سمعنا ممن دخل في الدين الإسلامي أنه انبهر به، فبأي شئ بهر الإسلام العقـــول؟ وما أسبـــاب ذلك الانبــهار؟
بهر جمال الإسلام العقول، وفتحت له القلوب بأخلاقياته السامية التى لا يملك غير المسلم إلا أن يحترمها إن لم ينجذب لها بمجرد أن يراها سلوكًا لأتباعه بعد أن كانت وحيًا وتأديبًا ربانيًا. فالإسلام هو دين الرحمة ودين السلام ودين البر، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن هين لين جواد سمح له خلق حسن»(1). فبالأخلاق الكريمة، وبوفاء العهود، وبصدق الحديث، وبالإنصاف، وبشهادة الحق بهر الإسلام عقول البشر، فدخلوا فيه أفواجًا والحمد لله رب العالمين.
ولأن منهج الإسلام كان تطبيقًا عمليًا لأسماء الله الحسنى، وللوحي الشريف المتمثل في كتاب الله وسنة النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم- ؛ مما كوَّن المسلم الذي يصلح في الأرض من خلال ما ترسخ لديه من نموذج معرفي يتعامل به مع الكون.
فأجاب المسلم بموجب عقيدته على السؤال الكلي الأول : من أين نحن ؟ وهو سؤال متعلق بالماضي، ولكنه نشأ من حيرة الإنسان وجهله الحسي بنشأته ومبتداه، كالطفل الصغير يسأل من أين أتيت ؟ إنه لا يتذكر يوم ولادته، ولم تكن عنده القدرة على ذلك، قال تعالى : {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، فأجاب المسلم بناء على إيمانه أن الله خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وهو خالق كل شيء. {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 1 - 3]
والمسلم يؤمن بالتوحيد ليس فقط توحيد الإله، بل توحيد شمل كل شيء في بنائه العقائدي، فنبيه – صلى الله عليه وسلم - واحد؛ لأنه خاتم قال تعالى : {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وكتابه واحد؛ ولذلك حفظه من التحريف والتخريف وجعله واحدا لا تعدد له، قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، والأمة واحدة قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] والقبلة واحدة، قال عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، والرسالة واحدة عبر الزمان، قال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
والتوحيد بهذا المعنى الذي اشتمل على الأشياء والأشخاص وتعدى الزمان والمكان، لابد أن يؤثر في عقل المسلم المعاصر، وأن يكون أساسا لفهمه للحياة، ولتعامله مع الأكوان خاصة الإنسان.
والمسلم يؤمن بأن الله لم يدع الخلق بلا تكليف، فهناك شرائع وكتب ووحي، قال سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، ولكنه جعل الإسلام هذا اسم الديانة التي يرضاها عبر التاريخ من لدن آدم إلى سيدنا محمد r، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وقضية التكليف تجيب أو ينبغي أن تجيب على السؤال الثاني: ماذا نفعل هنا ؟ وأسس هذا التكليف ثلاثة؛ أولها : عبادة الله ، تلك العبادة التي يجب أن تُنشئ إنسان العمارة والحضارة قال سبحانه وتعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]. وثانيها : عمارة الأرض، وذلك بنشاط التعمير والامتناع عن نشاط التدمير قال تعالى : {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، أي طلب منكم إعمارها، وقال سبحانه : {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]، وثالثها : تزكية النفس، قال عز من قائل : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 7 - 10].
ويؤمن أن هناك يومًا آخر للحساب - الثواب أو العقاب- قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
وهذا الإيمان يؤثر في سلوك المؤمن بالإحجام والإقدام، فتراه يقدم على شيء إن كانت فيه مشقة أو فوات لذة إذا رأى أن ذلك يقربه من الجنة ويترتب عليه الثواب، وتراه يمتنع عن شيء فيه لذة ويحجم عنه؛ لأنه يراه يقرب إلى النار، وهذا مرتبط بقضية الإيمان بالله والإيمان بالتكليف، ويؤثر على الحياة، ويجب أن يؤثر عليها بصورة إيجابية وإلا تحول الخوف والرجاء أسبابا لإعاقة الحياة، وفي الحقيقة إن الله شرعها لحماية الحياة، ولدفعها، فإذا كانت تصرفاتنا قد حولتها إلى عائق للحياة كان ذلك ضد مقصود الشرع الشريف.
هذه الأسئلة الثلاثة الكبرى أنشأت مجموعة من المكونات العقلية التي أسست شخصية المسلم، والتي نرجو أن يعود إليها المسلمون على وجهها التي أنزلها الله من أجله، وأن يفهموا مراد الله من وحيه.
ويؤمن المسلم بالمطلق لأنه آمن بأن الله لا نهائي ولا محدود، والإيمان باللانهائي واللا محدود أتى من إيمانه بأسمائه وصفاته، فأسماء الله الحسنى التي وردت في القرآن والسنة تمثل الهيكل التربوي للمسلم، قال سبحانه وتعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، والأسماء التي وصف الله بها نفسه في كتابه أكثر من 150 اسمًا، وفي السنة تزيد على 160 اسمًا ومجموعهما 220 اسمًا بعد حذف المكرر، وهذه الأسماء والصفات يمكن تقسيمها إلى صفات جمال : كالرحمن الرحيم، والعفو الغفور، وصفات جلال : كالمنتقم الجبار، والشديد المحال، وصفات كمال : كالأول والآخر ،والظاهر والباطن، وكل ما يوصف به الله.
والمؤمن يتخلق بصفات الجمال، ولا يتخلق بصفات الجلال بل يتعلق بها، فيعفو ويصفح، ويمسك نفسه عند الغضب، قال تعالى : {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقال سبحانه : {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 109، 110].
والمؤمن يرى أن الإنسان مكرم، وأنه ليس مجرد جزء من الكون، قال تعالى : {لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
فالإنسان كائن فريد في هذا الكون؛ لأنه متحمل للأمانة، قال تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
ويرى المؤمن أن الإنسان سيد في هذا الكون، فيسير في عبادة الله سير السيد، وليس سير الجمادات : {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].
ويعتقد المؤمن أن للزمان والمكان والأشخاص والأحوال حرمة، فيراعيها في التعامل معها، فتراه يقدس ليلة القدر : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وقال سبحانه : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان: 3]، ويقدس الكعبة، قال تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : « مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا »(2) ، ويقدس المصحف : {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ، وينزل النبي r منزلة عظيمة، قال سبحانه وتعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ} [النور: 63] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون} [الحجرات: 2].
وهذا النموذج المعرفي ينبغي أن يكون منطلقًا للتقويم، ومعيارًا لقبول ما هنالك من أفكار البشر وتوجهاتهم، ومبدءًا لتجديد الخطاب الذي يتوافق مع إدراك الواقع بعوالمه المختلفة.
بهذا النموذج المعرفي، وبهذا الإنسان الذي كونه الله بشرعه، وبهذا السلوك بهر الإسلام العقول والقلوب؛ لأنه دين رب العالمين، والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه ابن حبان في صحيحه، ج2 ص 215، والطبراني في الكبير، ج10 ص 231.
[2] رواه ابن ماجه في سننه، ج2 ص 1297.