هذه طبعًا مسألة خلافية بين العلماء، ولكن أنا أرى أن هذا المال الذي قد ملكه الآن فلا صاحب له سواه؛ يعني: هو الآن أصبح في حوزته وملكه، وأنه يجوز له، والمسألة خلافية. هل هذا فيه حلال أم حرام وهكذا، واتسع الخلاف، بل بالعكس، فإنني أرى أنه يجوز له أن يتصرف في هذا المال في تجارته، ولا بأس عليه خصوصًا أن الفوائد البنكية على ما يجري عليه العمل الآن مختلف فيها اختلافًا واسعًا منذ أكثر من مائة عام، والخلاف يجري فيها، فجمهور العلماء على أنها حرام، ولكن ليس جمهور العلماء على أنها ربا؛ لأنهم اختلفوا هل هي ربا أم هي مضاربة فاسدة.
والقاعدة تقول: "إن المذاهب إذا اختلفت في شيء ما فإنه تكتنف هذا المال شبهة"، وتسمى شبهة المذهب، وشبهة المذهب يستحب الخروج منها، ولا يجب الخروج منها، والذي يجب الخروج منه هو شبهة المحل، وشبهة المحل عندما يأتيني طعام لا أعرف إن كان ذبح على الشريعة أم لم يذبح، فيجب على ألا آكل منه.
وشبهة المحل عندما تأتيني امرأة لا أعرف إن كانت أختي من الرضاعة، أو أنها ليست بأختي، يجب ألا أتزوجها؛ لأن الخروج من شبهة المحل واجبة، والخروج من شبهة المذهب والطريق مستحبة. فعندما يأتيني شخص، ويقول لي: "إن هذه الأموال التي فيها شبهة مذهب هو يعلم أنه قد أتى بها من بنك ربوي وأنه تاب إلى الله، وتورع بعد ذلك من إيداع أمواله في ذلك المكان الذي فيه كلام وفيه شبهة ونزاع"، ولكن هذا المال الآن أصبح تحت يده، فماذا يفعل؟ هل عندما تاب المسلمون في مكة أمرهم رسول الله ﷺ برد ما تحت أيديهم من أموال ربوية، أو أنه لم يأمرهم. كان العباس رضي الله عنه يشتغل بالربا في مكة، فلما فتح الله مكة على رسول الله ﷺ قال: "إن ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول ما أضع ربا العباس عمي"([1]). ولم يأمره بأن يرد ما تحت يديه من أموال دخلت إليه عن طريق الحرام؛ لأن "التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام يجب ما قبله"([2])، وهذا ينبغي علينا أن نستقر فيه على فتوى واحدة؛ لأن هذا فيه فتح لباب التوبة، وليس فيه إغلاق لباب التوبة. ويأتيني الآن شخص عصا الله، ومن هذه المعصية تكونت عنده أموال، ويقول: إنني أريد أن أتوب الآن، هل لابد علي من إثم في توبتي شرعًا أن أخرج من مالي الحرام الذي تكون لي في كل حياتي، أو أن التوبة تجب ما قبلها كالإسلام يجب ما قبله، وأنا أرى مع من يرى هذا أن التوبة تجب ما قبلها كالإسلام يجب ما قبله، وأن هذه الفوائد التي أتت من هذه الشبهات، ومن هذا الذي يقوله كثير من جمهور العلماء عنه أنه حرام أصبح ملكا له يجوز له أن يتصرف فيه كما يريد على ألا يفعل ذلك مرة أخرى، وألا يفعل الحرام مرة أخرى، ويجوز طبعًا أن يتصدق به، ويمكن أن يخرج الإنسان من ماله نصف ماله من ثلث ماله، كما يريد. والورع لا حدود له ونحن عندما نتكلم نتكلم عن الحلال والحرام، أما حدود الورع فالورع لا حدود له.
([1]) حديث حسن أخرجه الترمذي في سننه (5/273) برقم (3087)، والإمام أحمد في مسنده (5/72).
([2]) حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/198)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/31) باب (الإسلام يجب ما قبله).