تكلمنا في المقال السابق عن علاقة التوبة بحياة القلوب، وعن معنى توبة العبد إلى ربه، وحقيقة التوبة النصوح، ونتكلم هذه المرة عن التوبة باعتبارها مفهوم شامل يتعدى حقيقة الرجوع إلى الله، والبعد عن المعاصي.
فإن التوبة أصبحت كلمة إذا ما سمعها المؤمن اختزل معناها وجعلها قاصرة بمعاص خاصة، وجعلها أمرا غيبيا يتعلق باليوم الآخر، والتوبة أعظم من ذلك تشمل هذا وتزيد عليه كثيرا.
فالتوبة حالة نقد ذاتي، وحالة من مراجعة النفس، وحالة من الرقابة الإدارية، إلا أننا إذا سمعنا هذه الألفاظ -النقد الذاتي ومراجعة النفس ومحاولة الرقابة والإدارة- ظننا أن هذه الألفاظ لا علاقة لها بالتوبة؛ لأن مفهوم التوبة أصبح قاصرا عند أغلب الناس على الإقلاع عن معاص بعينها، وليس الأمر كذلك.
كما أننا إذا سمعنا مصطلحات الرقابة الإدارية، والإدارة، والنقد الذاتي نفهمها في إطار مدلولاتها الغربية، لأنها مصطلحات أطلقها أهل الحضارة الغربية للتعبير عندهم عن معاني خاصة، إلا أننا نرى أن التوبة تشمل هذه المعاني مجتمعة.
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التوبة، وكان يقول : « إِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً ». [رواه ابن ماجه في سننه].
فرسول الله يتوب أكثر من سبعين، وهو الذي مدحه البوصيري -رحمه الله- فقال :
والفريقين من عرب ومن عجم |
|
محمد سيد الكونين والثقلين |
لكل هول من الأهوال مقتحم |
|
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته |
مستمسكون بحبل غير منفصم |
|
دعا إلى الله فالمستمسكون به |
ولم يدانون في علم ولا كرم |
|
فاق النبيين في خَلق وفي خُلق |
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسمِ |
|
فهو الذي تم معناه وصورته |
فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ |
|
منزهٌ عن شريـكٍ فـي محاسنه |
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم |
|
دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم |
وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ |
|
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف |
حدٌّ فيعـرب عنه ناطقٌ بفـمِ |
|
فإن فضل رسول الله ليس له |
فأي توبة كان يتوب، هل كانت التوبة حالة من النقد الذاتي، أو مراجعة النفس، أو المحاسبة، ربما كان ذلك كله، مع التأكيد أنه معصوم لا تصدر منه المعاصي فلا يحتاج إلى توبتنا نحن، وهي التوبة من الذنوب.
ذكرنا أن التوبة في اللغة هي الرجوع والعودة إلى الله، ومنها كذلك المراقبة، ومنها المحاسبة، فلو فهمنا التوبة وما تستلزمه من عمليات داخلية لأدخلناها عنصرا من عناصر الإدارة، وعنصرا أساسيا في الاقتصاد الذي يجري بين الناس، وعنصرا أساسيا في الحكم، وعنصرا أساسيا في السياسة الداخلية والخارجية.
والتوبة تقتضي الإقلاع والبعد عن الحالة التي لا ترضي الله سواء كانت هذه الحالة في علاقتك بربك من فعل لمحرمات أو ترك لواجبات، أو كانت هذه الحالة في علاقة بمن حولك كالإساءة للأهل والجيران وسوء الأخلاق والكذب والخيانة وشهادة الزور، أو كانت هذه الحالة في أدائك في عملك أو محافظتك على النظافة والنظام. وعلى أي الأحوال يجب عليك أن تكون في كل زمان ومكان في حالة يرضى عنها ربنا فلا يراك على حالة لا يرضاها.
ولكننا لن نتمكن من الوصول إلى حالات الرضا التي أمرنا الله بها بحولنا وقوتنا، فإن القوة لله وحده سبحانه وتعالى، قال تعالى : ﴿أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة :165]. فلا حول ولا قوة إلا بالله، والإيمان بذلك يورث التبرأ من القوة الموهومة والحول المزعوم لدى البشر، فيعلم الإنسان أنه لا حول ولا قوة له، فيلجأ إلى الله ويستمد منه القوة على طاعته، ويستمد منه الحول عن معصيته.
لأجل ذلك المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا عبد الله بن قيس قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها . كنز من كنوز الجنة) . أو قال: (ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة إلا بالله) [متفق عليه]؛ حيث تدل هذه الكلمة على حقيقة وجود الإنسان في الأرض، وحقيقة سعيه فيها.
والتوبة تكون بعد الاستغفار، ولن نقول إن التوبة بعد المغفرة، فالمغفرة التي يمن الله بها على العبد هي من ثمرات صدق التوبة، وإنما التوبة تكون بعد الاستغفار، والاستغفار هو طلب المغفرة من الله وطلب العون، مما يحقق معاني الالتجاء إلى الله، وبعد طلب المغفرة تأتي التوبة، قال تعالى : ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود :3].
والتوبة الحقيقية هي التوبة الصادقة، التي يتحرى فيها الإنسان الصدق مع نفسه، فلا يفعلها ليبعد عذاب الضمير عن نفسه فحسب، بل يفعلها بصدق وعزم مع الله، ولا يفعلها رياء بين الناس، فالتوبة الصادقة ليس فيها مخادعة، فإن المخادعة من صفات المنافقين، قال تعالى : ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة :9]، فالمؤمن صريح مع نفسه، فلابد من الشفافية.
والتوبة ينتج عنها المراجعة، ونلاحظ هنا خطورة تفريغ التوبة من معناها الدنيوي وقصرها على معناها الغيبي، فقد ذكرت الآية السابقة ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود :3]. وأجل مسمى أي إلى مدة حياتكم فإن أرجعنا لها الجانب الآخر يتضح لنا إعجاز القرآن ويتضح لنا عموم ألفاظه.
والتوبة إلى الله لا يمنعها كثرة الذنوب والكبائر، بل إن الله أتى بأرجى آية في كتابه الكريم مع شدة الإسراف على النفس، قال تعالى : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر :53 : 54].
وعلى المسلم أن يزيد من الرجاء عند الوقوع في الزلات، وليس العكس وهنا معنى لطيف تكلم عنه أهل الله، فإن نقص الرجاء عند الوقوع في الزلات علامة أن الاعتماد في الغفران لم يكن على الله، بل كان على العمل، وينبغي للمسلم أن يعتمد في رجائه وطلب المغفرة على صفات الجمال لله التي لا تنقص بالذنوب، فهو سبحانه الرحمن الرحيم الغفور الغفار التواب، نرجوه لأجل ذلك فلا ينقص الرجاء مع الذنوب، وفي هذا المعنى يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري -رضي الله عنه- : «من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل» وهي أولى الحكم التي بدأ به كتابه العظيم [الحكم العطائية] في إشارة إلى أن بداية الطريق تكون بالتوبة والاعتماد على الله وحده.
ولذا ترى النبي صلى الله عليه يقص على أصحابه قصة قاتل المائة، وهو يريد أن يتوب بعد كل هذه الذنوب، والله يقول : ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة :32]، فكم مرة قتل هذا الرجل الناس جميعا ؟ رغم كل هذه الذنوب أراد التوبة، وانتظره ربه، وفرح بعودته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل إلي يمشى أقبلت إليه أهرول» [رواه مسلم]
فما قصة ذلك الرجل ؟ يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : «كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال : لا .. فقتله فكمل به مائه , ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال : إنه قتل تسعه وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ قال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط : فأتاهم ملك بصورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتها كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة» [رواه مسلم].
وفي هذه القصة التي يرويها النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة يجب أن نتعلمها، أولا : أن الذي يُسأل عن أحكام الشرع العالم وليس العابد (الراهب) فعندما أخطأ من دله على الراهب حدثت جريمة أخرى في وقت يحتاج فيه الرجل إلى التوبة إذ به يقتل العابد الذي أفتى بجهل، فلا ينبغي لأحد أن يقصد كل من ظهرت عليه علامات العبادة أو الصلاح بالسؤال في الدين، فإن هذا الدين علم. كما أنه لا يجوز لكل من اقترب من ربه وسار في طريقه أياما أو شهورا أو سنين أن يظن أن له إفتاء الناس، فإن الإفتاء يكون للعلماء، ورأينا عندما ذهب إلى العالم انتهى الأمر، وتنزلت الرحمات، فهذا هو الدرس الأول الذي ينبغي أن نخرج به من هذه القصة.
الدرس الثاني أن هذه القرية قوم سوء، لأن يتمكن من قتل هذا العدد دون أن يجد من يردعه، ومن يأخذ على يده، فلم يكن هناك أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، ولا سلطات، ولا أي شيء فهذا جو فاسد لا يصلح لعبادة الله، فهم قوم سوء لأنه استخفهم ولم يقم لهم وزنا، قال تعالى : ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف :54]، وقال سبحانه : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة :78]
الدرس الثالث : أن التوبة حتى تستمر لا بد وأن يتهيأ لها بيئة صالحة، ومجتمع متضامن متناصح، ويظهر هذا المعنى في قول العالم لقاتل المائة : « انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء»، فالإنسان يحتاج على الطاعة معين، وعلى الخير ناصح أمين.
الدرس الرابع والأخير : أن الأعمال بالخواتيم، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي، أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة» [رواه البخاري ومسلم]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم» [رواه البخاري]. كل هذه الدروس نتعلمها من هذا الحديث، ويشتمل الحديث كذلك على كثير من الدروس والتفصيلات، ولعلنا ذكرنا أهمها.
فالمسلم مأمور بالمراجعة الدائمة للتوبة ؛ لأنه لا يزال يخطئ وسن الله سبحانه وتعالى فيه أن يستمر ذلك دائما، ويرشدنا سيد الخلق إلى أنه يفعل ذلك كل يوم، فلا نمل من التوبة إلى الله، ولا نمل من مصارحة النفس بالعيوب والتقصير، ولا نمل من الإقلاع بهمة متجددة لرب العالمين، ولا ننسى الآخرة، ولا ننسى التوبة من هذه المعاصي.
إن ترك نقد الذات ومراجعة النفس والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى يؤدي إلى عذاب كبير لعلنا نعيش بعضه في أيامنا هذه، فإن صلاح إنسان واحد لا يكفي لصلاح المجتمع أو لنهضة الأمة وصحوتها، فلا بد من أن تكون توبتنا إلى الله جماعية، ومراجعتنا شاملة لقضايا الإنسان في كل مكان وفي كل مجال.
أراد الله توبة نصوحا، ولعل مادة "نصوحا" تذكرنا بمعنى النصح، فالدين النصيحة، والنصح له أركان وشروط، والنصح يكون المجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي لا تشيع فيه الفواحش والمنكرات والفساد.
فاختزال معنى التوبة في المعنى الغيبي وحده بتر لمراد الله، وبتر لأوامره وإرشاداته، نسأل الله أن يعيد علينا التوبة بمفهومها الشامل على مستوى الفرد والمجتمع إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.