لا يعني حسن الطعام وطيبه كونه من حلال فقط بل هناك مستويات أخرى لحسن الطعام، وهناك أسرار أخرى لهذا ومنها علاقة الطعام وحسنه بحسن الأخلاق، فيسأل كثير من الناس عن أسباب شيوع سوء الأخلاق في العالم كله من حولنا، وأحد أهم تلك الأسباب -في رأيي- هو سوء الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء» [رواه الطبراني في الأوسط] وهو حديث مكون من مقطعين، الأول : أطب مطعمك، وهو أمر يطلب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطب الإنسان مطعمه، وذلك على مستويين :
المستوى الأول : أن يكون الطعام حلالاً، ومعنى هذا أن يكون مصدر الدخل حلالاً ليس فيه شيء من الرشوة أو السرقة أو الاختلاس أو الاغتصاب أو التدليس أو الغش، ويكون أيضا بعيدا عما حرم الله من المطعومات كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح، قال تعالى : (قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام :145].
بل إن قصة آدم عليه السلام في القرآن بينت نكد أكل الطعام المخالف وجعلته سببًا للطرد من الجنة قال تعالى : (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [الأعراف :22]. وقال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه : «كانت بلية أبيكم آدم أكله، وهي بليتكم إلى يوم القيامة»، فإن كان الطعام من مال حلال، وهو مما أحل الله من المطعومات دخل الطاعم حد استجابة الدعاء.
المستوى الثاني : هو أن يكون الطعام نفسه طيبًا في مذاقه، وفي إعداده، والذي يطلب هذا النوع من الطعام هو رقيق القلب، رهيف الحس الذي لا يدفعه الجوع لملء البطن دون تلذذ بالتذوق والاستحسان، وهي صفة نراها في قوله تعالى عن أهل الكهف بعد بقائهم 309 سنة في سبات ونوم : (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [الكهف :19]، فلم يدفعهم الجوع إلى طلب أي أكل ولو كان حلالا في ذاته، وفي مصدره، بل طلبوا أن يكون مرتبطا بأنه الأزكى، ثم تشير الآية إلى كمية الطعام وأنها برزق منه، ولم يقولوا فليأتكم به، وهنا نرى العلاقة مع الطعام نتيجة تزكية النفس، ونرى في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تزكية النفس من طيب المطعم حيث ذكر : (الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء : يا رب. يارب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) [رواه مسلم].
تناولنا مع الطعام يجب أن يكون منضبطًا؛ لأن له أثرا في حياتنا اليومية بجميع جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذه الضوابط تؤخذ من القرآن والسنة فمنها :
قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) [الأعراف :31]، فالكم مهم ينظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه المقدام بن معدي كرب؛ حيث قال : «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم ثلاث آكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه» [رواه النسائي والبيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك].
ويدرك السلف الصالح هذا المعنى فيقول ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث : لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة. ويقول المروزي للإمام أحمد بن حنبل :هل يجد الرجل في قلبه رقة وهو شبع ؟ قال : ما أرى ذلك. وقال إبراهيم بن أدهم : (من ضبط بطنه، ضبط دينه، ومن ملك جوعه، ملك الأخلاق الصالحة، وأن معصية الله بعيدة عن الجائع، قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب) وهذه المقولة تلخص تلك العلاقة التي كانت مرئية وعند فقدها فقدنا الشيء الكثير.
ويجعل الله سبحانه وتعالى من محاسن الأخلاق إطعام الطعام، فيقول سبحانه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا) [الإِنسان :8 ، 9]، فإطعام الطعام الطيب الحبيب إلى النفس -ولابد أن يكون بهذه الصفة- من صفات الذين يحبهم الله.
بل جعل الإطعام طريقا لتكفير الذنوب واشتراط أن يكون من أحسن الطعام وأعلاه، قال تعالى في كفارة اليمين : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة :89]، وأوسط معناها أعلى، كما في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة :143]، بل لابد من أن يكون حلالا له مذاق هو من أحسن ما يطعم الإنسان به أهله.
وهكذا رأينا زمننا الجميل يهتم الناس بحسن الطعام وإعداده والجلوس له، وعدم الإسراف فيه، وعدم الاستهانة بشأنه، حتى جعلوا الاستهانة بالطعام من كفر نعمة الله على الإنسان، ورأيناهم يتفننون في ذلك حتى مع بساطة الطعام، والمصريون والشاميون وغيرهم مشهورون في التعامل مع (الفول) وهو من الآكلات الشائعة البسيطة، فيقدمون بأشكال شتى وطرق مختلفة، فأين هذا من «كل وأنت تجري) (Take away) وأين هذا من عصر الهمبورجر والصفيح (يقصدون صفيح المشروب البارد).
وسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آداب الطعام، فقال لابن عباس رضي الله عنه : «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» [أخرجه البخاري ومسلم] وقال صلى الله عليه وسلم (من أكل طعاما، فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه) [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم].
وقد حث الشرع على التؤدة والتمهل في الأكل، وعدم العجلة والإسراع فيه، وقد ذمت امرأة زوجها بهذه العادة السيئة في حديث أم زرع الذي قصته السيدة عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت عن هذه الزوجة : «قالت السادسة : زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، لا يولج الكف، ليعلم البث» [أخرجه البخاري ومسلم] فدل ذلك على أن هذه الصفة في الأكل والشرب من مساوئ الأخلاق ومذوم الصفات.
وقال صلى الله عليه وسلم : «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» [أخرجه البخاري ومسلم] وقال عليه الصلاة والسلام : «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة» [أخرجه البخاري ومسلم].
ومن رفض هذا المنهج، وسار مسرفًا في أكله، ولا يبالي من أين كسب رزقه، ولا يبالي بطيب مطعمه، ولا يطلب استجابة الدعاء والخلق الحسن، فإنه يكون قد وضع نفسه في دائرة الترك، وفلسفة الترك في القرآن عظيمة، ولها منهجها نلحظها في مسألة الطعام، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر :3]، ولعلنا نتوسع في بيان فلسفة الترك، وموقف القرآن منها؛ لأنها نافعة للمسلم في عصرنا.
علينا إذن أن نرجع إلى الطعام الحلال، حتى نقضي على الشر في أنفسنا، والفساد في مجتمعاتنا والاختلال في العالم. دعوة قد يراها بعضهم بعيدة، ولكن علينا أن نسعى، وليس علينا إدراك النجاح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والرجلين، والنبي وليس معه أحد» [رواه مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه] يعني ولا يضره ذلك أنه كان على الحق، ولابد من التغيير «ابدأ بنفسك ثم بمن يليك» [رواه مسلم والطبراني في الأوسط وبهذا اللفظ أخرجه العجلوني في كشف الخفاء].
والطعام في الإسلام موضوع كبير، حيث يمثل ضرورة لحياة البشر، والضرورة يعرفها الفقهاء المسلمون بأنها: ما لم يتناولها الإنسان هلك أو قارب على الهلاك، وأدون منها الحاجة، وهي إذا لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة، ثم يذكرون بعد ذلك ثلاث مراتب وهي: المنفعة، والزينة، والفضول؛ فالمنفعة: تجري بها عادة الناس، وليس لها علاقة بضرورة الإنسان في بقائه حيًّا أو مشقته أثناء الحياة، والزينة أعلى من ذلك، أما الفضول: فهو بوابة الإسراف المنهي عنه، فهو في ذاته مباح، ولكن يمكن أن ينهى عنه إذا دخل في حد الإسراف.
وهذا التقسيم التفصيلي الذي نراه عند الفقهاء المسلمين لم أره عند علماء العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ حيث يسمون الضرورة بالحاجة الحرجة، ويسمون الحاجة بكلمة الحاجة أيضًا، ويقصدون بالحاجة الحرجة: الطعام، وترى هذا في علوم الغذاء والتغذية، ويقصدون بالحاجة كل ما يحتاجه الإنسان من مسكن وكساء وغيرها، ولعل تقسيم الفقهاء يزيد من دراسة المشكلة الاقتصادية عند الاقتصاديين؛ حيث يعرفونها بأنها: كثرة الحاجات مع قلة وسائل الإشباع نسبيًّا، وعدم التفصيل بين الضرورة والحاجة بهذا الشأن ولد خلطًا في تصنيف الغرائز حيث سموها بالحاجة، وعاملوها وكأنها ضرورة مرة، وأنها غير ضرورية مرة أخرى.
ومفهوم الطعام عند المسلمين في تراثهم يتمثل في: القوت، والفاكهة، والإصلاح، والدواء؛ ويقصد بالقوت: ما يحتاج إليه الإنسان ليقوم جسمه من غير مرض، ومثلوا له بالبلح والعنب والحبوب كالقمح، والشعير، والفول، والذرة. ويقصد بالفاكهة: الخضروات والفواكه بمفهومها الزراعي في عصرنا هذا، والإصلاح ويقصد به: الملح والبهارات ونحوها، وهي تصلح الطعام وتجعله أكثر استساغة حتى يقبل عليه الإنسان. والدواء: ما يؤخذ للعلاج، والماء والسوائل تدخل في مفهوم الطعام أيضًا؛ لأنها تؤخذ عن طريق الفم الذي يقوم بالطعم، ولذلك فإنني أرى أن بنك الدواء ينبغي أن يكون جزءًا من المشروع، ولكن بعد استيفاء شروط التعامل مع الدواء حيث إن التعامل معه له شروط تفوق التعامل مع سائر الطعام.
والطعام وهو أحد الأساسيات الثلاثة للإنسان، وفتح بنك له هو أول خطوة في المشروع الأكبر الذي يشمل الكساء، ثم السكنى، والذي يقضي حينئذ على ظاهرة أولاد الشوارع التي ملأت العالم وبدأت تسري عندنا، والتي هي سبة في جبين البشرية؛ خاصة من دان بالإسلام "دين الرحمة والتكافل".
والطعام هو أساس حساب احتياجات الإنسان؛ حيث إنه يمثل 40% من الدخل غالبًا في أي مستوى من المستويات الثلاث وهي: مستوى الكفاف، ومستوى الكفاية، ومستوى الكفاءة، وهذه مستويات المعيشة الثلاث لها علاقة بتحديد مستحق الزكاة، فالزكاة تعطى لمن هو دون مستوى الكفاف حتى يصل إلى مستوى الكفاية، ويمكن تحويل هذا النظر في أرقام تختلف قطعًا باختلاف البلد، وباختلاف الأزمان، وباختلاف الأعراف السائرة بين الناس.
فمستوى الكفاف: هو ذلك القدر الذي يقوم به الإنسان بحاجاته الأساسية، والطعام هو البداية؛ لأنه على مستوى الضرورة، ويحسب ذلك طبقًا لعلم التغذية بحاجة الإنسان بالسعرات الحرارية، وبشكل يتكون فيه الطعام اليومي في صورة وجبات ثلاث أو أربع، ومن المجموعات الغذائية المختلفة من نشويات وبروتينات وسكريات وفيتامينات وأملاح ومعادن ونحوها من المجموعات التي تراعى عند تكوين الطعام حتى لا يصاب الإنسان بالأمراض.
فالبالغ من الرجال يحتاج نحو 3 آلاف سعر حراري يوميًّا، ومن النساء نحو ألفي سعر، والطفل يحتاج 1500 سعر في تفاصيل وجداول في علم التغذية، والسعر الحراري هو مقدار الطاقة اللازمة لرفع 1جم ماء مقطر من درجة حرارة 13.5ْ (درجة مئوية) إلى 14.5ْ (درجة مئوية)، ولكل نوع من أنواع الطعام قدر من السعرات الحرارية تحسب بواقع وحدة 100جم، تمد الجسم بهذه الاحتياجات.
ويمكن للوجبة الرخيصة أو المتوسطة أو الغالية أن تحدد تكلفة الطعام اليومي للفرد، وللأسرة النووية (وهي الأسرة التي تتكون من زوج وزوجة وطفل) فإذا زادت الأسرة في عددها فبحسابه.
وفي بعض البلدان تكون تكلفة السكن مرتفعة؛ بحيث إنها تحسب سنويًّا لحالها دون أن تدخل في هذه المعادلة.
أما حد الكفاية، فيضاف إلى ما سبق مسألة التعليم، ومسألة العلاج، ومسألة الأمن الاجتماعي، ومسألة الأنشطة من رياضة، وفنون وآداب.
أما حد الكفاءة فيضاف إلى ما سبق بناء ملكات والتدريب عليها؛ كإتقان اللغات والرياضة الترفيهية والمشاركة الاجتماعية والسياسية، ذلك ونحن نعطي من الزكاة من كان في حد الكفاف حتى نصل به إلى حد الكفاية، ونعطي أعلى حد الكفاية حتى يصل إلى حد الكفاءة من الصدقة؛ حيث إن الزكاة لا تجوز لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، أما الصدقة فتجوز للغني.
ولقد وضعت الأمم المتحدة وهيئات الغذاء والأدوية العالمية دراسات حول كل ذلك، أرجو أن تدخل في تدريس مناهج الزكاة عند المسلمين؛ لفهم كلام التراث الإسلامي بعمق، وحتى نرى كيف أن هذه الحضارة التي بنيت على ذلك الدين كانت حضارة إنسانية راقية، ونأمل أن تستمر على ذلك، وما ذلك على الله ببعيد.