أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على نبيه المصطفى ليكون هداية ورحمة للعالمين, وما تضمنه ذلك القرآن من تعاليم تهدي إلى معاملة الإنسان والكون كله برقي وحضارة ومنهج, وتدعو إلى العلم والتقدم وتنبذ العدوان والإرهاب, كل ذلك يؤكد أنه لم تشهد البشرية كتابا مثله, وكذلك لنتشهد.
وقد حفظ الله سبحانه كتابه العزيز من أي تحريف أو تدليس, فالمسلمون من أول نزول القرآن أصبحت عندهم عقيدة وثقافة لحفظه حفظا تاما, لحروفه وكلماته وحركات نطقه, وترتيب آياته وسوره, فبذلوا جهودا بديعة لترجمة هذه العقيدة وتلك الثقافة إلى واقع, وشعروا دائما بأن الله سبحانه وتعالى يؤيدهم في هذا الحفظ قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9], فتعهد الله بحفظه ولهذا لم يقع ولن يقع التبديل فيه, وكان من صور حفظ الله للقرآن أنه لم يجعل حفظه في السطور فقط, بل جعل حفظه أيضا في الصدور, فمن أول يوم حفظوه في صدورهم وكتبوه في وثائق تؤيد هذا الحفظ, وعندما جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف ما كان ليستطيع أن يضيف كلمة أو يحذف آية كما يتخرص الواهمون, القدامى والمحدثون الذين تسمح ثقافتهم بهذا التلاعب مع نصوص دينهم, فقد كان عثمان لا يكتب أي آية حتى يشهد عليها اثنان من الصحابة وهم عدول, ثم تناقله المسلمون تواترا جيلا بعد جيل حتى قيام الساعة, قال تعالى: (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت:49], قال الحسن: أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظرا فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيون. (تفسير القرطبي:13/354), وما ذلك إلا لأن القرآن محفوظ في الصدور, ميسر على الألسنة, مهيمن على القلوب, معجز لفظا ومعنى. وحفظ القرآن أمر كوني يتولاه الله عز وجل بنفسه, ودلالة ذلك ما نجده من أطفال لا تتجاوز أعمارهم خمس سنوات ويحفظون القرآن عن ظهر قلب, فمتى حفظ هؤلاء هذا الكم الكبير من الآيات؟ وكأنهم قد خرجوا من بطون أمهاتهم يحفظون ذلك الكتاب الكريم! لقد استطاع المسلمون أن يحافظوا على كتابهم على مر العصور بحفظ الله له, وجعلوه محورا لحضارتهم وأنشأوا من أجل الحفاظ عليه العلوم, وتفننوا في كتابته بأجمل الخطوط, عاشوا معه وفيه وبه, فأقاموا حضارتهم بحفظهم لكتابهم وتفاعلهم معه. فمنها لانطلاق, وإليه الرجوع, وهو المخدوم بالعلوم, ولذلك نراهم أنهم قد بدأوا في خدمة العربية من أجل القرآن. كل هذا كان منهم بغرض حفظ كتاب رب العالمين, دون حول منهم ولا قوة, فهو وعد من الله الذي أنزله بأن يحفظه, ولم يكن في مقدور سيدنا محمد ولا أحد من البشر من بعده أن ينفذ هذا الوعد. ولكن الواقع الذي نعيشه يؤكد أن الوعد قد تم, ويزداد الإعجاز عبر الزمان من كل جهة; فإن القرآن لم يحفظ في الخزانات بعيدا عن الناس, ولم يقتصر حفظه على عائلات بعينها أو على فئة بذاتها,بل إن الجميع قد حفظه, ولذلك كانت الرقابة على حفظه من كل الأمة عبر الزمان والمكان, فقد حفظه الأطفال بعشرات الآلاف في كل مكان, وزاد من الإعجاز أن حفظه من لم يتعلم العربية ولم يعرف فيها كلمة واحدة. وقد تعرض القرآن الكريم لمحاولات التحريف فلم تفلح, ولمحاولات الترجمة الخاطئة السيئة النية فلم تؤثر فيه, ولمحاولة الطباعة المحرفة فبقي كما هو, ولمحاولة تقليده ومحاكاته بسيئ الكلام وركيكه فلم يزحزح عن مكانته, بل إن كل ذلك أكد معجزته الباقية عبر الزمان, وأعلى من شأنه في صدور الناس, وكان كل تلك الدعاوي والافتراءات -بالرغم مما اشتملت عليه من العدوان والطغيان- سببا في تمسك المؤمنين به, وبابا جديدا للدعوة إلى الله ودخول الناس في دين الله أفواجا, وبدلا من إبادة المسلمين التي أرادها مشركو مكة ومن بعدهم الفرس والروم ومن بعدهم الفرنجة والتتار ومن بعدهم الاستعمار والمتعصبون في الشرق والغرب, بدلا من ذلك انتشر الإسلام وأصبح عدد المسلمين أكبر أتباع دين طبقا لموسوعة جينز للأرقام القياسية. ورب ضارة نافعة, ففي تطاول أولئك المتطرفين على الإسلام والقرآن دليل على خواء الفرية القديمة والحديثة القائلة إن الإسلام انتشر بالسيف وهو محض افتراء, ذلك أنه في ظل تسامح المسلمين مع الحملة الشرسة التي توجه ضدهم وتصفهم بالإرهاب, نجد تزايد أعداد المسلمين في العالم أجمع يوما بعد يوم, شرقا وغربا. وذاع القرآن بصورة سلمية لأنه كتاب يصل إلى القلب والعقل معا, ينير البصر والبصيرة, ويعرف طريقه إلى النفوس السوية التي تخلصت من الحقد والكراهية. لقد كشفت الآونة الأخيرة عن نتائج مهمة ينبغي أن ينتبه لها المسلمون, فلا ننتظر حرقا آخر لكتاب الله من حاقد أو معتوه, أو طعنا في حفظه وقدسيته من متعصب أو جاهل كي ننهض إليه وندفع عنه الجهل والتشويه, إننا كمسلمين مطالبون بأن نعود إلى ريادة كتاب الله في آياته ومعانيه, بالقول والعمل, ونأخذ بزمام المبادرة ولا ننتظر ردود الفعل, ونخلع عن أنفسنا ثوب التقصير الذي طالما ارتديناه, فنصل إلى أرجاء المعمورة, نبلغ عن الله عز وجل كتابه العظيم وسنة نبيه, بالقول والعمل, وبكل لغات العالم, رغما فتراء الحاقدين ومعاندة المكابرين, قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ) [الصَّف:8].