طاعة الضابط لرؤسائه إذا أمروه بحلق لحيته
السؤال
ما مدى أحقية الجهة النظامية -كالشرطة- في إلزام الضابط أو الفرد بعدم إطلاق لحيته لتعارض ذلك مع الحياة النظامية، وضرورة إلزامه بالتعليمات التي تصدر إليه من رؤسائه إنفاذًا للقانون؟
الجواب
اللحية: هي اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن [المُحْكَم لابن سِيده 3/ 444، ط. دار الكتب العلمية].
وهي من الشعائر الدينية المطلوبة شرعًا من الرجال؛ وذلك لما رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى»، وقد ورد الأمر بإعفاء اللحية في الحديث الشريف بألفاظ مختلفة، تتبعها الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم [3/ 151، ط. دار إحياء التراث العربي] فأوصلها إلى خمس روايات؛ وهي: «أعفوا»، و«أوفوا»، و«أرخوا»، و«أرجوا»، و«وفروا».
وروى مسلم أيضًا عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -أي: الاستنجاء-»، قال مصعب بن شيبة -أحد الرواة في سند الحديث-: "ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة".
وقد اتفقت المذاهب الأربعة المتَّبعة على أن أصل إعفاء اللحية مطلوب شرعي، ثم اختلفوا في درجة الطلب: هل هو طلب جازم؟ -فيكون الإعفاء واجبًا؛ بمعنى أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه- أو هو طلب غير جازم؟ -فيكون الإعفاء مندوبًا مستحبًّا؛ بمعنى أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويكون ضِدُّه -وهو الحلق- مكروهًا؛ بمعنى أنه لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه قصدًا.
فذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة في معتمدات مذاهبهم إلى وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها.
قال العلامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" [6/ 407 -مع حاشية ابن عابدين-، ط. دار الكتب العلمية]: "يَحْرُم على الرجل قطع لحيته" اهـ.
ولكنهم قالوا أيضًا: إن من كانت على ذقنه شعرات معدودات -وهو ما يسمى بالكَوسَج- فإن إزالها له إنسان فإنه لا يلزمه ضمانها، ويستفاد من كلامهم وتعليلهم لذلك أن إزالتها حال كونها هكذا لا حرمة فيه؛ جاء في "الهداية" وشرحها "العناية" للعلامة البابرتي [10/ 281، ط. دار الفكر]: "(ولحية الكَوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة فلا شيء في حلقه)؛ لأن وجوده يشينه ولا يزينه" اهـ.
قال المطرزي في "المُغرب" [ص: 407، ط. دار الكتاب العربي]: "(الكَوسَج): مُعَرَّب، وهو الذي لحيته على ذقنه لا على العارضين" اهـ.
أما المالكية: فقد قال العلامة الشيخ محمد عليش المالكي في "منح الجليل" [1/ 82، ط. دار الفكر]: "ويَحْرُم على الرجل حلق اللحية" اهـ، ومثله في حاشية العلامة الدسوقي على الشرح الكبير لسيدي أحمد الدردير [1/ 90، ط. دار إحياء الكتب العربية].
وقال الشيخ البُهُوتي في "شرح منتهى الإرادات" من كتب الحنابلة [1/ 44، ط. عالم الكتب]: "ويعفي لحيته ويحرم حلقها" اهـ.
وهذا هو اختيار جماعة من الشافعية منهم: القفال الشاشي، وتلميذه الحليمي، وابن الرِّفعة -وحكاه عن نص الأم-، والأَذرَعي، والزركشي، وكذلك العلامة ابن زياد اليماني في فتاواه، والشيخ زين الدين الملِّيباري صاحب "فتح المعين" [انظر: حاشية ابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج لابن حجر 9/ 376، 377، ط. دار إحياء التراث العربي، مختصر المُهِمّات للزركشي ل/ 136-مخطوط بمكتبة عاطف أفندي بإستنبول برقم 1050، غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد ص81 بهامش بُغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأئمة من العلماء المتأخرين كلاهما للسيد عبد الرحمن بن محمد بن عمر المشهور باعلوي مفتي الديار الحضرمية، فتح المُعين مع شرحه إعانة الطالبين للدمياطي 2/ 386، ط. دار الفكر].
وعمدة هؤلاء: حديث الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»؛ وهذا الحديث دالٌّ على الوجوب عندهم من وجهين: الأول: من حيث الأمر، والأصل في الأمر إفادة الوجوب.
والثاني: تعليل هذا الأمر بمخالفة المشركين، والتشبه بهم حرام ومخالفتهم واجبة؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بقَوم فهو مِنهُم».
أما مذهب الشافعية فالمفتى به فيه هو استحباب إعفاء اللحية وكراهة حلقها؛ قال الإمام سراج الدين بن الملقن في كتابه: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" [1/ 712، ط. دار العاصمة]: "المعروف في المذهب الكراهة" اهـ.
وهذا هو ما اعتمده شيخا المذهب: الإمام أبو القاسم الرافعي والإمام محيي الدين النووي، ثم شيخا المتأخرين: الإمام شمس الدين محمد الرملي والإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي، ومعهم خلق من علماء المذهب الذين أُلقِيَت إليهم مقاليد الترجيح والاعتماد فيه، وصارت معرفة الراجح من المرجوح والمفتى به من عدمه مرهونةً بهم ومُعتَمِدةً عليهم.
قال العلامة ابن حجر في "شرح العباب": "قال الشيخان -يعني: الرافعي والنووي- يُكرَه حلق اللحية" اهـ [بواسطة حاشية ابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج لابن حجر 9/ 376 -بهامشها مع حاشية الشَّرْواني-، ط. دار إحياء التراث العربي].
وهذا هو صريح عبارة الإمام النووي في كتابه "التحقيق" [ل/7-مخطوط بمكتبة الأزهر الشريف 2820/ 104501-فقه عام] حيث قال: "ويكره تنقية شيب، وأخذ من حاجب ولحية وعنفقة، وتبييضه، وتصفيف لحية وعقدها وحلقها ونتفها -لا سيما أول طلوعها-، وحفها" اهـ.
ونحوه في "شرح مسلم" [3/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي]؛ حيث عَدّ حلقَ اللحية مِن الخصال المكروهة.
وقبل هؤلاء جميعًا: حجة الإسلام الغزالي؛ كما يستفاد ذلك من كلامه في "إحياء علوم الدين" [1/ 143، ط. دار المعرفة بيروت]؛ حيث نَصّ على أن في اللحية عشر خصال مكروهة، ذكرها، وعد منها: نتفها. والنتف في معنى الحلق، بل هو أبلغ منه؛ لأن الحلق يبقي على أصول الشعر بينما النتف يقتلعه من جذوره.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" [1/ 551، ط. دار الكتاب الإسلامي]: "(و) يكره (نتفها) أي: اللحية أول طلوعها إيثارًا للمرودة وحسن الصورة" اهـ.
قال الإمام شهاب الدين أحمد الرملي في حاشيته عليه معلقًا: "قوله: (ويكره نتفها أي: اللحية... إلخ) ومثله: حلقها؛ فقول الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه. ضعيف" اهـ.
وجاء في فتاوى الشهاب الرملي أيضًا [4/ 69، ط. المكتبة الإسلامية] أنه سئل: هل يحرم حلق الذقن ونتفها أو لا؟ فأجاب بأن: "حلق لحية الرجل ونتفها مكروه لا حرام، وقول الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه. ضعيف" اهـ.
وقال ابنه الإمام المحقق شمس الدين محمد الرملي في "نهاية المحتاج" [8/ 149، ط. دار الكتب العلمية]: "ويُندَب فرق الشعر وتسريح اللحية، ويُكرَه نتفها وحلقها" اهـ.
ونَصَّ الإمام ابن حجر في "تحفة المحتاج" [9/ 376، ط. دار إحياء التراث العربي] على أن القول بحرمة نتف اللحية وحلقها خلاف المعتمد، ويأتي نص كلامه قريبًا -إن شاء الله-.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "الإقناع" [4/ 346 -مع حاشية البجيرمي- ط. دار الفكر]: "ويكره حلق اللحية أول طلوعها إيثارًا للمرودة" اهـ.
قال مُحَشّيه العلامة البجيرمي: "قوله: (أول طلوعها) ليس قيدًا، وكذا الكبير أيضًا، أي: إن حلق اللحية مكروه -حتى من الرجل- وليس حرامًا، ولعله قَيَّد به لقوله: (إيثارًا للمرودة)" اهـ.
وقال العلامة شهاب الدين القليوبي في حواشيه المفيدة على شرح المحلي للمنهاج [4/ 205 -بهامش المحلي مع حاشية عميرة-، ط. مصطفى الحلبي]: "الأصح أنه يُكره حلقها -أي: اللحية- لنفسه من نفسه" اهـ.
ولا يُشَغَّب على كون هذا الحكم هو المعتمد ما قيل من أن للإمام الشافعي كلامًا في "الأم" يستفاد منه حرمة الحلق، أو ما تقدم من اختيار بعض علماء الشافعية، وذلك لأن هؤلاء المتأخرين إما من المتقدمين على الشيخين، وإما ممن جاء بعدهم؛ أما المتقدمون على الشيخين -كالقفال والحليمي-؛ فإن الإفتاء من كتب المتقدمين على أن ما فيها هو المذهب ممنوع.
قال الإمام النووي في "المجموع" [1/ 81، ط. المنيرية]: "لا يجوز لمُفتٍ على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين؛ لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح؛ لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي، ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفَين المذكورَين ونحوهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه؛ لما فيهما من الاختلاف، وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أُنْس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ومخالف لما عليه الجمهور، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصًا له" اهـ.
على أن كلام القفال والحليمي قابلٌ لأن يكون موافقًا للقول بالكراهة إن كان بلفظ: "لا يحل"؛ حملا له على معنى عدم الحل الذي يعم المكروه؛ فإن المكروه ليس حلالا بمعنى أنه ليس مباحًا، وقد أشار إلى نحو هذا المُحَقِّق ابن حجر؛ حيث قال في "التحفة" [9/ 375، 376]: "(فرع) ذكروا هنا في اللحية ونحوها خصالا مكروهة؛ منها: نتفها وحلقها، وكذا الحاجبان، ولا ينافيه قول الحليمي: (لا يحل ذلك)؛ لإمكان حمله على أن المراد نفي الحِلِّ المستوي الطرفين. والنص على ما يوافقه إن كان بلفظ: (لا يحل) يحمل على ذلك، أو (يحرم) كان خلاف المعتمد" اهـ.
وأما المتأخرون عن الشيخين، فإن كلامهم لا يقدم على كلام الشيخين كما هو المستقر في المذهب؛ جاء في كتاب "الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية" للسيد علوي السقاف مفتي السادة الشافعية بمكة المحمية في القرن الماضي [ص: 36، ضمن مجموعة سبعة كتب مفيدة]: "قال الشيخ ابن حجر وغيره من المتأخرين: "قد أجمع المحققون على أن الكتب المتقدمة على الشيخين -يعني: الرافعي والنووي- لا يُعتَد بشيء منها إلا بعد كمال البحث والتحرير، حتى يغلب على الظن أنه راجح في مذهب الشافعي. ثم قالوا: هذا في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما، فإن تعرضا له: فالذي أطبق عليه المحققون أن المعتمد ما اتفقا عليه" اهـ.
وقال العلامة المحقق الشيخ محمد بن سليمان الكردي الشافعي في كتابه: "الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية" [ص: 36، ط. دار الفاروق]: "الذي أطبق عليه محققو المتأخرين، ولم تزل مشايخنا يوصون به وينقلونه عن مشايخهم، وهم عمن قبلهم وهكذا: أن المعتمد ما اتفقا عليه -أي: الرافعي والنووي- أي: ما لم يُجمع متعقبو كلامهما على أنه سهو، وأَنّى به؟!" اهـ.
ويُعَيِّن كون القول بالكراهة هو معتمد مذهب الشافعية: أنه قد اعتمده شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وخاتمتا المتأخرين العلامة ابن حجر والشمس الرملي، ومعهم الخطيب الشربيني، وقد تقدم النقل عن بعضهم، وقال العلامة أبو بكر بن محمد شطا البكري الدمياطي في "إعانة الطالبين على حَلِّ ألفاظ فتح المعين" [2/ 386، ط. دار الفكر] -عند قول المليباري "ويحرم حلق لحية"-: "المعتمد عند الغزالي وشيخ الإسلام وابن حجر في التحفة والرملي والخطيب وغيرهم: الكراهة" اهـ.
قال العلامة الكردي في "الفوائد المدنية" [ص: 56]: "وإذا اجتمع شيخ الإسلام وابن حجر والشمس الرملي والشربيني فاعتمادهم لذي الرتبة أولى؛ لأن زكريا رحمه الله تعالى كان في الغاية من الاطلاع على المنقول، وابن حجر بمعرفته بالمُدرك واعتماد ما عليه الشيخان، والجمال الرملي بالتحري في النقل وتقرير كتبه من علماء الأئمة أهل مصر، ومثله الشربيني... ومثله الشهاب الرملي" اهـ.
وفي "الفوائد المكية" [ص: 37] نقلا عن الكردي أيضًا أنه قال: "علماء الزمازمة تتبعوا كلامهما فوجدوا ما فيهما عمدة مذهب الشافعي -رضي الله عنه-، وعندي لا تجوز الفتوى بما يخالفهما -أي: الرملي وابن حجر-، بل بما يخالف التحفة والنهاية، إلا إذا لم يتعرضا له فيفتى بكلام شيخ الإسلام ثم بكلام الخطيب... إلخ" اهـ.
ومن أهم أسباب تقديم كلام ابن حجر والرملي في كتابيهما: "التحفة" و"النهاية" واعتبار ما اعتمداه: هو أن هذين الكتابين قد قُرِءَا على علماء الشافعية فصححوهما وأَقَروا جملة ما فيهما من مسائل وأحكام.
قال العلامة السقاف في "الفوائد المكية" [ص: 37]: "ذهب علماء مصر أو أكثرهم إلى اعتماد ما قاله الشيخ محمد الرملي في كتبه خصوصًا في نهايته؛ لأنها قرأت على المؤلف إلى آخرها في أربعمائة من العلماء فنقدوها وصححوها، فبلغت صحتها إلى حد التواتر، وذهب علماء حضرموت والشام والأكراد وداغستان وأكثر اليمن والحجاز إلى أن المعتمد ما قال الشيخ ابن حجر في كتبه، بل في تحفته؛ لما فيها من إحاطة نصوص الإمام، مع مزيد تتبع المؤلف فيها، ولقراءة المحققين لها عليه الذين لا يحصون كثرة" اهـ.
أما ما نقله بعض المتأخرين عن الإمام نجم الدين بن الرفعة أنه ذكر في حواشي "الكفاية" أن الإمام الشافعي قد نَصَّ في "الأم" على حرمة الحلق فلا يصح أن يُعترض به على معتمد المذهب؛ وذلك لأن النص: هو اللفظ الدال في محل النطق إن أفاد معنى لا يحتمل غيره [جمع الجوامع بشرح المحلي مع حاشية العطار 1/ 308]، وابن الرفعة قد ادعى أن الشافعي قد نص على تحريم الحلق، ثم لم يُبْرِز لنا هذا النَّص، لنرى هل هو نصٌّ صريح في التحريم أو هو مجرد عبارة محتملة قد تتنازعها الأفهام؟ والشأن في مثل هذا أنه لو كان ثَمَّ نص صريح لذَكره ولاشتهر ذلك النص وتداولته الكتب، لا سيما وأنه في مسألة يُفتَرَض أن محرري المذهب قد خالفوا فيها المنصوص. ونحن لم نجد بعد التتبع نصًّا صريحًا يفيد ذلك المعنى في نسخة كتاب "الأم" التي بين أيدينا، وهي المطبوعة المدققة المحرَّرة المصحَّحة من قِبل شارحه الذي شرح ربع العبادات منه في خمسة وعشرين مجلدًا مخطوطًا في دار الكتب العامرة، وهو العلامة المحَقِّق الشيخ أحمد بك الحسيني -تلميذ شيخ الإسلام شمس الدين الإنبابي- بعد أن جمع نسخه المختلفة من الأقطار، ثم طبعه في المطبعة الأميرية عام 1326هـ؛ قال رحمه الله تعالى متحدثًا عما بذله في سبيل تصحيح متن كتاب "الأم" في مقدمة شرحه له المسمى: "مرشد الأنام إلى بِرِّ أُمِّ الإمام" [الجزء الأول من المقدمة- ل 10، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 1522-فقه شافعي]: "فطلبتُ ذلك الكتاب -أي: الأم- من مظانّه، وركبت مطايا صدق العزيمة إلى مواضع إمكانه؛ لإحراز جواهره وجماله، والترجمة عن الحقائق الصادقة بلسانه، فلم أجد منه بالديار المصرية مع اتساع دور الكتب بها إلا بعض أجزاء مُحَرَّفة مُختَلَّة التركيب، لا يمكن فهم عبارة منها ولا التبويب، فوجهت وجهتي تلقاء غير مصر من الممالك وما فيها إلى خزائن الكتب من المسالك، فأوصلتني العناية الإلهية والرحمة الشاملة الربانية إلى غاية أحسبها غاية الغايات ونهاية أعتقدها أجمل النهايات، وهي: إحراز ذلك الكتاب على التمام؛ فلم أسمع بقطعة أو نسخة من الكتاب المذكور في جميع أقطار العالم إلا وبذلت إليها المساعي، حتى يسر الله لي نسخًا أمكن استخراج نسخة منها هي أصح النسخ، فتمت بها الأمالي، فسجدت لله شكرًا وملأت قلبي حمدًا له وذكرًا... إلخ" اهـ المراد.
أما ما زُعِم من أن نَصَّ الشافعي على التحريم: هو قوله في "الأم" [6/ 88]: "ولو حلقه حلاق فنبت شعره كما كان أو أجود لم يكن عليه شيء؛ والحِلاق ليس بجناية؛ لأن فيه نسكًا في الرأس وليس فيه كثير ألم، وهو وإن كان في اللحية لا يجوز فليس فيه كثير ألم ولا ذهاب شعر؛ لأنه يستخلف" اهـ، فهو زعم فاسد؛ لأن هذا النقل ليس بنَصٍّ في التحريم؛ وقد تقدم أن النَّصَّ: هو اللفظ الدال في محل النطق إن أفاد معنى لا يحتمل غيره، وهذا ما لا يتحقق في هذا النقل؛ لأن قوله: "وهو وإن كان في اللحية لا يجوز" يحتمل أن يراد به فعل الحلاق من حيث هو اعتداء على عضو الغير، أو يراد به خصوص الحلق من حيث هو. كما أن تعبيره بـ"لا يجوز" لا يفيد خصوص التحريم؛ لأنه صادق عليه وعلى الكراهة، فكلاهما يصح أن يوصف بأنه غير جائز.
ونظير ذلك قول الإمام الشافعي في "الأم" [1/ 281]: "ولا يجوز ترك صلاة الكسوف عندي لمسافر ولا مقيم، ولا لأحد جاز له أن يصلي بحال" اهـ.
قال الإمام النووي في "المجموع" [5/ 60، ط. المنيرية] بعد أن نقل عبارة "الأم" السابقة: "وقد يستشكل قوله: (لا يجوز ترك صلاة الكسوف)، ومعلوم أنها سُنَّة بلا خلاف. وجوابه: أن مراده: أنه يُكرَه تركها؛ لتأكدها؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة في الأمر بها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبروا وصَلُّوا وتصدقوا»، وفي رواية: «فافزعوا إلى الصلاة»، وفي رواية: «فصَلُّوا حتى يفرج عنكم»، وفي رواية: «فصَلُّوا حتى تنجلي»، وكل هذه الألفاظ في الصحيحين، فأراد الشافعي أنه يُكرَه تركها؛ فإن المكروه قد يوصف بأنه غير جائز؛ من حيث إن الجائز يطلق على مستوى الطرفين، والمكروه ليس كذلك" اهـ.
وفي موضع آخر منه حكاه عن الأصوليين مطلقًا؛ فقال [5/ 287]: "المكروه غير جائز عند الأصوليين" اهـ.
ثم إن هذا النص المُدَّعى إن سُلِّم وجوده وصراحته في الدلالة فليس أيضًا بمعتبر في نسبة ذلك القول إلى الإمام الشافعي -رضي الله عنه-، ولا يجوز اعتباره مذهبًا له ولا تقديمه على ما قاله العلماء المتقدم ذكرهم، ولا يعد ذلك تقديمًا لقول الأتباع على قول الإمام كما يظنه بعض القاصرين، بل لأن هذا من باب تعارض النقل المذهبي؛ فإن أصل المذهب ومسائله منقول بالمشافهة والتلقي طبقة بعد طبقة، وما جاء في نسخة لأحد الكتب غايتها أن تكون نسخة محررة صحيحة السند لمؤلفها، وقد تكون نسخة غير معتمدة أصلا، وعلى الاحتمالين: فإنه لا يمكن أن يعارض بمثل هذا المذهب الذي نقله الجمع عن الجمع، ومن هنا نص العلماء على أنه لا يجوز الاعتراض على الشيخين بنص "الأم"، لا لأن كلامهما مقدم على كلام الشافعي، بل لهذا المُدرَك المذكور، وهما قد اطَّلعا على نصوص الإمام وحررا أقواله ونخلا كتبه من نسخها المعتمدة بما لا يصح أن يُدفع بنص وجد في كتاب من الكتب أو نسخة من النسخ؛ قال المحقق ابن حجر في "شرح العباب" [بواسطة الفوائد المدنية للكردي ص37]: "قد أجمع المحققون على أن المفتَى به: ما ذكراه -أي: النووي والرافعي-، فالنووي، وعلى أنه لا يُفتى بمن يعترِض عليهما بنَص الأم أو كلام الأكثرين أو نحو ذلك؛ لأنهما أعلم بالنصوص وكلام الأصحاب من المعترِض عليهما، فلم يخالفاه إلا لموجِبٍ عَلِمه مَن عَلِمه وجَهِله مَن جَهِله، ومما يَدُلُّك على صحة ذلك: أنهما صَرَّحا بكراهة ارتفاع المأموم على الإمام: وعَمَّما ذلك: فلم يُقَيِّداه بمسجد ولا غيره، فجاء بعض المتأخرين واعترض عليهما بأنه نَصَّ في الأم على أن محل كراهة ذلك في غير ذلك، وتبعه كثيرون، ومِلْتُ إلى موافقتهم زمنا طويلا، حتى رأيت للشافعي -رضي الله عنه- نصًّا آخر مصرحًا بكراهة العلو في المسجد؛ فإنه كره صلاة الإمام داخل الكعبة والمأموم خارجها، وعَلَّلَهُ بعُلُوِّه عليه. فانظر كيف عَلِمَا أن له نصين أخذا بأحدهما؛ لموافقته من أن ارتفاع أحدهما على الآخر يُخِلّ بتمام المتابعة المطلوب بين الإمام والمأموم، وتركا النص الآخر؛ لمخالفته القياس المذكور، لا عبثًا؛ إذ مزيد ورعهما وشدة تحريهما في الدِّين قاضٍ بذلك، ولو أمعن تفتيش كتب الشافعي والأصحاب لظهر أنهما لم يخالفا نصًّا له إلا لما هو أرجح منه" اهـ.
وفي فتاوى الإمام شهاب الرملي [4/ 262، 263، ط. المكتبة الإسلامية]: "سئل عما إذا خالف نَصُّ الشافعي الجديدُ ما عليه الشيخان، فما المعمول به؟ إن قلتم: النص، فما بال علماء عصرنا يُنكِرون على من خالف كلام الشيخين أو ما عليه الشيخان؟ فقد صرحا بأن نَصَّ الإمام في حق المقلد كالدليل القاطع، وكيف يتركانه ويذكران كلام الأصحاب؟ فأجاب: بأن من المعلوم أن الشيخين رحمهما الله قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد، ولهذا كانت عنايات العلماء العاملين وإشارات من سبقنا من الأئمة المحققين متوجهة إلى تحقيق ما عليه الشيخان، والأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان، مؤيدين ذلك بالدلائل والبرهان، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر: فالعمل بما عليه الإمام النووي، وما ذاك إلا لحسن النية وإخلاص الطوية. وقد اعترض على الشيخين وغيرهما بالمخالفة لنص الشافعي، وقد كثر اللهج بهذا، حتى قيل: إن الأصحاب مع الشافعي كالشافعي ونحوه من المجتهدين مع نصوص الشارع، ولا يسوغ الاجتهاد عند القدرة على النص. وأجيب بأن هذا ضعيف؛ فإن هذه رتبة العوام، أما المتبحر في المذهب: فله رتبة الاجتهاد المقيد، كما هو شأن أصحاب الوجوه الذين لهم أهلية التخريج والترجيح، وتَرْك الشيخين لذكر النص المذكور؛ لكونه ضعيفًا أو مُفَرّعًا على ضعيف، وقد ترك الأصحاب نصوصه الصريحة؛ لخروجها على خلاف قاعدته، وأَوَّلُوها... فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال: لم يَطَّلِعوا عليها؛ فإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الشافعي، كما أن المجتهد يَصْرِف ظاهرَ نَصِّ الشارع إلى خلافه لذلك، ولا يخرج بذلك عن متابعته، وفي هذا كفاية لمن أنصف" اهـ.
ثم إن الإمام ابن الرفعة نفسه لم ينقل هذا الكلام في صلب شرحه للتنبيه المسمى بـ"كفاية النبيه"، بل ذكره في هامشه وحاشيته -على ما يستفاد من النقل عنه-، وأما الذي في متن كتاب "الكفاية" وصلبه [1/ 253، ط. دار الكتب العلمية]: فهو النقل عن النووي في "الروضة" أنه يُكرَه نتف اللحية أول طلوعها؛ إيثارًا للمرودة وحسن الصورة، ولم يتعقبه ابن الرفعة -كالمُقِرّ له- لا بنص "الأم" ولا بغيره، وكذلك لم يتعقبه الجمال الإسنوي بشيء في كتابه المسمى بـ"الهداية"، والذي صنفه خصيصًا لتعقب ابن الرفعة في "كفاية النبيه".
وقد أطلنا النَّفَس في تقرير مذهب الشافعية؛ لأن كثيرًا ممن خاض غمار الكتابة في مسألة حكم اللحية لا يحررون الصحيح فيه، ثم يسارعون بنسبة التحريم إلى المذهب ويتجاسرون على تخطئة أئمة المذهب القائلين بأن المعتمد هو الكراهة.
وقد وافق الشافعيةَ جماعةٌ من العلماء من المذاهب الأخرى التي تنص معتمداتها على التحريم؛ منهم: القاضي عياض من المالكية في "إكمال المعلم" [2/ 63، ط. دار الوفاء]؛ حيث قال: "ويكره حلقها وقصها -أي: اللحية-" اهـ، ونقله عنه العلامة الأُبِّي المالكي في شرح مسلم [2/ 39، ط. دار الكتب العلمية]، ولم يتعقبه.
وفي شرح حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى، قال الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي في شرح الموطأ [4/ 529، ط. مكتبة الثقافة الدينية]: "(أَمَر) ندبًا، وقيل: وجوبًا" اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" [1/ 66، ط. دار إحياء التراث العربي]: "أما حف الوجه، فقال مهنا: سألت أبا عبد الله -يعني: الإمام أحمد- عن الحَفّ؟ فقال: ليس به بأس للنساء، وأكرهه للرجال" اهـ. وحَف الوجه: هو إزالة شعره بالموسى. [انظر: لسان العرب لابن منظور 9/ 50، ط. دار صادر].
وإطلاق الكراهة أو المكروه وإن استعمله بعض السلف في المحرم، إلا أنه حيث لم توجد قرينة على إرادة هذا، فالأصل أن يبقى على مدلوله الاصطلاحي من كونه لا يعاقب فاعله.
على أنه قد صرح بعض الحنابلة بأن الإعفاء مندوب، ولم يصرح بالوجوب أو ينص على حد هذا الإعفاء؛ فقال ابن مُفلِح الحنبلي في "الآداب الشرعية" [3/ 329، ط. عالم الكتب]: "ويُسَن أن يُعفي -أي: الرجل- لحيتَه" اهـ، والسنة وإن كانت قد تَصدُق على بعض الواجبات؛ بمعنى أنها مأثورة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن الأصل في إطلاقها الدلالة على المستحب، وبهذا صَرَّح غيره؛ فقال الإمام شمس الدين المقدسي في "الشرح الكبير على متن المقنع" [1/ 105، ط. دار الكتاب العربي]؛ فقال: "ويستحب إعفاء اللحية" اهـ.
وقال الشيخ ابن عبد القوي في منظومته: "عقد الفرائد وكنز الفوائد" [1/ 15]:
وحَفُّ الرجالِ الوجهَ يُكرَه مطلقًا |
|
وحَلقُ القفا أيضًا على النَّص فاشهدِ |
وإعفا اللحى نَدبٌ وقد قيل قدر ما |
|
يلي الحلقَ معْ ما زاد عن قُبضة اليدِ |
وجاء في "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" لابن البهاء البغدادي الحنبلي [1/ 223، ط. دار خضر ببيروت]: "ويستحب إعفاء اللحية... ويُكره الأخذ مما دون القبضة، نَصَّ عليه؛ لأن السنة إعفاء اللحية، وإنما لم نكره أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر؛ فإنه راوي الحديث وأعلم بمقصده، فيبقى فيما عداه على خلاف الفطرة" اهـ.
وقد ألف في نصرة القول بالكراهة من حيث الدليل والتعليل اثنان من علماء المغرب، وهما: السيد عبد الحي بن الصديق الغماري في كتابه: "الحُجَّة الدامغة على بُطلان دعوى من زعم أن حالق اللحية ملعون وصلاته باطلة"، وشقيقه السيد عبد العزيز -رحمهما الله تعالى- في كتابه: "إفادة ذوي الأفهام بأن حلق اللحية مكروه وليس بحرام". وسيأتي الاستدلال لهذا القول قريبًا.
وذهب بعض العلماء المتأخرين إلى أن إعفاء اللحية من قبيل العادات وليس من الأمور العبادية، وأن الأمر فيه أمر إرشاد لا أمر وجوب أو استحباب، وهو ما نَصَّ عليه الشيخ محمد رشيد رضا في فتوى له في مجلة المنار [22/ 429] جاء فيها: "الجواب عن مسألة حلق اللحى: هذا المسألة وأمثالها مما سيأتي ليست دينيةً مما يعبد الله به فعلًا أو تركًا، وإنما هي من الأمور العادية المتعلقة بالزينة والتجمل والنظافة، وقد سميت في الأحاديث الواردة فيها: سنن الفطرة، أي: العادات المتعلقة بحسن الخلقة... والأمر في مثل هذه الأمور العادية ليس للوجوب الديني، والنهي عنها ليس للتحريم كما قال الإمام الطبري، والظاهر أن الأمر فيها للإرشاد الذي يتعلق بمنافع الدنيا ومصالحها... فأما ما وصف بأنه من سنن الفطرة، فالغرض منه أن تكون الأمور الفطرية، أي: أمور الخلقة على أحسن حال في حسن المنظر والنظافة والصحة، وأما ما ذكر لمخالفة أهل الملل: فلأجل أن يكون للمسلمين مشخصات وعادات حسنة خاصة بهم من حيث هم أمة جديدة جعلها دينها إمامًا وقدوة لسائر أهل الملل في إصلاح أمور الدين والدنيا، وقد كان الفساد الديني والاجتماعي عامًّا في جميع الأمم بإجماع المؤرخين... وأما كون إعفاء اللحية من سنن الفطرة؛ فمعناه: أنه زينة خص بها الرجل الذي هو أكمل من المرأة خلقًا، فامتاز به عليها كامتياز أكثر ذكور الحيوان على إناثها... والمسألة عادية دنيوية لا دينية تتزكى بها النفس لتكون أهلًا لجوار الله وثوابه في الآخرة كما قلنا، وإن كان فعلها بنية الاتباع وتقوية رابطة الأمة مما يثاب عليه كسائر العادات والمباحات التي تحسن فيها النية، ولكون هذه المسائل غير دينية لم يُعنَ المسلمون بالخضاب وصبغ الشعر، كما عُنُوا بإرسال اللحى مع صحة الأحاديث بالأمر به، وكونه زينة ومخالفة لأهل الكتاب، بل كرهه بعضهم وحرمه آخرون بالسواد... وأما قول السائل: إذا كان الحديث صحيحًا فما حجة من يحلق لحيته من المسلمين بما فيهم من حملة الشريعة - فجوابه:... أن كل قوم يعملون بما ألِفوا واعتادوا من هذه السنن، حتى إن بعض السلف تهاونوا في بعضها" اهـ مختصرًا. ولكنه قد خالف ذلك في مواضع أخرى؛ فصرح فيها بكراهة الحلق، بل وفي أحدها أنه لا يصح أن يقال: إن ذلك من أمور العادات وليس من أمور الدين. [مجلة المنار 7/ 733، 14/ 29، 31/ 442].
وقال الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه: "الفتاوى" [ص: 229، ط. دار الشروق]: "والحَقُّ أن أمر اللباس والهيئات الشخصية -ومنها حلق اللحية- من العادات التي ينبغي أن يَنزِل المرءُ فيها على استحسان البيئة، فمن درجت بيئته على استحسان شيء منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما أَلِف الناس فيها شذوذًا عن البيئة" اهـ.
ومثله الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: "أصول الفقه" [ص: 115، ط. دار الفكر]؛ حيث اختار أن إطلاق اللحية من أمور العادات وليس من قبيل الشرعيات.
ويمكن أن يحمل على هذا الرأي ما جرى عليه الأغلب من علماء الأزهر عملا؛ لأنا ننزههم عن تحري العمل بالمكروه، فضلا عن تعمد ارتكاب المحرم والإصرار عليه؛ فهم وُرَّاث النبوة ونجوم الهدى للعالم، وقد يستأنس لهذا القول بما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" [10/ 355، ط. دار المعرفة] من أن ترك الخضاب المأمور به يكون أولى إذا كانت عادة أهل البلد تركه؛ حيث قال: "وقد اختُلِف في الخضب وتركه؛ فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم، وتَرَك الخضابَ علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة، وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كَمَنْ يُسْتَشْنَعُ شيبُه، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه، وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال صلى الله عليه وسلم لَمَّا رأى رأسه كأنها الثُّغَامة بياضًا: «غيروا هذا وجنبوه السواد»، ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه أول باب "ما يذكر في الشيب"، وزاد الطبري وابن أبي عاصم من وجه آخر عن جابر: "فذهبوا به فحمروه". والثُّغَامة -بضم المثلثة، وتخفيف المعجمة-: نبات شديد البياض زهره وثمره. قال: فمن كان في مثل حال أبي قحافة استحب له الخضاب؛ لأنه لا يحصل به الغرور لأحد، ومَنْ كان بخلافه: فلا يستحب في حقه. ولكن الخضاب مطلقًا أولى؛ لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به، إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة، فالترك في حقه أولى" اهـ.
وبهذا تتم حكاية الأقوال وذكرها من حيث النسبة المذهبية، أما من حيث الاعتماد والاختيار: فالذي نعتمده للفتوى: هو ما ذهب إليه الشافعية من سُنِّيَّة إعفاء اللحية وكراهة حلقها، وذلك لأمرين: أولهما: رجحان هذا القول من حيث الدليل، والثاني: عموم البلوى بمسألة الحلق. وبيان ذلك كما يلي:
أما أن القول باستحباب الإعفاء وكراهة الحلق هو الراجح، فذلك لأدلة؛ منها:
أولا: قوله عليه الصلاة والسلام: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»؛ ليس أمرًا مطلقًا، بل هو أمر مُعَلَّل بعلة مخالفة المشركين وعدم الوقوع في مشابهتهم، وهذا التعليل مقتض للقول بعدم الوجوب من حيث إن مخالفة الكفار ليست واجبة إلا في خصوص ما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية، وقد وردت أدلة كثيرة على هذا؛ منها: أن إحفاء الشارب المقترن بإعفاء اللحية في الحديث والمعلل بذات علته لم يقل أحد بوجوبه، بل كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتركه إلى حد أنه يفتله عند الغضب؛ وكان الإمام مالك يأخذ إطار شاربه ولا يحلقه ولا يحفيه، ويترك له سبلتين ويحتج بفتلة عمر لشاربه إذا همه الأمر [ترتيب المدارك للقاضي عياض 1/ 121، ط. مطبعة فضالة بالمغرب].
ومنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتغيير الشيب؛ فقال فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «غيروا الشيب ولا تَشَبَّهوا باليهود»، وكان عدد كبير من الصحابة لا يخضبون، ولم يُنقَل أن الخاضبين قد أنكروا عليهم بأنهم قد ارتكبوا محرمًا بتركهم الخضاب لما في ذلك من التشبه الممنوع.
وقد نقل الإمام الطبري الإجماع على أن الأمر بتغيير الشيب والنهي عن المشابهة هنا للكراهة لا للتحريم؛ فقال في "تهذيب الآثار" [ص: 518، ط. دار المأمون للتراث]: "ولمن كان في شعر رأسه ولحيته سواد تَرْك تغييره بشيء من الخضاب، من غير أن أرى تارك تغييره -وإن كان جميع ما في رأسه ولحيته من الشعر قد ابْيَضَّ- آثما بترك تغييره؛ إذ كان الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتغيير ذلك ندبًا لا فرضًا، وإرشادًا لا إيجابًا، وكذلك لا أرى مغيرَ ذلك -وإن كان قليلا ما ابْيَضَّ منه- حرجًا بتغييره؛ إذ كان النهي عن ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان تكريهًا لا تحريمًا؛ لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وأن النهي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك لو كان على وجه التحريم أو لو كان الأمر -فيما أمر به من ذلك- كان على وجه الإيجاب، لكان تاركو التغيير قد أنكروا على المغيرين، أو كان المغيرون قد أنكروا على تاركي التغيير. ولكن الأمر كان في ذلك كالذي وصفت -إن شاء الله-، فلذلك ترك بعضهم النكير على بعض" اهـ.
ومنها: ما رواه أبو داود عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم»، ولم ينقل عن أحد من الفقهاء القول بوجوب الصلاة في النعال، بل اختلفوا هل هو مستحب أو مباح أو مكروه [فيض القدير 4/ 67، ط. المكتبة التجارية الكبرى]، وقال ابن دقيق العيد: "الصلاة في النعال من الرُّخَص لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة" اهـ. [بواسطة عمدة القاري للبدر العيني 4/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي].
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن فَصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر».
والسحور مستحب، ونقل الإمام ابن المنذر الإجماعَ على ذلك في كتابه "الإجماع" [ص: 49، ط. دار المسلم]؛ فقال: "وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه" اهـ.
ومنها: ما رواه ابن سعد في "الطبقات" [1/ 159، 160، ط. دار صادر] عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال لجعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «وأما أنت يا جعفر فشبيه خلقي وخلقي»، قام جعفر فحجل حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا يا جعفر؟»، فقال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحدًا قام فحجل حوله.
وهذا إقرار من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لم ينكر على جعفر ما أخذه من نصارى الحبشة، فهذا نصٌّ صريح في أن المخالفة ليست واجبة.
ومنها: ما رواه البيهقي أن أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها- كانت أول امرأة جُعل عليها النعش، جعلته لها أسماء بنت عميس الخثعمية -رضي الله عنها-؛ حيث كانت بأرض الحبشة -وهي أرض النصارى-، فرأتهم يصنعون النعش، فصنعته لزينب يوم توفيت.
ونظيره ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قد مرضت فاطمة مرضًا شديدًا، فقالت لأسماء بنت عميس: ألا ترَين إلى ما بلغت أُحمَلُ على السرير ظاهرًا؟ فقالت أسماء: ألا لعمري، ولكن أصنع لك نعشًا، كما رأيت يصنع بأرض الحبشة، قالت: فأرنيه. قال: فأرسلت أسماء إلى جرائد رطبة، فقطعت من الأسواف، وجعلت على السرير نعشًا، وهو أول ما كان النعش، فتبسمت فاطمة، وما رأيتها متبسمة بعد أبيها إلا يومئذ، ثم حملناها ودفناها ليلا. وهذا كان بمحضر من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ولم ينقل إنكار أحدهم لصنيع فاطمة -رضي الله عنها- بأن في ذلك تشبهًا بنصارى الحبشة، فكان إجماعًا سكوتيًّا، وهو حجة.
قال في "جمع الجوامع" وشرحه للعلامة المحلي [2/ 221 -مع حاشية العطار-، ط. دار الكتب العلمية]: "(والصحيح) أنه -أي: الإجماع السكوتي- (حجة) مطلقًا" اهـ.
وممن أشار إلى أن التشبه بغير المسلمين لا يحرم بمجرده: الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [10/ 98، ط. دار المعرفة] عند كلامه على الأسباب التي من أجلها حَرُم استعمال أواني الذهب والفضة؛ حيث قال: "وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم. وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله. ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك" اهـ.
ثم إننا لو سَلَّمنا أن التشبه بغير المسلمين ممنوع في كل صوره، فإن مجرد حصول ما يشبه صنيع أهل الكتاب لا يسمى تشبهًا إلا إذا كان الفاعل قاصدًا لحصول الشبه؛ لأن التشبه: تَفَعُّل، وهذه المادة تدل على انعقاد النية والتوجه إلى قصد الفعل ومعاناته، ومن الأصول الشرعية اعتبار قصد المكلف، ويدل على ذلك أيضًا: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا، فقعدنا، فلما سَلَّم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم؛ إن صلى قائمًا فَصَلُّوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا»، و(كاد) تدل في الإثبات على انتفاء خبرها مع مقاربة وقوعه، وفعل فارس والروم وقع منهم فعلا، لكن الصحابة لما لم يقصدوا التشبه انتفى ذلك الوصف عنهم شرعًا. والمسلم الذي يحلق لحيته الشأن فيه أنه لا يخطر بباله التشبه بغير المسلمين، فضلا عن قصده.
قال الإمام ابن نجيم في "البحر الرائق" [2/ 11، ط. دار الكتاب الإسلامي]: "اعلم أن التشبيه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء، وإنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذمومًا وفيما يقصد به التشبيه، فعلى هذا لو لم يقصد التشبه لا يكره عندهما" اهـ.
وقال ابن عابدين في "رد المحتار" [1/ 624، ط. دار الفكر] -معلقًا على قول صاحب "الدر المختار": "(التشبه بهم -أي: أهل الكتاب- لا يكره في كل شيء)-: "فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون... ويؤيده ما في الذخيرة قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا الحديد بأسًا؟ قال: لا. قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأن فيه تشبهًا بالرهبان. فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلبس النعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا يضر؛ فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع. اهـ. وفيه إشارة أيضًا إلى أن المراد بالتشبه أصل الفعل: أي: صورة المشابهة بلا قصد" اهـ.
فالأمر بإعفاء اللحية مُعَلَّل بذات العلة التي عللت بها الأوامر في تلك الأحاديث وما في معناها، ولما كانت هذه الأوامر محمولة على الاستحباب، كان الأمر بإعفاء اللحية مثلها؛ لأن العلة واحدة، والحكم إذا كان مبنيًّا على علة وجب اطراده معها وجودًا وعدمًا.
وفي ذلك يقول الإمام أبو سليمان الخَطّابي في "معالم السنن" [1/ 31، ط. المطبعة العلمية بحلب]: "وأما إعفاء اللحية: فهو إرسالها وتوفيرها، كُرِه لنا أن نقصها كفِعل بعض الأعاجم، وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب، فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة" اهـ.
ثانيًا: حديث عشر من الفطرة، وقد تقدم بلفظه، وفيه ذكر اللحية من جملة العشر خصال، وباقي هذه الخصال العشر غير واجب في جملته، فكان قَرْن اللحية بها في الذِّكر دالا على أنها غير واجبة مثلها؛ ولا يقال: إن دلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين؛ لأن ضعفها مقيد بما إذا لم تكن المذكورات المقترنة داخلة تحت لفظ واحد يشملها كلها؛ ولفظة الفطرة تشمل جميع المذكورات.
قال الإمام ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" [1/ 126، 127، ط. السنة المحمدية]: "وأما الاستدلال بالاقتران: فهو ضعيف، إلا أنه في هذا المكان قوي؛ لأن لفظة (الفطرة) لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة، فلو افترقت في الحكم -أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب، وفي بعضها لإفادة الندب- لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي ذلك ما عرف في علم الأصول، وإنما تضعف دلالة الاقتران ضعفًا إذا استقلت الجمل في الكلام، ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين" اهـ.
ثالثًا: أن اللحية كانت عند العرب قبل الإسلام من عادات الرجال وعلامات الزينة الظاهرة في حقهم، بل وكانوا يأنفون من حلق لحاهم ويعدون نتفها أو إزالتها منقصة وعارًا، وقد تقرر أن الأمر إذا تعلق بالعادات أو الآداب صُرِف عن الوجوب إلى الندب؛ والآداب: هي ما كانت متعلقة بتهذيب الأخلاق وإصلاح العادات [كما ذكر ذلك العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح التلويح 1/ 293، ط. صبيح].
جاء في فتح الباري [9/ 523] عند شرح حديث عمرو بن سلمة في الأكل باليمين: "قال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال؛ لأنها أقوى في الغالب وأسبق للأعمال وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة؛ إذ نسبهم إلى اليمين، وعَكَسه في أصحاب الشمال. قال: وعلى الجملة: فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعًا ودينًا، والشمال على نقيض ذلك. وإذا تقرر ذلك: فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء: اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة. وقال أيضًا: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة والمكارم المستحسنة، والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب" اهـ.
فبهذه الأدلة يظهر أن القول باستحباب الإعفاء وكراهة الحلق قد جمع بين الأدلة المختلفة، ولم يُعمِل أحدها ويُهمل الآخر، فتعين المصير إليه وترجيحه؛ لأن الجَمع بين الدليلين أو الأدلة وإعمالها معًا -ولو بوجه- أَولَى من إهمالها أو العمل بأحدها وإهمال الآخر. والإهمال والإلغاء خلاف الأصل، فلا يُلجأ له إلا عند التعارض وتَعَذُّر الجمع بين الدليلين أو الأدلة.
بقي أن نُجِيب على بعض المستندات الأخرى التي يرى القائلون بالتحريم أنها دالةً على مُدَّعاهم:
منها: أن حلق اللحية من تغيير خلق الله؛ وقد ذكر الله تعالى قول الشيطان الرجيم: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ [النساء: 119]، قالوا: فحلق اللحية من تغيير خلق الله، فيكون من طاعة الشيطان، فيصير محرمًا.
والاستدلال بهذه الآية على تلك الدعوى لا يُسَلَّم؛ لأننا ندعي أن: (خلق الله) فيها معناه: دين الله؛ فكأن الشيطان يقول: إنه سيأمر الناس بتغيير دين الله؛ بالكفر وبتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم الله عليها.
وقد وردت لفظة: (خلق الله) في موضع آخر من كتاب الله تعالى بمعنى: (دين الله)؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: 30]؛ أي: لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر. خبر أريد به الإنشاء [انظر: أضواء البيان للشنقيطي 1/ 308، 309، ط. دار الفكر]. فهذا الورود مُعَزِّزٌ لحَمل ﴿خَلْقَ اللهِ﴾ في آية النساء على معنى: دين الله؛ إذ القرآن يفسر بعضه بعضًا، وقد تبنى هذا التفسير غير واحد من مفسري السلف، منهم: ابن عباس والضحاك والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسُّدِّي وغيرهم، ومنهم من صَرَّح بسبب الحمل الذي ذكرناه؛ فعن الضَّحَّاك في قوله تعالى: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾: قال: دين الله، وهو قوله: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ يقول: لدين الله.
وقال مُجَاهِد: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾: دين الله، ثم قرأَ: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ وهو الذي اختاره الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره [انظر: جامع البيان للطبري 9/ 218- 220، ط. مؤسسة الرسالة، الدر المنثور للسيوطي 2/ 690، ط. دار الفكر].
وحَمْل الآية على مطلق تغيير خلق الله يلزم منه أن أي تغيير في أي شيء خلاف أصل خلقته يكون ممنوعًا، وهو خلاف الإجماع.
ومما استندوا إليه أيضًا: أن حلق اللحية من تشبه الرجال بالنساء، وهو محرم؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
وهو استدلال مردود؛ لأن المشابهة بين أمرين تستلزم وجود وجه للشبه بينهما، وهو المنتفي هنا؛ لأن المرأة ليست لها لحية تحلقها؛ حتى يقال: إن حلق الرجل لحيته تَشَبُّه منه بها، بل وجه المرأة أملس، بخلاف وجه الرجل، حتى بعد أن يحلق لحيته؛ فإن أثر الشعر يظل ظاهرًا بينًا، وكذلك فإن وجه المرأة الخالي من الشعر لا يطلق عليه لغة ولا عرفًا أنه محلوق، بخلاف وجه الرجل الحليق، فالفرق بينهما ثابت حسًّا ولغة وعرفًا، وحيث ثبت الفرق المؤثر لم يبق للمشابهة بينهما مناسبة أو ارتباط.
ولو سلم هذا التعليل لكان حلق الشارب أيضًا من التشبه بالنساء، ولكان إعفاء شعر الرأس منه أيضًا ولوجب على الرجل حلقه، وكل هذا فاسد باطل. ولكان من يحلق لحيته دون شاربه ليس متشبهًا بالنساء؛ لأن وجهه حينئذ ليس كوجه النساء -بمقتضى هذا الاستدلال-، وهو ما لا يقولونه.
كما أنه يأتي هنا ما سبق تقريره والاستدلال عليه من أنه لا بد في التشبه من أن يقصد الفاعل حصول الشَّبَه، وأن مجرد حصول الشيء المشترك دون نية أو توجه وقصد لا يسمى تشبهًا.
ومما استدلوا به: دعوى الإجماع على حرمة الحلق؛ استنادًا إلى قول أبي محمد بن حزم في "مراتب الإجماع" [ص: 157، ط. دار الكتب العلمية]: "وَاتَّفَقُوا أَن حلق جَمِيع اللِّحية مثلَة لَا تجوز وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَة والفاضل والعالم" اهـ.
وهذا النقل المذكور لا نُسَلِّم أنه مسوق للدلالة على حكم حلق اللحية في نفسه، بل مقصوده هو حكم حلقها على وجه التعزير والعقوبة، أي: فحلقها على هذا الوجه فعلة لا تجوز؛ وذلك أن المَثُلة -بفتح الميم وضم المثلثة-: هي العقوبة، وأما المُثْلة -بضم الميم وسكون المثلثة-: فهي التشويه [راجع: تاج العروس 30/ 385، ط. دار الهداية، المصباح المنير 2/ 563، ط. المكتبة العلمية]، وعلى كلا الضبطين لا يستقيم حَمل العبارة على حرمة الحلق؛ لأن حلقها على وجه العقوبة أو على وجه إرادة التشويه والشَّين -اللذَين كانا يلحقان من يحلق لحيته في السابق لمخالفته العرف العام السائد في زمانه ومكانه- كل منهما ممنوع شرعًا، وهذا هو الظاهر المراد.
ويؤيد هذا الحمل: قوله بعد ذلك: "وكذلك الخليفة والفاضل والعالم"، يعني: أنه كما يكون حلقها على وجه التمثيل غير جائز، فإنه في حق المقتدى بهم في أحوالهم وأفعالهم -كمن ذُكِر- غير جائز أيضًا. ولو كان المقصود بصَدْر العبارة هو تقرير وقوع الإجماع على حرمة حلق اللحية، لما كان ثَمَّ فائدة على التنصيص على الخليفة والفاضل والعالم في عَجُزها؛ لأنهم بهذا سيكونون متناوَلين بعموم الصدر.
وقد ذكر ابن حزم في أواخر كتابه [ص: 177] أنه لم يضع أي كلمة في كتابه هذا إلا لمعنى لولاها لاختل ولم يستقم؛ فقال: "ونحن نرغب ممن قرأ كتابنا هذا أن يلتزم لنا شرطين: أحدهما: أن لا ينحلنا ما لم نقل بكلفة منه أو تعمد... والثاني: أن يتدبر جميع ألفاظنا في هذا الكتاب فإنا لم نورد منه لفظة في ذكرنا عقد الإجماع إلا لمعنى كان يختل لو لم تذكر تلك اللفظة، فليتعقب هذا؛ فإنه ينتفع بمثله منفعة عظيمة ويكتسب علمًا وشحذًا لذهنه وتعلمًا لمعاني الألفاظ وبناء الكلام على المعاني" اهـ.
ولو سَلَّمنا أن تلك العبارة مسوقة للدلالة على حكم الحلق، لما سَلَّمنا أنها تفيد حصول الإجماع؛ لأنه عَبَّر بـ(اتفقوا) ولم يعبر بـ(أجمعوا)؛ وقد جاء في خاتمة كتابه [ص: 178] كلامًا مجملا يحتمل أن يفهم منه أنه قد يستخدم لفظ: (الاتفاق) استخدامًا لا يرادف لفظ: (الإجماع)؛ فقال: "وليعلم القارئ لكلامنا أن بين قولنا: "لم يجمعوا"، وبين قولنا: "لم يتفقوا" فرقًا عظيمًا" اهـ.
ثم إننا لو سَلَّمنا أن هذه العبارة مسوقة للدلالة على حكم الحلق وأنه لا يجوز بالإجماع، فلا نُسَلِّم أنها نَصٌّ في قيام الإجماع على حرمته؛ لأن قوله: (لا يجوز) يفيد ما هو أعم من التحريم؛ فالمكروه يصدق عليه أنه غير جائز -كما تقدم تقريره-، فحَمْلُ قوله السابق على التحريم محضُ تَحَكُّم من غير دليل، وترجيحٌ بلا مُرَجِّح، وهما باطلان.
ولو سَلَّمنا أنها مسوقة للدلالة على حكم الحلق وأنها تدل على تحريمه بالإجماع، لمنعنا صحة ذلك الإجماع؛ لوجود المخالف، ويَبعُد أن يكون ثَمَّ إجماع في مثل هذه المسألة، ويخفى على أولئك الأعلام القائلين بالكراهة، وكل واحد منهم حبر جليل من أساطين العلم، ولا يوجد أحد منهم إلا وهو في المعرفة والاطلاع والإحاطة بالمحل الأعلى.
وكثير من الإجماعات التي حكاها ابن حزم في كتابه هذا لم تُسَلَّم له، ولمّا قال فيه [ص: 16]: "إنما نُدخِل في هذا الكتاب الإجماعَ التامَّ الذي لا مخالف فيه ألبتة، الذي يُعلم كما يُعلم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأن شهر رمضان هو الذي بين شَوّال وشعبان، وأن هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم- وأخبر أنه وحي من الله إليه، وأن في خمسٍ من الإبل شاةً، ونحو ذلك، وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوه نقله -إذا تتبعها المرء في نفسه في كل ما جرَّبه من أحوال دنياه- وَجَدَهُ ثابتًا مستقرًا في نفسه" اهـ، تعقبه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه "نقد مراتب الإجماع" [ص: 287، ط. دار ابن حزم]؛ فقال: "قد اشتَرَطَ في الإجماع ما يشترطه كثير من أهل الكلام والفقه كما تقدم: وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع تواترًا. وجعل العلم بالإجماع من العلوم الضرورية؛ كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ومعلوم أن كثيرًا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبةً من هذا الوصف، فضلا عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلاف معروف، وفيها ما هو نفسه ينكر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف؟!" اهـ. فبان بما سبق فساد الاستناد إلى تلك العبارة لتقرير هذا الإجماع المزعوم.
وأما الأمر الثاني الذي من أجله تَرَجَّح لدينا الإفتاء بكراهة الحلق فهو: عموم البلوى بحلقها؛ فمن المعلوم في قواعد الفقه وأصول الشرع أن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن عموم البلوى موجب للتخفيف على المكلفين. والمتتبع لكلام أهل العلم يجد أن كثيرًا من الأحكام الفقهية اقتضت الصناعة الفقهية فيها حكمًا معينًا، ثم حاد الفقهاء عنه إلى غيره الأخف منه لعموم البلوى بالأول.
وقد نص الفقهاء على أن المكلف إذا ابتلي بشيء، فله أن يقلد من أجازه؛ تخلصًا من الحرمة، وممن أشار إلى شيء من ذلك شيخ الإسلام البرهان البيجوري في حاشيته الفقهية على "فتح القريب المجيب" [1/ 41، ط. الحلبي] -عند قول العلامة ابن قاسم الغَزّي: (ولا يجوز في غير ضرورة لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة)- حيث قال: "عَدَّهُ البلقيني وكذا الدميري من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر وهو المعتمد، وقال داود الظاهري: بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما"، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة" اهـ.
ونص العلماء كذلك على أن المفتي له أن يختار قولا يخالف معتمد مذهبه لعموم البلوى؛ من ذلك:
أن الإمام أبا حنيفة قال: لا يستحلف في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود، وقال صاحباه: يستحلف فيها إلا الحدود واللعان.
قال العلامة مجد الدين الموصلي في "الاختيار" [2/ 113، ط. الحلبي]: "واختار الفقيه أبو الليث الفتوى على قولهما؛ لعموم البلوى" اهـ.
وجاء في "الدر المختار" للحصكفي [6/ 63 -مع حاشية ابن عابدين-، ط. دار الكتب العلمية]: "وجاز إجارة القناة والنهر مع الماء، به يفتى؛ لعموم البلوى" اهـ.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أصاب الخف نجاسة لها جرم، كالروث والعذرة، فجفت، فدلكه بالأرض جاز، والرطب وما لا جرم له كالخمر والبول لا يجوز فيه إلا الغسل، وقال أبو يوسف: يجزئ المسح فيهما إلا البول والخمر، وقال محمد: لا يجوز فيهما إلا الغسل كالثوب.
ونص علماء الحنفية أن قول أبي يوسف هو المختار لعموم البلوى [1/ 234، 235، ط. دار الكتاب الإسلامي].
واللحية قد عمت البلوى بحلقها؛ حيث تلبس بذلك أكثر المسلمين، كما هو مشاهد شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، وقد التفت بعض العلماء المتأخرين إلى هذا المعنى في خصوص مسألة حلق اللحية، وأدرك أن تلبس عموم الناس بها موجب لتخفيف الفتوى فيها، حتى لو كان الصحيح في نظر المفتي هو القول بالتحريم؛ يقول العلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي المالكي في كتابه: "فتح المنعم ببيان ما احتيج لبيانه من زاد المسلم" [1/ 179، ط. الحلبي]: "ولما عَمّت البلوى بحلقها -أي: اللحية- في البلاد المشرقية، حتى إن كثيرًا من أهل الديانة قَلَّد فيه غيرَه خوفًا من ضَحِك العامة منه؛ لاعتيادهم حلقها في عرفهم، بحثت غاية البحث عن أصل أُخَرِّج عليه جواز حلقها؛ حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق، فأجريته على القاعدة الأصولية وهي أن صيغة: (افعل) في قول الأكثرين للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: للقدر المشترك بين الندب والوجوب، وقيل بالتفصيل؛ فإن كانت من الله تعالى في القرآن فهي للوجوب، وإن كانت من النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الحديث هنا على الروايتين؛ وهما: رواية: (أَوْفِرُوا) ورواية: (أَعْفُوا)- فهي للندب... وهذا القول الأخير هو الذي ينبغي حَمل العامة عليه؛ لِمَا عَمَّت به البلوى" اهـ باختصار.
هذا من حيث حكم اللحية شرعًا، أما في خصوص مدى شرعية إلزام الجهة النظامية كالشرطة في إلزام الضابط أو الفرد بعدم إطلاق لحيته، فمعلوم أنه قد جرت عادة العسكر من شرطة وجيش منذ مئات السنين على حلق لحاهم، ولم نسمع أن هذه المسألة كانت يومًا قضية تثير ضجة حول حكم الطاعة في ذلك أو الخروج عن التعليمات، بل كانت لاختلاف العلماء فيها -كما تقدم- مندرجة تحت القاعدة الفقهية التي نص عليها الإمام السيوطي وغيره من أنه: "لا يُنْكَرُ المختَلَفُ فيه، وإنما يُنكَرُ المُجْمَعُ عليه" [الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 158، ط. دار الكتب العلمية].
ونحن في هذا الصدد نكون أمام طرفين: الطرف الأول: الجهة النظامية، والطرف الثاني: الأفراد التابعين لها العاملين بها.
أما الأفراد: فلا حرج عليهم في الانصياع لتعليمات رؤسائهم في أمرهم إياهم بحلق لحاهم، بل إن ذلك يكون واجبًا شرعيًّا عليهم. وذلك لأنه لا يخلو الأمر إما من وجود قانون أو لائحة معينة تنظم هذا الأمر بخصوصه، وتلزم الأفراد التابعين للجهة النظامية بالحلق، وأما ألا يكون، ولكن يكون ذلك حينئذ داخلا تحت القواعد واللوائح العامة التي تجعل أوامر الرؤساء ملزمة؛ ومنها: ما جاء في المادة: (41) من القانون رقم: (109) لسنة 1971م في شأن هيئة الشرطة من أنه على الضابط: "أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر بدقة وأمانة، وذلك في حدود القوانين واللوائح والنظم المعمول بها" اهـ، وجاء في المادة (47) منه أن: "كل ضابط يخالف الواجبات المنصوص عليها في هذا القانون أو في القرارات الصادرة من وزير الداخلية، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته، أو يسلك سلوكا أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة يعاقب تأديبيًّا" اهـ.
ونظيره في قانون الأحكام العسكرية ما جاء في المادة (153) منه من أن: "كل شخص خاضع لأحكام هذا القانون ارتكب الجريمة الآتية: إهماله إطاعة الأوامر العسكرية أو أوامر الوحدة أو أوامر أخرى -سواء كانت كتابية أو شفهية- يعاقب إذا كان ضابطًا بالطرد أو جزاء أقل منه منصوص عليه في هذا القانون. وإذا كان عسكريًّا: تكون العقوبة الحبس أو جزاء أقل منه".
وعلى كلا الاحتمالين يكون الانصياع للأوامر في هذا الخصوص واجبًا شرعيًّا، لأن التزام اللوائح والقوانين هو من الطاعة المطلوبة شرعًا لولي الأمر؛ وولي الأمر كما يصدق على الخليفة أو رئيس الدولة في الشكل المعاصر لأنظمة الحكم، فهو يصدق أيضًا على كل صاحب ولاية عامة كقواد الجيوش، وننبه كذلك أن ولي الأمر ليس ملحوظًا بالشخص والذات، فينزل منزلته القوانين واللوائح في الإلزام ووجوب الانقياد لها والالتزام بها؛ لأن المقصود في النهاية هو إقرار النظام العام ودرء فتنة شق عصا الطاعة وحسم مادة الفوضى في المجتمع.
وأصل وجوب طاعة ولي الأمر: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، قال العلامة ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" [5/ 97، 98، ط. الدار التونسية للنشر]: "أولو الأمر مِن الأمّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه مِن خصائصهم... فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا أهل الحلّ والعقد" اهـ.
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «السمعُ والطاعةُ على المَرءِ المُسلِم فيما أَحَبّ وكَرِه، ما لم يؤمَر بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعَة».
وروى الترمذي -وأصله في صحيح مسلم- عن وائل بن حُجر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأله رجل فقال: أرأيتَ إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عَلَيهم ما حُمِّلوا وعَلَيكُم ما حُمِّلتُم».
فولي الأمر تجب طاعته فيما يأمر به، وأن ما يأمر به على جهة الإلزام يصير واجب الفعل -أي: واجبًا لغيره- حتى ولو كان في أصله مستحبًّا أو مباحًا، بل ولو كان مكروهًا؛ قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "فتاواه الفقهية" [1/ 278، ط. المكتبة الإسلامية]: "قولهم: تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يخالف حكم الشرع. والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع: أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب، فشمل ذلك المكروه، فإذا أمر به وجب فعله؛ إذ لا مخالفة حينئذ" اهـ.
وفيه أيضًا [2/ 235، 236]: "وظاهر كلامهم في باب الإمامة: أنه لو أمر -أي: الإمام- بمكروه وجب امتثال أمره، وينقلب الفعل حينئذ واجبًا، وليس ببعيد" اهـ.
ومن القواعد الشرعية المقررة أنَّ تَصَرُّف ولي الأمر على الرعية مَنوطٌ بالمصلحة [الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 121، ط. دار الكتب العلمية]، فهذه القوانين والنظم هي مِن المسائل الخاضعة لما يراه ولي الأمر مِن المصلحة الراجحة، فيَسُنُّ القانون المنظِّم لها بما يتناسب مع المصلحة العامة، وله أن يختار من أقوال المجتهدين ما يراه محققًا لهذه المصلحة المغيَّاة. ولعل المصلحة هنا هي: أنه في ظل الدولة التعددية الحديثة لا بد في المؤسسات التنفيذية ونحوها أن تتسم بالحيادية، حتى في مظهر أفرادها وممثليها، فتتجنب أشكال ومظاهر التمييز الدينية ما دامت لا تدخل في دائرة الواجبات الشرعية.
ومن ذلك يعلم أنه لا يصح الاعتراض على طاعة مقتضى اللوائح والقوانين بحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [رواه الطبراني في الكبير]؛ لأن موردهما ليس واحدًا؛ فحلق اللحية ليس من المعاصي أصلا؛ لما قررناه من أنه من جملة المكروهات. وحقيقة المكروه: نفي العقاب على فعله والإثابة على تركه قصدًا، وحقيقة المعصية: العقاب على فعلها والإثابة على تركها قصدًا، فكل منهما له حقيقة مختلفة متمايزة عن حقيقة الآخر، بل إن هذا الحديث يقتضي بمفهومه طاعة ولي الأمر إذا أمر بمكروه -كما أشار إليه النفراوي المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني [1/ 211، ط. الفكر]-.
بل إن الفقهاء قد ذكروا أن المكروه يرتفع عنه وصف الكراهة إذا احتيج إلى فعله؛ لأن الكراهة تزول بالحاجة، وقد ذكر ذلك وقرره العلامة السَّفاريني الحنبلي في مواضع من "غذاء الألباب" [انظر: 1/ 323، 1/ 420، 2/ 18، 2/ 64، ط. مؤسسة قرطبة]، وذكر أنها قاعدة مذهبهم. وفروع الشافعية متضافِرة على هذا المعنى؛ من ذلك: قولهم في تنشيف بَلَل الوضوء والغسل: إنه إن كانت ثَمَّ حاجة إليه؛ كخوف برد، أو التصاق بنجاسة، ونحو ذلك، فلا كراهة قطعًا. [المجموع 1/ 486، ط. المنيرية].
وقولهم فيمن أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة: إنه يُكرَه له أخذ شيء من أجزاء بدنه وشعره حتى يُضَحِّي، وأن محل كراهة ذلك إذا لم تَدع إليه حاجة، ذكر ذلك جماعة؛ منهم الزركشي. [أسنى المطالب 1/ 542، ط. دار الكتاب الإسلامي].
وقولهم: إنه يُكرَه للقاضي أن يقضي في حال تغير الخُلُق بنحو غضب، وجوع مفرط، وخوف مزعج، ومدافَعَة خَبَث، وكل ما يُشَوِّش الخاطر، ولكن هذه الكراهة تنتفي إذا دعت الحاجة إلى الحُكم في الحال، بل قد يتعين الحُكم على الفور في صور كثيرة. [أسنى المطالب 4/ 298].
وبهذا صرح العلامة الشهاب الرملي في حاشيته على "أسنى المطالب" من كتب الشافعية [1/ 186، بهامش أسنى المطالب] عند كلامه على كراهة دخول الصبيان المسجد، وأنها ليست على إطلاقها، بل تختص بمن لا يُمَيِّز، وبحالة لا طاعة فيها ولا حاجة إليها. قال الرملي: "والحاجة قد تدفع الكراهة، كالضَبَّة الصغيرة للحاجة" اهـ.
كما أن هؤلاء الأفراد بالتحاقهم بالكليات الشرطية أو العسكرية قد ارتضَوا الانصياع لما ينظم سير الأمور فيها وفي عملهم في هذا السلك فيما بعد؛ والقاعدة الشرعية: أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا [غمز عيون البصائر للحموي 4/ 206، ط. دار الكتب العلمية]، وكذلك فإن الرضا بالشيء رضًا بما يتولد منه [المنثور للزركشي 2/ 176، ط. وزارة الأوقاف الكويتية].
ومع هذا كله فإننا نضيف أن من كان من هؤلاء الأفراد له قناعة شخصية بوجوب اللحية؛ اتباعًا لمن قال بهذا من العلماء، فإنه والحالة هذه يتأكد عليه أن يقلد قول القائلين بالكراهة؛ ليتخلص من الشعور النفسي بالإثم؛ لما تقرر من أن من ابتلي بشيء من المختلف فيه فإنه يقلد من أجازه من أهل العلم؛ تخلصًا من الحرمة، فإن أبى فله أن ينتقل إلى جهة أخرى أو إدارة غير شرطية لا تشترط حلق اللحية فيها.
وليس معنى قولنا بجواز تقليد المبيح أننا نجيز لأحد أن يخرج عن دائرة الشريعة بل المقصود بهذا هو تصحيح أفعال الناس ما أمكن، ولأن يُقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له مندوحة بأن يقلد من أجاز.
وأما الجهات النظامية فإننا ننصحها بدراسة هذه التعليمات وإعادة النظر فيها لمعرفة مدى إمكانية السماح لأفرادها بإطلاق اللحية من عدمه، خاصة وأن هذا أمر مسموح به في بعض نظائرها في دول أخرى؛ وفي السماح بإطلاقها -عند عدم المصلحة في الأمر بحلقها- العمل بالسُّنَّة، والخروج من خلاف من أوجب إطلاقها، ومعلوم أن العمل بالسُّنَّة حتى وإن كانت من قبيل المندوبات المستحبات سبب عظيم للتأييد والتوفيق وجلب النصر، وكذلك فإن الخروج من الخلاف مستحب مراعاة لأصل الاحتياط الذي هو مطلوب شرعي مطلق؛ قال الإمام تقي الدين السبكي في قواعده [1/ 111، ط. دار الكتب العلمية]: "اشتهر في كلام كثير من الأئمة ويكاد يحسبه الفقيه مجمعًا عليه... أن الخروج من الخلاف أولى وأفضل" اهـ. ولكن على الأفراد الالتزام بالتعليمات إلى حين ذلك التغيير إن حصل وتَم، والله سبحانه وتعالى أعلم.