الذرية من آثار ارتباط الرجل بالمرأة، وهو الزواج، وكذلك الذرية سبب لوجود علاقة جديدة هي الأبوة والأمومة، وقد لا يتصور إنسان أنه قد يتعارض أمر الزواج واستمرار الحياة الزوجية وما فيها من خير للبشرية، مع أمر حقوق الوالدين وطاعتهما.
ولكن الواقع شهد من عصر النبوة الأول أنه حدث تعارض بين حقوق الوالدين، وبين استمرار الحياة الزوجية، عندما أمر سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ابنه عبد الله أن يطلق امرأته التي يحبها - كما سيأتي مفصلا - منذ هذا الحين، وفقهاء الشريعة يتناولون الموضوع بالعرض والتحليل؛ لنعلم ما الذي يجب على المسلم فعله في مثل هذه الأمور، وما هو حد البر، وما هو حد العقوق إذا تعلق بإنهاء الحياة الزوجية.
فنراهم مصرحين بعدم الطاعة إلا أن يكون الأب الآمر من الصالحين والأتقياء، بغير التعرض لمسألة هل يستحب أم لا، فلقد ذكر ابن تيمية أن : « كلام أحمد في وجوب طلاق الزوجة بأمر الأب مقيد بصلاح الأب»([1]).
أما ابن تيمية فقد حرم على الابن طاعة أمه في طلاق زوجته خاصة إن كان له منها أبناء؛ حيث سئل ابن تيمية في رجل متزوج وله أولاد, ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها ؟ الجواب : « لا يحل له أن يطلقها لقول أمه, بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها، والله أعلم »([2]).
كما ذهب ابن ملفح في الفروع إلى أنه لا تجب طاعة أبويه في الطلاق، فقال ما نصه : «فإن أمرته أمه فنصه([3]) : لا يعجبني طلاقه, ومنعه شيخنا منه, ونص في بيع السرية : إن خفت على نفسك فليس لها ذلك. وكذا نص فيما إذا منعاه من التزويج »([4]).
وكذا ذكر في الآداب الشرعية أيضا حيث قال : « ليس للوالدين إلزام الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى، فإن أكل المكروه ومرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه. انتهى كلامه "([5]).
وأيضا ذهب العلامة المحقق الحنبلي البهوتي إلى أنه لا يجب على الابن أن يطيع الوالدين في طلاق زوجته، فقد قال ما نصه : « (ولا يجب) على ابن (طاعة أبويه) ولو كانا (عدلين في طلاق) زوجته; لأنه ليس من البر (أو) أي : ولا يجب على ولد طاعة أبويه في (منع من تزويج) نصا لما سبق »([6]).
وإلى هذا أيضا ذهب صاحب غذاء الألباب حيث قال: « (و) كأمرهما له (بتطليق زوجات) له أو بيع أمة له (برأي) أي اعتقاد (مجرد) عن مستند شرعي. قال في القاموس: الرأي: الاعتقاد، جمعه آراء. قال في الآداب الكبرى: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب. ذكره أكثر الأصحاب. وسأل رجل الإمام رضى الله عنه ، فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي, قال لا تطلقها. قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضى الله عنه »([7]).
وذهب ابن أطفيش الإباضي في شرح النيل وشفاء العليل، أن الابن غير ملزم بطلاق زوجته إذا ما طلب منه أبواه أو أحدهما هذا حيث قال: « إن نذر بطلاق زوجته أو طلبه أبواه إليه لم يلزمه الوفاء به, ولا يضيق عليه أن يطيعهما فيه »([8]).
من العرض السابق يتبين لنا أنه لا يجب على الابن طاعة والده في أمره بطلاق زوجته، وأن عدم طاعة الوالد في هذا ليست من قبيل العقوق، والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________________________________________
([1]) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، كتاب الطلاق، ج5 ص 490.
([2]) مجموع الفتاوى لابن تيمية، كتاب الطلاق، مسألة متزوج له أولاد ووالدته تكره زوجته وتريد طلاقها، ج3 ص 573
([3]) أي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
([4]) الفروع لابن مفلح، كتاب الطلاق، ج5 ص 363.
([5]) الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1 ص 502، 503 ، طبعة رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
([6]) دقائق أولي النهى للبهوتي شرح منتهى الإرادات، كتاب الطلاق، ج3 ص 74.
([7]) غذاء الألباب للسفاريني، بر الوالدين، ج1 ص 383.
([8]) شرح النيل وشفاء العليل، لابن أطفيش الإباضي، الكتاب التاسع في الحقوق، باب في حق الوالدين ومن نزل منزلتها بالجوارح واللسان والقلب، ج5 ص 22.