دعت الأديان خاصة الإسلام إلى العفاف وهو أمر يحدث اختلافاً بين المتدينين وغير المتدينين، ومن شدة الاتفاق عليها بين أهل الأديان لم يكن أبداً عبر العصور وحتى في عصرنا الحاضر محلاً للاجتهاد بل كان محلا للاتفاق سواء أقام الشخص به في نفسه أم لم يقم، فإن الجميع يعلمون أن العفاف بكل جوانبه مأمور به على لسان الأنبياء.
1- فترى القرآن قد أمر بغض البصر عن العورات والمحرمات، قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور :30]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانا يجد حلاوته في قلبه (أورده الحاكم في المستدرك).
وقال بعض الظرفاء:
إلهي ليس للعشاق ذنب ** لأنك أنت تبلوا العاشقين
فتخلق كل ذي وجه جميل ** به تسبي قلوب الناظرين
وتأمرنا بغض الطرف عنهم ** كأنك ما خلقت لنا عيونا
فكيف نغض يا مولانا طرفا ** إذا كان الجمال نراه دينا
وقال آخر :
خلقت الجمال لنا فتنة ** وقلت لنا:يا عباد اتقون
وأنت جميل تحب الجمال ** فكيف عبادك لا يعشقون
فرد عليهم الشيخ التقي الأمين السوداني فقال:
خلقت الجمال لنا نعمة ** وقلت لنا يا عبادِ اتقون
وإن الجمال تُقىً والتُّقى ** جمال ولكن لمن يفقهون
فذوق الجمال يصفي النفوس ** ويحبو العيونَ سمو العيون
وإن التقى هاهنا في القلوب ** وما زال أهل التقى يعشقون
ومن خامر الطهر أخلاقه ** تأبّى الصغار وعاف المجون
وربي جميل يحب الجمال ** جمال التقى يا جميل العيون
وهذا الجدل يظهر كثيراً من النماذج المعرفية بين المتقين وغيرهم.
2- وأمر بحفظ الفرج كما تقدم، ومن هنا جاء مفهوم العورات التي أمر صلى الله عليه وسلم بسترها كما جاء في حديث بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر، قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: إن استطعت أن لا يرى أحد عورتك فافعل، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا، فقال: فالله أحق أن يستحيا من الناس. (أورده النسائي في سننه الكبرى)
3- ومن العفاف أنه أمر بعدم الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبية إلا بطريقة آمنة والمقصود بالخلوة هنا المكان الخاص وليس المكان العام، ومعيار الخصوصية والعمومية هو وجوب الاستئذان من أجل النظر من عدمه، فالمكان الذي يجب علينا أن نستأذن للنظر إلى داخله ولا يجوز أن ندخله إلا بعد الاستئذان فهو مكان خاص، والمكان الذي لا يحتاج إلى استئذان كالطريق ووسائل النقل العامة والمساجد والمحلات العامة فهو مكان عام، ولا يسمى انفراد الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل فيه خلوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ » (الترمذي في سننه).
4- والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعفاف في الكلام فنبه معاذاً فقال « وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ » (الترمذي في سننه). وربنا يقول في سورة النساء: لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [النساء :148]، ولكنه بعدها حث على العفو فقال: إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًا قَدِيرًا [النساء :149]
5- ونهى صلى الله عليه وسلم من باب العفاف عن التسول والرشوة والسرقة كما نهى من باب العفاف عن السب واللعن والفحش والبذاءة، فقال: « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » (البخاري)، وقال: « لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِى وَالْمُرْتَشِى» (أورده أبو داوود في سننه)، وقال: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها (مسند الإمام أحمد)، وقال:« لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلاَ بِلَعَّانٍ وَلاَ بِالْفَاحِشِ الْبَذِىءِ » (مسند الإمام أحمد).
6- وعلمنا صلى الله عليه وسلم البعد عن الشبه، فعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا فَقَالَ « إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ » . قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ . قَالَ: « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ » (البخاري)، كما أنه علمنا وأمرنا بالبعد عن مواطن الفتن فقال «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ » (البخاري).
7- هذا كله العفاف في الظاهر والسلوك أما العفاف في الباطن والمفاهيم فله حديث آخر قد يكون أهم وأعمق من عفاف الظاهر الذي هو في غاية الأهمية في نفسه وأرى أن فُقْدنا للعفاف الظاهر والباطن يسبب كثيراً من اختلاف المعايير والرؤى ويحدث الفجوات بل إنني لا إبلاغ إذا قلت أن عدم العفاف يسد باب استجابة الدعاء من ناحية ويوقع الضغينة بين الناس من ناحية أخرى وبالجملة يغبش على القلب الذي هو مهبط الرحمات الربانية من أن يرى الحق حقاً والباطل باطلاً، فاللهم نسألك العفاف والتقى.