من أعلامنا المعاصرين الذين يعدون الأسوة الحسنة والمثال الذي نريده لشبابنا وأبنائنا ونريده لتجديد خطابنا وتعليمنا وعرض ديننا وثقافتنا مع الحفاظ على هويتنا الشيخ محمد عبد الله دراز، والذي كان واحدًا من العلماء الأجلاء المتبحرين في علوم الشريعة والعقيدة والفلسفة، ويظهر ذلك في ميراثه العلمي الذي إن دل عن شيء فإنه يدل على عقلية فلسفية متينة راسخة.
ولد الشيخ رحمة الله عليه في قرية صغيرة في وسط الدلتا وهي قرية محلة دياي في الثامن من نوفمبر عام 1894م، وعرف بنبوغه العلمي منذ طفولته، فأتم حفظ كتاب الله ودرس قراءاته المختلفة وهو دون العاشرة، ثم أكمل تعليمه في المعهد الديني الأزهري الجديد بمدينة الإسكندرية والذي أشرف والده الشيخ عبد الله دراز في إعادة هيكلته وتنظيمه بأمر من مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. وبعد تخرجه من المعهد عمل به مدرسًا عام 1916م وهو في سن الثانية والعشرين. كما بدأ في هذا الفترة في الانتظام في دروس مسائية لتعلم اللغة الفرنسية. ثم عمل في وظيفة مدرس بالأزهر عام 1928م ولم يمض عام من تاريخ تعيينه إلا وكلف بالتدريس لقسم الدراسات المتخصصة، وفي عام 1936م، اختاره الملك فؤاد بناء على ترشيح جامعة الأزهر في بعثة دراسية في فرنسا امتدت إلى عام 1948م بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، حيث عاين الشيخ ويلات الحرب إلا أنه رفض العودة حتى يتم رسالته وبحثه العلمي.
وعقب عودته من الخارج أصبح عضوًا بارزًا في هيئة كبار العلماء بالأزهر، كما اشتعل في نفس السنة كمدرس في جامعة فؤاد الأول، فقام بتدريس علم تاريخ الأديان في كلية الآداب، وعلم التفسير في كلية دار العلوم، بالإضافة إلى تدريسه الفلسفة في كلية اللغة العربية.
ولقد كان ثريا في نتاجه العلمي فألف كتابه (الدين) والذي كان مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الشيخ الجليل على طلاب كلية الآداب بوصفها أبحاثًا تمهيدية لعلم تاريخ الأديان، وهناك أيضًا بحثه لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بعنوان (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والتي ترجمت بعد ذلك، وهناك أيضا كتابه (مدخل لدراسة القرآن الكريم) والذي كتبه بالفرنسية والتي كان يجيدها كما يجيد العربية بسبب دراسته ومُكثه في فرنسا أكثر من اثنتي عشرة سنة مما كان له تأثير عميق على اتساع مداركه وفكره وعلمه ونجاحه في ربط التراث الشرعي بثقافة العصر، وهذا من أهم الصفات التي تميز بها الشيخ محمد عبد الله دراز، رغم عدم تأثير ذلك على شخصيته الأزهرية فظل يحتفظ بزيه الأزهري حتى يوم وفاته، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أيضًا.
وهناك كذلك رسالته التي سماها (كلمات في مبادئ علم الأخلاق) وهي رسالة وجيزة قليلة الصفحات عظيمة الأثر والمحتوى. ورغم انشغال الشيخ بالفلسفة والعقيدة والمنظومة الأخلاقية في الإسلام كما هو واضح من عناوين مؤلفاته هذه، إلا انه كان له باع في التفسير وعلوم القرآن، فمن ميراثه العلمي في هذا المجال، كتابه الماتع (النبأ العظيم)، وهو كتاب متفرد لم يسبقه إليه أحد سواء في المضمون أو في الأسلوب، فقد تبحر فيه في فلك الإعجاز البياني والأدبي لكتاب الله مظهرا لفتات ونظرات جديدة مذهلة تدل على مدي فهمه العميق والراسخ للقرآن المجيد ومقدار نجاحه في الاغتراف والارتشاف من حلاوة الآيات القرآنية وجمالها البلاغي والبديعي، هذا وقد ترك لنا أيضًا تفسير الفاتحة ومقدمة التلاوة لعدد من سور القرآن الكريم.
أما عن علوم السنة، فلم تخل من إبداعات الشيخ مثل كتابه (المختار من كنوز السنة) الذي تناول فيه مختارات من الأحاديث النبوية الجليلة مع شرحها شرحًا وافيا يدل عن مدي تعمقه واهتمامه بعلم الحديث والسنة.
وقد بدأ الشيخ في عدد من المشاريع العلمية التي لم يكتب لها التمام والكمال بسبب وفاته المفاجئة مثل كتابه (الميزان بين السنة والبدعة) وقد كانت محاولة من قبل الشيخ لتحديث كتاب (الاعتصام) للشاطبي وإعادة صياغته بلغة عصرية جديدة لا تخل بمضمون الكتاب الأصلي وتفيد القراء المعاصرين وطلاب العلم من كنوز هذا الكتاب التي لا تنفد، وهو مطبوع.
هذا وقد مثل الشيخ مشيخة الأزهر في العديد من المؤتمرات الدولية فقد كان عضوا بارزا مؤثرا في هيئة كبار العلماء، فمثل المشيخة في مؤتمر الحقوق الدولية والذي انعقد في باريس في عام 1951م وقدم فيه الشيخ بحثًا ممتعًا في قوة الأسلوب وسهولة اللفظ عن (الربا) وقد طبع أيضًا، كما مثل المشيخة في مؤتمر العلاقات الدولية، وقدم من خلاله بحثًا رفيع المستوى عن (الإسلام والعلاقات الدولية)، وآخر المؤتمرات التي مثل فيها الأزهر كان مؤتمر الأديان العالمي في لاهور والذي وافته فيه المنية في يناير سنة 1958م بعد الانتهاء من إلقاء كلمته الأخيرة.
وبعد أن عاد جثمانه الشريف من لاهور ليدفن في وطنه مصر كان يوم وداعه مهيبًا أمطرت فيه السماء حتى إن المشيعين الذين رفعوا المظلات البيضاء فوق رؤوسهم حولوا شارع الأزهر إلى قطعة بيضاء من تلاصق مظلات المشايخ وكثرة المشيعين من عند الجامع الأزهر وإلى طريق صلاح سالم الآن حيث كانت مدافن العلماء المجاورين، فكان نزول الغوث وبياض المشهد بشرى لاستقبال هذه الروح الطاهرة.