام 1157م في مدينة البندقية الإيطالية.
والبنك في عصرنا الحالي هو مؤسسة وسيطة قامت للتوفيق بين المُودِعِين الذين لديهم فائض ادخاري، والمستثمرين الذين لديهم حاجة لتلك المدخرات، على أن تتلقى تلك المؤسسة أموال المُودِعِين، وتدفعها للمستثمرين مقابل مبلغ مالي تأخذه من المستثمرين يتم توزيعه بين البنك وبين المودعين.
ويقوم البنك بوظائف أخرى هي: الاحتفاظ بودائع العملاء بالحسابات الجارية دون فائدة، والقيام ببعض الخدمات الخاصة بالأوراق المالية، مثل: شراء وبيع الأوراق المالية وحفظها، وتحصيل الكوبونات نيابة عن العملاء أو دفعها نيابة عن الشركات، وخصم الأوراق التجارية أو تحصيلها في ميعاد استحقاقها أو تسديد قيمة أوراق الدفع نيابةً عن العملاء، وشراء وبيع العملات الأجنبية.
ولم تكن الوظائف الثانوية للبنك -والتي تُعدُّ في أغلبها خدمات يقوم بها البنك نظير أجر، أو التجارة في العملات- مثار خلاف بين العلماء أو تخوف من شبهة ربا في تلك المعاملات. وإنما كانت وما زالت الوظيفة الأساسية للبنك منذ نشأتها في ديار المسلمين، هي مثار الجدل بين علماء الإسلام بشأن حِلِّها أو حرمتها، وتتلخص هذه الوظيفة في قبول الودائع المالية من المودعين ثم استثمارها، وإعطاء المودع نسبة محددة على مبلغ الوديعة.
وقد اختلف الفقهاء منذ ظهور البنوك في العصر الحديث في حكم هذه المعاملة؛ وهذا الاختلاف نظرًا لاختلافهم في التصوير والتَكْيِيف.
وهناك خمس نظريات تحاول تكييف وضع البنكنوت الحالي في صورة اقتصادية ليمكن الحكم عليه فقهيًّا؛ وهي: نظرية السندية، ونظرية العرضية، ونظرية البدلية، ونظرية إلحاقها بالفلوس، والنظرية النقدية أي أنه نقد قائم بذاته.
وإذا صَوَّرنا المعاملة بين البنك والمودعين على أنها قرض، فإننا نجد أيضًا العلماء قد اختلفوا في التَّكْيِيف، هل هو قرض على ذهب أم سلعة؟
قال بعضهم: الفلوس مَالٌ وهذا الورق البنكنوت وسيط، وبعضهم قال: لا، هذا ليس ربا بل بيع وأنها أوراق، ولا ربا في الفلوس ولو راجت رواج النقدين -والفُلُوسُ في الاصطلاح القديم: جمع فِلْس، وهو قطعة من نحاس ونحوه يتعامل بها [انظر: حاشية الترمسي على شرح المقدمة الحضرمية 7/ 8، ط. دار المنهاج ]-؛ كما نصَّ العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" [2/ 34، ط. دار المعرفة] بقوله: "(والنقد بالنقد) والمراد به الذهب والفضة مضروبًا كان أو غير مضروب (كطعام بطعام) في جميع ما سبق من الأحكام، فإن بِيعَ بجنسه كذهب بذهب اشترط المماثلة والحلول والتقابض قبل التفرق والتخاير، وإن بيع بغير جنسه كذهب بفضة جاز التفاضل أو اشترط الحلول والتقابض قبل التفرق أو التخاير... وعلة الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالبًا كما صحَّحه في المجموع، ويعبر عنها أيضًا بجوهرية الأثمان غالبًا، وهي منتفية عن الفلوس وغيرها من سائر العروض، لا أنها قيم الأشياء، كما جرى عليه صاحب التنبيه؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا، وليس مما يُقَوَّم بها، واحترز بـ"غالبًا" عن الفلوس إذا راجت، فإنه لا ربا فيها" اهـ.
فعِلَّة تحريم الربا في النقدين هي الثَّمَنِيَّةُ الغالبة التي يعبر عنها بجوهرية الأثمان غالبًا؛ لأنه لو كانت العلة معنى يتعداهما لما جاز إسلامهما في غيرهما، ولكن لما جاز إسلام الذهب والفضة في غيرهما من الأموال دل على أن العلة فيهما لمعنى لا يتعداهما، وهو أنهما من جنس الأثمان. [انظر: أسنى المطالب مع حاشية الرملي 2/ 22، ط. دار الكتاب الإسلامي].
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح المنهج" [3/ 46، ط. دار الفكر]: "(إنما يحرم) الربا (في نقد) أي ذهب وفضة ولو غير مضروبين كحُلِيٍّ وتِبْرٍ، بخلاف العروض كفلوس وإن راجت؛ وذلك لعلة الثمنية الغالبة، ويعبر عنها أيضا بجوهرية الأثمان غالبًا، وهي منتفية عن العروض" اهـ.
وقال الزركشي في "المنثور" [3/ 244، ط. وزارة الأوقاف الكويتية]: "ولو راجت الفلوس رواج النقود، فهل تعطى حكمها في باب الربا؟ وجهان، أصحهما: لا؛ اعتبارًا بالغالب" اهـ.
وورد في كتاب "الأم" للإمام الشافعي [3/ 15، ط. دار الفكر] نَصٌّ على أن العلة في النقدين الثمنية، حيث قال: "والذهب والوَرِقُ مباينان لكل شيء؛ لأنهما أثمان كل شيء، ولا يقاس عليهما شيء من الطعام ولا من غيره" اهـ.
وهذه العلة هي التي تسمى في اصطلاح الأصوليين بـ"العلة القاصرة"، وهي التي يكون التعليل فيها بنفس المحل، أو جزئه. ومثال كونها محل الحكم: قولنا: "الذهب ربوي لكونه ذهبًا" -كما هي قضيتنا-، ومثال كونها جزء محل الحكم قولنا: "الخمر حرام؛ لأنه معتصر من العنب فقط"، والمحل مركب من كونه معتصرًا ومن كونه مسكرًا، فالتعليل بالاعتصار تعليل بجزء المحل. [انظر: شرح الكوكب المنير ص 492، جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية العطار 2/ 282-284]
وقال الإمام النووي في "المجموع" [9/ 490، ط. المنيرية]: "أما الذهب والفضة فالعلة عند الشافعي فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما لا تتعداهما؛ إذ لا توجد في غيرهما" اهـ.
وقد لاحظ هذا القول ارتفاع الغطاء الذهبي سنة 1973م، وأن الدولار أصبح هو الغطاء البديل عن الذهب حيث هو غالب عملة الاحتياط، فلم تعد الأوراق النقدية سندًا لقيمة ذهبية.
ومن القائلين بذلك القول أيضًا: الظاهرية؛ حيث لم يتجاوزوا الأصناف الستة الربوية، وقالوا: لو كان الربا يجري في كل مكيل وموزون لقال صلى الله عليه وآله وسلم: المكيل بالمكيل والموزون بالموزون والنقد بالنقد؛ لأنه أعم وأوضح، ومناسب لما أوتيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من جوامع الكلم. وجرى على هذا القول أيضًا الأمير الصنعاني وابن عقيل الحنبلي. وعليه: فلا ربا في الفلوس ولا الأوراق النقدية ولا غيرهما مما جعل نقدًا، وعلة الربا تعبدية غير معللة.
وقال بعضهم: التصوير: أنها استثمار، والتكييف: أنها مضاربة فاسدة، فالحكم: الحرمة، والفتوى: جواز المعاملة؛ للضرورة.
وقال البعض: التصوير: أنها استثمار، والتكييف: أنها مُضَارَبَةٌ صحيحة، والحكم: الجواز؛ لأن هناك فرقًا بين الشخصية الطبيعية والشخصية الاعتبارية، فتحديد السعر من قبيل الشخصية الطبيعية حرام، أَمَّا مع الشخصية الاعتبارية فجائز، فإذا قيل: ما موجب الاختلاف بين الشخصيتين؟ قالوا: الشخصية الطبيعية لها ذِمَّةٌ واحدة ولها تعامل واحد، والاعتبارية لها ذمم كثيرة وتعاملات كثيرة، وعندها ما يُسمَّى (Backcasting) أي: التنبؤ للخلف، وعندها (Forecasting) أي: التنبؤ للمستقبل، وذلك عن طريق الحسابات الدقيقة وإلا يخرب السوق، فعن طريق التتبع الخلفي يقولون: أنا بالتجربة المتكررة أكسب كل يوم (2)- أول يوم (2)، ثاني يوم صارت (4)، الثالث صارت (6)، ... (8) إذًا غدًا لا بد أن يكون (10)؛ بناءً على الرؤية الخلفية، بجانب أن البنك المركزي في بعض الأحيان يضمن رأس المال.
والبنوك تختلف عن الشركات؛ فالشركة غالبًا لها أموال وتستثمرها في نشاط واحد، وقد لا تدري كيف تستثمرها أصلًا، أَمَّا البنك فالأمر فيه مختلف؛ لأن فيه تعاملات كثيرة جدًّا، إذا خسرت واحدة ربحت الأخرى.
وبعضهم صَوَّرَها على أَنَّهَا استثمار، وكَيَّفَهَا على أنها وكالة استثمارية، وهي وسيط استثمار، إذًا فالحكم والفتوى على الحِل.
وبعضهم احتار في التصوير: هل هي استثمار أم قرض؟ فالتَّكْييف: شُبْهَةٌ، والحكم: شبهة، والإفتاء: أنها شبهة، فيجري فيها ما يجري في الشبهات.
فالحاصل أن الخلاف قد وقع في تصوير هذه المسألة، والقواعد المقررة شرعًا: أنه إِنَّما ينكر ترك المتفق على وجوب فعله أو فعل المتفق على حرمته، ولا ينكر المختلف فيه. ويجب على كل مسلم أن يُدْرك أَنَّ الرِّبا قد حرمه الله سبحانه وتعالى، وأنه متفق على حرمته، ويجب عليه أن يدرك أن أعمال البنوك اختلف في تصويرها وتكييفها والحكم عليها والإفتاء بشأنها، وأن يدرك أن الخروج من الخلاف مُستحب، ومع ذلك فله أن يقلد من أجاز، ولا حرمة عليه حينئذٍ في التعامل مع البنك بهذه المعاملة.
إلا أن القول الذي ذهب إلى توصيف المعاملة بين البنك والمودِع والمستثمِر، أنها من قبيل الاستثمار هو الأولى بالاتباع، ونرى الأخذ به لرعاية مصالح الناس في هذا العصر والمحافظة على أموالهم وحقوقهم، فيجوز للمسلم أن يُودِعَ هذه الأموال التي يستثمرها له البنك في تمويل المشروعات الكبيرة، ويجوز له أخذ العائد الاستثماري عن هذا المبلغ، وإن كان مُحددًا، كما يجوز للبنك أن يأخذ كذلك العائد المتفق عليه مع أصحاب المشروعات الكبيرة التي قام البنك بتمويلها، فهذه المعاملة هي تمويل واستثمار، وليست قرضًا، ولذا فهي من العقود الجديدة غير المسماة التي يجوز استحداثها.
وهذا هو الذي أفتى به مجمع البحوث الإسلامية بمصر في جلسة الخميس 23 من رمضان 1423ﻫ، الموافق 28 من نوفمبر 2002م.
وكل ذلك إنما هو من خلال الحالة المصرية طبقًا لآخر تعديلات قانون البنوك، ونظام البنك المركزي وقواعد الجهاز المصرفي، وكل الأنظمة المشابهة لذلك في الدول الأخرى، أما النظم التي لا تشابه ذلك أو تعده قرضًا أو تجيز الإقراض مع الزيادة، فالأصل حينئذ هو الحرمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحساب الفلكي لمعرفة أوائل الشهور
الحساب الفلكي يُؤخَذ به في النفي لا في الإثبات؛ أي: أن الرؤية البصرية هي المعتمدة إلا إذا خالفت الحساب الفلكي المقطوع بدقته، فإذا خالفته لا تُعتَمَد، ولا تُعتَبر حينئذ شهادة مَن شَهِد برؤية الهلال لمخالفتها الحساب، وبهذا يتم الجمع بين الأصل وهو الرؤية البصرية المأمور بها كأصل للمسألة، والحساب الفلكي المقطوع بدقته في عصرنا.
وأما عن القضية المتعلقة باختلاف المطالع: فإن العلماء قد اختلفوا في اعتباره من عدمه في خصوص ما يترتب على رؤية الهلال في إحدى البلدان من وجوب الصوم أو الفطر على غيرها ممن لم يشاهد فيها الهلال.كما سيأتي ذكره فيما بعد.
فذهب الحنفية -كما نص عليه الإمام النسفي في «كنز الدقائق» (1/ 321، مع شرح تبيين الحقائق للزيلعي ط. دار الكتاب الإسلامي) والعلامة ابن عابدين في «تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان» (ص: 27- 28، ط. مطبعة معارف بدمشق)-: إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ بمعنى أنه إذا رأى الهلالَ أهلُ بلد ولم يره أهل بلد آخر وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان.
وذهب المالكية إلى أن رؤية الهلال بجماعة مستفيضة في بلد يلزم غيرها من البلاد مطلقًا؛ قال سيدي خليل في مختصره: «وعم إن نقل بهما عنهما» اهـ، أي: عَمَّ وجوب الصوم سائرَ البلاد القريبة والبعيدة إذا نقل بعدلين عن عدلين، أو الاستفاضة عن الاستفاضة، فإذا رؤي وثبت الهلال في مكان ما فإن هذه الرؤية تعم جميع الأقطار. (انظر: «شرح مختصر خليل للخرشي» 2/ 236، ط. دار الفكر، و»حاشية الدسوقي» 1/ 510، ط. دار إحياء الكتب العربية).
وعند الحنابلة أيضًا أنه لا عبرة باختلاف المطالع، قال العلامة ابن مفلح في «الفروع» (3/ 12، ط. عالم الكتب): «(وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد لزم الناس كلهم الصوم) لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره: فإن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضًا، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضًا» اهـ. وكذلك في «الإنصاف» للمرداوي (3/ 273، ط. دار إحياء التراث العربي).
ودليلهم: ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «صُوموا لرؤيته وأَفطِروا لرؤيَتِه»، فهو يخاطب سائر أهل الآفاق، ولم يقيد بأهل بلد دون غيرهم، فإذا وجب اعتبار رؤية أهل بلد في الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضًا.
قال العلامة البهوتي في «شرح منتهى الإرادات» (1/ 471، ط. عالم الكتب): «(وإذا ثبتت رؤيته) أي: هلال رمضان (ببلد لزم الصوم جميع الناس) لحديث: «صوموا لرؤيته»، وهو خطاب للأمة كافة» اهـ.
وأما الشافعية فذهبوا إلى أن هلال رمضان إذا رؤي في بلد ولم يُرَ في غيرها، فإنْ تقارَبَ البَلَدَان فَهُمَا كالبلد الواحد ويَلزم أهلَ البلد الآخر الصومُ، وإن تَبَاعَدَا فلا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «المنهج» و»شرحه» (2/ 308- 309، ط. دار الفكر): «(وإن رُئِيَ) الهلال (بمحَلٍ لزم حكمه محلا قريبًا) منه، (وهو) يحصل (باتحاد المَطلَع) بخلاف البعيد منه، وهو يحصل باختلاف المَطلَع أو بالشك فيه كما صَرَّح به في الروضة كأصلها، لا بمسافة القَصر» اهـ.
ونقل ابن المنذر أن رؤية الهلال لا تلزم غير أهل بلد الرؤية عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه. كما في «المجموع» للإمام النووي (6/ 282، ط. المنيرية).
ودليلهم: ما رواه مسلم عن كُرَيب بن أبي مسلم مولى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمْتُ الشامَ فقَضَيْتُ حاجتها واستهل عَلَيَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قَدِمْتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أَوَ لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الحديث ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم.
ومورد هذا النص في الشام والحجاز، وقد وجد بينهما مسافة القصر، واختلاف الإقليم، واختلاف المطالع، واحتمال عدم الرؤية.
فأما احتمال عدم الرؤية فهو احتمال بعيد؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لكريب: أنت رأيته؟ فقال له كريب: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية.
وأما احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم فليس متجهًا أيضًا؛ كما حققه العلامة الإمام محمد بخيت المطيعي «في إرشاد أهل الملة» (ص: 279، ط. مطبعة كردستان العلمية) بقوله: «إذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم، وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع؛ فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية: أن هذا يرى وهذا لا يرى، بل المراد: أن رؤية هذا للهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر؛ لأنه لا غروب ولا هلال في بلده، وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول» اهـ.
أما ما استدل به الأولون من تعلق الخطاب بمطلق الرؤية في حديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» فهو صحيح، لكنه لا يشمل إلا كل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب، أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب؛ بأن كان وقت الغروب عند الرائين هو وقت طلوع الشمس عند غيرهم، فلا يجب عليهم صوم؛ لانتفاء سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب، فليس الحديث بِدَالٍّ على عدم اعتبار المطالع.
والذي قرره مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من 30 سبتمبر إلى 27 من أكتوبر سنة 1966م بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية أنه: «لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدت الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية، وإن قَلَّ، ويكون اختلاف المطالع معتبَرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة» اهـ.
وتأكد هذا أيضا في قراره رقم [42] في جلسته الثانية في دورته الثامنة والعشرين التي عقدت بتاريخ 23 ربيع الآخر لسنة 1412هـ الموافق 31 من أكتوبر لسنة 1991م بشأن رؤية الهلال، ونصه: «أنه إذا تعذر دخول الشهر القمري، وثبتت رؤيته في بلد آخر تشترك مع المنطقة في جزء من الليل، وقال الحسابيون الفلكيون: إنه يمكث لمدة عشر دقائق فأكثر بعد الغروب، فإن دخول الشهر العربي يثبت» اهـ.
الانتماء للوطن لا يتنافى مع الانتماء للإسلام
السؤال
هل الانتماء إلى الوطن يتنافى مع الانتماء إلى الإسلام؟ وما الحكم إذا حصل تعارض بينهما؟ كأن صارت البلد التي يحمل جنسيتها تعادي الإسلام وتحارب المسلمين.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: فالانتماء مصدر «انتمى» ومعناه الانتساب إلى شيء، قال الأزهري: «انتمى فلان إلى فلان إذا ارتفع إليه في النسب» [تهذيب اللغة: 15/ 371، ط. دار إحياء التراث العربي]، والانتماء: هو حاجة الفرد لإقامة علاقات مع آخرين، والشعور بالانتماء لجماعة معينة كالأسرة والأصدقاء والوطن والمذهب وغير ذلك، فالإنسان يشعر بالحاجة إلى الانتماء التي قال عنها بعض الباحثين: إنها أحد الحاجات النفسية وهي أن يكون الفرد مخلصًا لأصدقائه، وأن يشارك في جماعة ودودة، وأن يفضل العمل مع الأصدقاء بدلا من العمل بمفرده، وهي إحدى الحاجات الظاهرة التي تتحقق في فعل صريح عندما تستثار في المواقف المختلفة [استكشافات في الشخصية الإنسانية لهنري موراي: ط. جامعة أكسفورد].
والانتماء تختلف روابطه باختلاف حاجة الفرد إليه، فهناك رابطة تجمع بعض الأفراد لعمل معين، ورابطة تجمع أفرادها للوطن الذي يعيشون فيه، ورابطة تجمع أفرادها للتعلم كالمدرسة، فكل هذه الروابط انتماءات للجماعة التي يعمل بها، تشبع الحاجات الاجتماعية لدى الأشخاص، وتشعره بقبول الآخرين له، فينتمي الشخص إلى أسرته، وإلى عائلته، وإلى منطقته، وإلى بلده، وإلى دينه، وإلى مذهبه، وهذا المعنى وهذا الشعور تقره شريعة الإسلام؛ لأن الشريعة تراعي دوافعه الفطرية، فالإنسان أصله واحد وهو آدم -عليه السلام- يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وخلق الله الناس شعوبًا وقبائل؛ لتتعارف وتتعاون وتتواد فيما بينها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ويبين الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره علة جعل الله الناس شعوبًا وقبائل فقال: «وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا، والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات؛ إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والقبائل مع الشعوب؛ لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها، فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظامًا محكمًا لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل، ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل، ثم بينه وبين جماعات أكثر، وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم». [التحرير والتنوير: 26/ 260، ط. الدار التونسية للنشر].
والانتماء إلى الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو البلد يوجب عليك حسن معاملة الناس، وهذا نراه في أمر الله سبحانه عباده بالإحسان إلى ذوي القربى، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الوالدين وأن نحسن القول إلى الناس فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
والانتماء إلى الوطن وحبه من الإسلام، حيث تجد في القرآن أن الله قرن بين مشقة قتل الأنفس والخروج من الوطن امتحانًا واختبارًا للمنافقين، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فإقران الله قتل الأنفس والخروج من الديار، يدل على مشقة الخروج من الديار.
يقول أبو حيان في تفسيره: «وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار؛ إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس» [تفسير البحر المحيط: 3/ 696، ط. دار الفكر]، وعاب الله على بني إسرائيل أنهم يقتلون بعضهم بعضًا، ويخرجون فريقًا منهم من ديارهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يُخرجوا من ديارهم أحدًا فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85].
وكان رسول الله -صلى الله عيه وسلم- يحب وطنه وبلده، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله عنه- قال: ((رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحزورة -موضع بمكة- فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)). وروى الترمذي أيضًا عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)) فهذان الحديثان يدلان على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب بلده ويحن إليها، والصحابة -رضي الله عنهم- ابتلاهم الله بالبعد عن أوطانهم التي عاشوا وتربوا فيها فأمرهم الله بالهجرة، وهاجروا -رضي الله عنهم-، وتحملوا مشقة الخروج عن الوطن، فكافأهم الله عز وجل بالرضا عنهم وإدخالهم الجنات قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100].
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وعَك أبو بكر وبلال -رضي الله عنهما-، قالت: فدخلت عليهما، قلت: يا أبت كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك، قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلـة * بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدَنْ يومــا مياه مَجَنَّة * وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطَفيل.
«ومياه مَجَنَّة، وشامة، وطَفيل، مواضع بمكة يشتاق إلى رؤيتها»، ثم قال بلال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة))»، وعلى هذا دأب العلماء ينسبون أنفسهم إلى أوطانهم وبلادهم التي ولدوا فيها ونشأوا فيها فيقولون: فلان البصري، وفلان المكي، وفلان المدني، والبغدادي، والعراقي ونحو ذلك، وأجمع العلماء على ذلك.
والانتماء إلى الإسلام دينا لا يعارض الانتماء إلى الوطن، ولا يتصور أن يكون هناك تعارض، فالإسلام دائرته أوسع من الوطن، ومن البلد، ومن القرية، بل ومن المذهب التعبدي، يقول تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، فآخى الله المؤمنين بعضهم ببعض فوق دائرة الوطن، فدائرة الإسلام أوسع وأشمل من دائرة الوطن، ولا يوجد تعارض بينهما، فلقد فرض الله التعاون بين المسلمين على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وأمر الله بالاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق على أي أساس، وعدم التعصب لمذهب، أو بلد، أو جماعة، أو غير ذلك، فالمؤمنون إخوة نتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
وروى أبو داود عن جبير بن مطعم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا مَن دعا إلى عَصَبيَّة، وليس منا من قاتل عصبيةً، وليس منا مَن مات على عصبية))، فالحديث دليل على النهي عن التعصب، فالتعصب فُرقة، والوحدة ألفة، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي نضرة في حجة الوداع عن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق فقال: ((أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبَلَّغتُ؟ قالوا: بَلَّغ رسول الله))، فالانتماءات المختلفة لا تعارض بينها، بل تتكامل وتتوافق بالتعاون وعدم التناحر وعدم التعصب.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإن الأصل في الانتماء إلى الوطن أنه لا يتنافى مع الإسلام، بل يتكامل ويتوافق بالتعاون وعدم التعصب تحت أخوة المؤمنين بعضهم بعضًا، فإذا شعر إنسان بالتعارض أحيانًا، فعليه حينئذ سؤال أهل العلم؛ ليدلوه على المخرج. والله تعالى أعلم.
فصل التوأمين الملتصقين
المبـــــــادئ
1- يجوز شرعًا إجراء عملية الفصل بين التوأمين الملتصقين بإذنهما إن كانت أهلية الإذن متحققة فيهما وإن كانا ناقصَي الأهلية فإن الحَقَّ في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب قوة التعصيب.
2- من القواعد الشرعية المقررة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، وأن الضرر لا يزال بالضرر المساوي أو الأشد.
3- يصح زواج التوائم الملتصقة، متى توفرت فيه شروطه وأركانه كان عقدًا صحيحًا.
4- من المقرر شرعا أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع.
الســــــــــؤال
- ما الحكم الشرعي في فصل التوأمين الملتصقين؟
- من تكون له سلطة الإذن بإجراء عملية الفصل: هل هي أسرة التوأمين، أو الأطباء، أو القضاء، أو التوأمان إذا بلغا؟ وما العمل إذا كانت هناك فرص كبيرة لنجاح عملية الفصل ورفضت أسرة التوأمين؟
- هل يجوز إجهاض الأم الحامل إذا اكتشف وجود توائم ملتصقة أثناء الحمل؟
- هل التوأمان الملتصقان روح واحدة أو اثنتان، شخص واحد أو شخصان؟
- هل يحق للتوأمين الملتصقين الزواج، وما الحكم والكيفية؟
وذلك لعرضها على اللجنة الفقهية بالمجمع؛ لاتخاذ ما ترونَه مناسبًا نحو هذا الشأن.
شاكرين لكم، ولكم تحياتي
الجــــــــــواب
من المعروف أن الحمل ينشأ إذا لُقِّحت البُيَيضة الأنثوية بنطفة الرجل، فيعلق الجنين الذي ينغرس في بطانة الرحم ليأخذ في النمو، وعندما يكتمل نموه يخرج للحياة في صورة عادية، وقد يحدث أن يفرز مبيض المرأة أكثر من بييضة، وتُلَقَّح كلُّ واحدة بحيوان منوي أو تنقسم البييضة بعد الإخصاب إلى خليتين، أو في طور متقدم تنقسم الكتلة الخلوية إلى جزئين، ثم تواصل كل خلية نموها إلى أن يتكون الجنين الكامل، ومن هنا تأتي التوائم.
وقد يحدث ألا يتم الانفصال بشكل كامل فينتج عن ذلك ما يعرف بـ"التوائم الملتصقة" أو "التوائم السيامية". هذه الحالة يكون الطفلان متصلين أو ملتصقين أو ملتحمين ببعضهما في منطقة ما من الجسد مما يستدعي أن يتم إجراء عملية فصل بينهما.
وأما تسمية هذا النوع النادر من التوائم بـ "التوائم السيامية"، فهو نسبة إلى توأمين ولدا بمدينة "سيام" في جنوب شرق آسيا عام 1811م لأبوين صينيين وكانا ملتصقين من جهة الصدر، ويقال: إن هذين التوأمين قد تزوجا من شقيقتين إنجليزيتين وأنجبا اثنين وعشرين طفلا، وقد توفيا عام 1874م، ولم يكن زمن الوفاة بينهما كبيرًا حيث توفي أحدهما قبل الآخر بحوالي ساعتين، ويقال إن النسبة صارت إليهما لأنهما أول حالة طبية رُصدت في هذا الصدد؛ ولكن الإمام أبا الفرج بن الجوزي حكى في تاريخه "المنتظم" عن حالة توأمين ملتصقين رُصِدَت سنة نَيِّفٍ وأربعين وثلاثمائة، وذكر ذلك في حوادث عام 352هـ، أي قبل حدوث حالة التوأمين السياميين بقرون عدة، قال ابن الجوزي: "أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد، وأبو عمر أحمد بن محمد الخلال، قالا: حدثنا جماعة كثيرة العدد من أهل الموصل وغيرهم ممن كنا نثق بهم ويقع لنا العلم بصحة ما حدثوا به؛ لكثرته وظهوره وتواتره أنهم شاهدوا بالموصل سنة نَيِّفٍ وأربعين وثلاثمائة رجلين أنفذهما صاحب أرمينية إلى ناصر الدولة؛ للأعجوبة منهما، وكان لهما نحوٌ من ثلاثين سنة وهما ملتزقان من جانب واحد ومن حد فويق الحَِقو -أي: الخاصرة- إلى دُوَين الإبط، وكان معهما أبوهما، فذكر لهم أنهما وُلدا كذلك توأمًا تراهما يلبسان قميصين وسراويلين كل واحد منهما، لباسهما مفردًا، إلا أنهما لم يكن يُمَكِّنهما -أي القميص-؛ لالتزاق كتفيهما وأيديهما في المشي لضيق ذلك عليهما، فيجعل كل واحد منهما يده التي تلي أخاه من جانب الالتزاق خلف ظهر أخيه ويمشيان كذلك، وإنما كانا يركبان دابة واحدة، ولا يُمكِن أحدهما المُنصَرَف إلا أن ينصرف الآخر معه، وإذا أراد أحدهما الغائط قام الآخر معه وإن لم يكن محتاجًا، وأن أباهما حدثهم أنه لما ولدا أراد أن يفرق بينهما، فقيل له: إنهما يَتلََفان؛ لأن التزاقهما من جنب الخاصرة، وأنه لا يجوز أن يَسلَما، فتركهما، وكانا مسلمَين، فأجازهما ناصر الدولة وخلع عليهما، وكان الناس بالموصل يصيرون إليهما فيتعجبون منهما ويهبون لهما. قال أبو محمد: وأخبرني جماعة أنهما خرجا إلى بلدهما، فاعتلَّ أحدهما ومات وبقي الآخر أيامًا حتى أنتن أخاه وأخوه حيٌّ لا يمكنه التصرف، ولا يمكن الأب دفن الميت إلى أن لحقت الحيَّ علة من الغم والرائحة، فمات أيضًا فدفنا جميعًا، وكان ناصر الدولة قد جمع لهما الأطباء، وقال: هل من حيلة في الفصل بينهما؟ فسألهما الأطباء عن الجوع، هل تجوعان في وقت واحد؟ فقال: إذا جاع الواحد منا تبعه جوع الآخر بشيء يسير من الزمان، وإن شرب أحدنا دواء مسهلا انحلّ طبع الآخر بعد ساعة، وقد يلحق أحدَنا الغائطُ ولا يلحق الآخرَ، ثم يلحقه بعد ساعة. فنظروا فإذا لهما جوف واحد، وسُرّة واحدة، ومعدة واحدة، وكبد واحد، وطحال واحد، وليس من الالتصاق أضلاع، فعلموا أنهما إن فُصلا تلفا، ووجدوا لهما ذكرين، وأربع بيضات، وكان ربما وقع بينهما خلاف وتشاجر فتخاصما أعظم خصومة، حتى ربما حلف أحدهما لا كَلَّم الآخر أيامًا، ثم يصطلحان".اهـ.
ويُروى أن هناك حالة أخرى رآها الإمام الشافعي -رضي الله عنه-، رواها أبو نُعَيم في "الحِلية"، لكن الحافظ الذهبي استنكرها في "السِّيَر".
أما الحكم الشرعي لإجراء عملية الفصل بين التوأمين الملتصقين، فالأصل فيه أنه جائز؛ والأصل في جوازه ما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: «بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أُبَيّ بن كعب طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه»، وهذا الحديث أصل في جواز التدخل الجراحي متى احتيج إليه؛ فقطع العرق وكَيُّه ضَربٌ من ضروب الجراحة، ولا شك أن فصل التوأمين من آكد الحاجيات التي إن فاتت التوأمين حصل لهما من ضروب العنت والجهد والمشقة الحسية والمعنوية ما الله به عليم.
ولكن يجب عند الإقدام على إجراء جراحة الفصل بين التوأمين مراعاة الضوابط الآتية:
أولا: أن يكون القائمون بإجرائها من الأطباء المختصين الأكفاء.
ثانيًا: أن يأذن في إجرائها التوأمان معًا إن كانت أهلية الإذن متحققة فيهما؛ بأن يكونا بالغَين عاقلَين مختارَين، فإن كانا ناقصَي الأهلية فإن الحَقَّ في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب قوة التعصيب، فيقدم من ذوي الأهلية: الأب، ثم الجـد وإن علا، ثم الابن -إن كان-، ثم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم بنو الإخوة الأشقاء، ثم بنو الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم بنو الأعمام الأشقاء، ثم بنو الأعمام لأب، وهذا الترتيب هو الأصل في الإرث لولا أنهم قدموا الابن على الأب؛ لأن الغالب بقاء الابن وكونه في بداية حياته، وكون الأب والجد في إدبار حياتهما.
ويلي الأقارب في سُلطَة الإذن صاحب الولاية العامة، وهو الحاكم أو القاضي في زماننا هذا.
ثالثًا: ألا يترتب على فصل التوأمين مفسدة تفوق مفسدة بقائهما ملتصقين كوفاتهما، أو تلف عضو من أحدهما في مقابل سلامة الآخر، وكذلك يحرم إجراء الجراحة لو غلب على الظن حصول ذلك، ومن القواعد الشرعية المقررة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، وأن الضرر لا يزال بالضرر المساوي أو الأشد. يقول الإمام البَغَوي في شرح السُّنَّة: "والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورًا".اهـ.
وكذلك إذا أكد الأطباء المختصون باليقين أو الظن الغالب أن أحدهما سيعيش بعد الفصل والآخر سيموت بحيث إنهما لو استمرا على ذلك لمـاتا جميعًا جاز الفصل.
ولكننا أيضًا نشير إلى أنه يصعب وضع ضابط واحد لكل الحالات، بل نقول: إنه ينبغي أن تدرس كل حالة على حدة؛ لأنه قد يكون الأرجح في بعض الحالات أن يُضَحَّى بعضو لأحد التوأمين أو لكليهما في مقابل أن يتم لهما الانفصال الآمن، وتكون المفسدة الناشئة عن هذا أهون بكثير من مفسدة بقائهما متصلَين مع سلامة أعضائهما.
رابعًا: أنه لا يجوز لطبيب إجراء الجراحة إذا لم يوافق عليها من له حق الإذن. فإن كانت هناك فرصة كبيرة لنجاح عملية الفصل ورفضت أسرة التوأمين، فإنه لا يتم إجراء العملية إلا بعد رفع الأمر للقاضي؛ ليرفع النـزاع بين الولي الطبيعي وبين المتخصصين الذين يرون وجوب إجرائها.
خامسًا: أنه لا يجبر التوأمان عليها إن كانا بالغين عاقلين، ولو استمر موجبها، طالما كانا راضيين بما ابتليا به، بخلاف ما إذا قبل أحدهما ورفض الآخر، فيرجع حينئذ للأطباء المختصين، فإن قالوا بإمكان إجراء جراحة الفصل الآمن بين التوأمين، جاز إجبار الرافض منهما عليها؛ لما في امتناعه من مضارة أخيه.
أما بخصوص حكم الإجهاض إذا ما اكتشف الطبيب وجود توائم ملتصقة أثناء الحمل، فيُفرَق هنا بين حالتين، الأولى: أن يكون قد مر على الحمل مائة وعشرون يومًا فأكثر في بطن الأم، فإذا كان كذلك فقد نفخت فيه الروح، ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إنَّ أَحَدَكُم يُجمَع خَلقُه في بَطن أُمِّه أربعين يَومًا، ثُمَّ يَكون عَلَقَة مِثلَ ذلك، ثم يَكون مضغة مِثلَ ذلك، ثُمَّ يَبعَثُ الله مَلَكًا فيُؤمَر بأَربَع كَلِمات، ويُقالُ له: اكتُب عَمَلَه ورِزقَه وأَجَلَه وشَقِيٌّ أو سَعيد، ثُمَّ يُنفَخ فيه الرُّوح»، وإذا ما نفخت الروح في الحمل لم يجز إسقاطه، وكان إسقاطه قتلا للنفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق.
أما إذا كان الحمل لم تنفخ فيه الروح بأن كان قبل هذه المدة فيجوز إسقاطه والحالة هذه طالما لا يوجد ضرر محقق أو مترجح على الأم من جَرّاء الإجهاض؛ وذلك اتقاء للمشكلات التي تتلازم مع ولادة التوائم الملتصقة؛ من صعوبة العملية التي تكون في الغالب بشق البطن، مع احتياجها لتقنية ومهارة عالية، فضلا عن التكاليف الباهظة لعملية الفصل وقد أجاز بعض العلماء إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه إذا كان ثمَّ عذر معتبر؛ كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه، كما نقله ابن عابدين في حاشيته عن ابن وهبان من فقهاء الحنفية، ولا شك أن ما ذكرناه من المشكلات أقوى في الإعذار مما ذكره ابن وهبان.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرح البهجة: "إسقاط الحمل إن كان قبل نفخ الروح جاز، أو بعدها حَرُم". اهـ.
وفي متن الإقناع للحجّاوي من كتب السادة الحنابلة: "ويجوز شرب دواء لإلقاء نطفة".
وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي أن ظاهر كلام ابن عَقيل في الفنون: أنه يجوز إسقاطه قبل أن ينفخ فيه الروح. قال: "وله وجه".
أما أنّ كل واحد من التوأمين شخص مستقل له روح مغايرة للآخر فهذا مما لا ينبغي التوقف في صحته، ومن أبلغ الأدلة عليه أن كل واحد منهما يكون له تفكيره وميوله التي قد لا يشاركه فيها الآخر، وقد يموت أحدهما ويبقى الآخر حيًّا بعده زمنًا كما هو مشاهد معلوم، وهذا لا يكون إلا أن يكون كل منهما متميزًا عن الآخر بروحه وشخصه.
وأما عن زواج التوائم الملتصقة، فإن الزواج عقد من العقود متى توفرت فيه شروطه وأركانه كان عقدًا صحيحًا، وكما تقدم فإن كل واحد من التوأمين مستقل عن الآخر حكمًا، فإذا أجرى عقد الزواج تام الشروط والأركان صح عقده، ولم تؤثر حالة الالتصاق في إفساد العقد؛ لأنها أمر خارج عنه.
وأما عن كيفية ممارسة الحياة الزوجية فهذه أمور إجرائية تفصيلية تخضع لأحكام الشرع الكلية وقواعده العامة التي منها أن الضرر يزال، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن ما أبيح للضرورة فإنه يقدر بقدرها، وأن الحاجة تُنـَزّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، ونحو هذا من القواعد التي يتفرع عنها في هذا الصدد وجوبُ فعل أشياء، وحرمةُ فعل أشياء، واستحبابُ فعل أشياء، وكراهةُ فعل أشياء، وإباحةُ فعل أشياء، والشريعة المطهرة تستوعب هذا وغيره بمرونتها وسعتها وإحاطتها، والتفصيل في كل حالة بحسبها.
والله سبحانه وتعالى أعلم