مما مَنّ الله به على المسلمين أن أبدعوا (علم التوثيق) على غير مثال سابق، فلم يأخذوه من أمة خلت، ولم يقلدوا أحدًا من الناس فكان من العلوم التي وضعوها وكملت غاية الكمال، وعلم التوثيق مثله في ذلك مثل (علم الفهم) أو ما يسمى (بأصول الفقه)، فإنه علم بديع نشأ من حضارة المسلمين، وهذان العلمان يحتاجهما العالِم الذي يتمسك بالمنهج العلمي فيوثق مصادره ويتأكد من معلوماته حتى لا يقع في عقلية الخرافة ولا في حد الانطباع التي لا ضابط لها ولا رابط.
1- ومن علوم التوثيق عند المسلمين (علم القراءات القرآنية) (وعلم رواية الحديث) الذي تولد عنه (علم الجرح والتعديل) والذي يهتم بالبحث في أحوال الرواة ومدى ضبطهم ومدى اتفاقهم مع الأصول المروية ومدى اختلافهم في ذلك، وتولد منه قواعد كثيرة في هذا العلم من ألطفها وأرقها هذه القاعدة الفريدة التي تدل على عمق في الفهم ورقة في الشعور واعتذار للآخرين وعدم التسرع في إصدار الأحكام العشوائية والعدل حتى مع المخالف وإن شئت فقل خاصة مع المخالف كما قال تعالى : (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة : 8] وهي قاعدة (المعاصرة حجاب).
2- ومعنى هذه القاعدة أن المعاصرة بين اثنين لا تتيح لكل منهما أن يعرف الآخر كما ينبغي؛ وذلك لأن الصورة الذهنية التي تتكون عند كل واحد منهما عن الآخر تكون ناقصة، فقد يكمل الشخص كلامه الذي حمل على غير مراده، وقد يغير رأيه الذي ذهب إليه بل قد يغير مشربه أو مذهبه بالكلية، وقد يتحول المرء من محب إلى كاره ومن كاره إلى محب وهذا مصداقاً لقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال : 24] ولقوله صلى الله عليه وسلم : (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء) [أحمد والترمذي]. وعلى ذلك فإن الاختلاف الناشئ بين اثنين من قبل الرأي هو اختلاف نسبي قد يتغير والموقف الذي حمل الشخص على القدح في زميله قابل للتبدل والانتهاء.
وهذه قاعدة قررها جمهور السلف رضوان الله عليهم يقول ابن عباس رضي الله عنه : (خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة » [فيض القدير 4/164]
وقال مالك بن دينار – رحمه الله –: (يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس).
وقال الإمام الذهبي – رحمه الله –: (كلام الأقران لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد. وما ينجو منه إلا من عصمه الله. وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس).
3- ومن هذه القاعدة تولدت قاعدة أخرى تقيدها وتنظمها وتفسرها وهي [لا يقبل كلام الأقران بعضهم في بعض] وهذا معنى المعاصرة حجاب فهي لا تنفي قبول الجرح والتعديل من أهله بل تتكلم عما إذا تكلم أحدهم في أخيه وقرينه مخالفاً لباقي الناس الذين مدحو وعدلوا وأقروا بفضل هذا الإنسان، فإذا جاء عظيم من الفضلاء وقدح هذا المزكى المعدل فإنه لا يقبل منه ذلك حيث لا يقبل جرح القرين بقرينه بهذه الصفة، وعللوا ذلك وبينوا سببه بأن المعاصرة حجاب.
4- إذن يمكن قبول جماعة كثيرة من أهل الاختصاص تجرح إنساناً وترفضه ولكن المعاصرة حجاب بين الأقران وليس مطلق العصر يخفي حقائق الأشياء والأشخاص، بل العصر حجاب بين القرين وأخيه من نفس مستواه يحجب عنه عدله ويؤل له الأمر حتى يقدحه مبررًا ذلك لنفسه أولاً بأن فيه هذه الأخطاء التي يجب إنكارها.
5- ولقد حدث في التاريخ الإسلامي تنابذ بين الكبار منهم : (أبو نعيم الأصبهاني (توفي 436 هـ) وابن منده (توفي 511 هـ) حتى قال الحافظ الذهبي عن ما دار بينهما : (وكلام ابن مندة في أبي نعيم فظيع ، لا أُحبُّ حكايته ، ولا أقبل قول كـلٍّ منهمـا في الآخـر... كلام الأقـران بعضهم في بعضٍ لا يُـعبأ به ، لا سيّما إذا لاح لك أنّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد) [ميزان الاعتدال]، (والمغيرة (توفي 105 هـ) والسبعي (توفي 129هـ) والأعمش (توفي 148 هـ ) فقد روى جرير عن مغـيرة أنّه قال : (ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش) .قال الذهـبي : (لا يسـمع قول الأقران بعضـهم في بعض) [سير أعلام النبلاء]، و(أحمد (توفي 241 هـ) وهشام بن عمار (توفي 245 هـ) فقد قال أبو بكر المروزي : (ذكر أحمدُ بن حنبل هشامَ بن عمّار فقال : طيّاش خفيف).
ومن ذلك ما كان بين (الفلاس (توفي 114 هـ) والسمين (توفي 235 هـ) حيث ذكر أبو حفص الفلاّس ، محمّـدَ بن حاتم البغدادي السمين ـ من رجال مسلم وأبي داود ـ فقال : (ليس بشيء). فتعقّبه الذهبي قائلاً : (هذا من كلام الأقران ، الذي لا يسمع). ومنه ما كان بين (بين عبد المغيث بن زهير (توفي 583 هـ) وابن أبي الفرج الجوزي (توفي 597 هـ) وقد وقعت العداوة والفتـنة الشـديدة بينهما، وكلاهما حافظان فقيهان حنبليّان... كان سببها اللعن على يزيد بن معاوية ، كان عبـد المغيث يمنع من لعنه، وكتب في ذلك كتاباً وأسمعه للناس ، فكتب ابن الجوزي في الردّ عليه كتاباً سمّاه الرد على المتعصّب العنيد المانع من ذمّ يزيد... ثمّ تلا ذلك مسائل أُخرى ، وقد مات عبـد المغيث وهما متهاجران. ومنه ما كان بين (مطين ( توفي 297 هـ) وابن أبي شيبة (توفي 235 هـ) فقد ذكر الحافظ ابن حجر بترجمة محمّـد بن عبـدالله بن سليمان الحضرمي الملقّب بـ : ( مطيَّن) حطّ الحافظ محمّـد بن عثمان بن أبي شيبة عليه ، وحطّ مطيّن على ابن أبي شيبة ، وأنّ أمرهما آلَ إلى القطيعة. فقال ابن حجر : (ولا نعتدّ ـ بحمد الله ـ بكثير من كلام الأقران بعضهم في بعـض ) [لسان الميزان]
قال الذهبي : (كلام الأقران بعضهم في بعضٍ يحتمل ، وطيّه أَوْلى من بثّه) وعقد له ابن عبدالبرّ في «جامع بيان العلم» باباً خاصّاً استوفى الكلام فيه على ذلك؛ ولذلك لم يلتفت أهل الجرح إلى مَنْ تُكلّم فيه بسبب المعاصرة ـ كما يُعلم ذلك
من كتب الرجال ـ ولو عملوا بمقتضاه لما بقي في يدهم راوٍ واحدٍ يُحتجّ به
6- فالمعاصرة تجعلنا أكثر تأنيا في قبول الآراء وفي نفس الوقت تجعلنا أكثر مقاومة لأنفسنا في اتهام الأقران والآخرين (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : 90]