يقول البوصيري رضي الله عنه :
فهو الذي تم معاه وصورته |
|
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسمِ |
منزهٌ عن شريـكٍ فـي محاسنه |
|
فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ |
دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم |
|
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم |
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف |
|
وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ |
فإن فضل رسول الله ليس له |
|
حدٌّ فيعـرب عنه ناطقٌ بفـمِ |
فللنبي صلى الله عليه وسلم عند ربه مقام عظيم، وقدر جليل، فاق كل الخلائق أجمعين، فهو سيد ولد آدم، بل هو سيد الأكوان وصفوتها، فهو خير من الملائكة، وخير من العرش، ولا يعرف حقيقته وعظيم قدره إلا خالقه سبحانه وتعالى.
وقد خصه ربنا بمزايا عديدة، ونوع أشكال المدح له، وذكره في قرآنه بأجل الصفات، فوصفه ربنا بالرحمة فقال :(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وقال : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة : 128].
ووصفه ربنا سبحانه بأنه النور الهادي للحق فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) [الأحزاب :45، 46]. وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة :15].
وأثنى الله على أخلاقه فقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : 4]، وكما أخبر هو بنفسه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [أحمد والبيهقي والحاكم في المستدرك ومالك في الموطإ].
ولقد فضله الله على الأنبياء قبله في النداء، فالناظر في القرآن الكريم يرى أن الله قد نادى الأنبياء عليهم السلام قبله بأسمائهم المجردة، فقال تعالى (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : 46] وقال : (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [هود : 76] ، وقال سبحانه : (يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : 12 ،13]، وقال سبحانه وتعالى : (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ) [آل عمران : 55]، وقال سبحانه : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) [ص : 26].
أما نبينا صلى الله عليه وسلم فما ناداه الله تعالى في كتابه العزيز باسمه مجردا قط، بل كان دائما يناديه بقوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، أو (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، أو (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ)، أو (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ).
فهيا بنا نعرف شيئا عن مولد ونشأته صلى الله عليه وسلم، لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل الموافق 20 إبريل سنة 571 ميلادية، يعني في أواخر القرن السادس الميلادي.
واختلف المؤرخون في وفاة أبيه عبد الله هل توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل أو توفي بعد ولادته؟ على قولين أصحهما: أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل. والثاني: أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر.
وبعد مولده صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه عقب الولادة، ثم أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب أيامًا (والتي كانت أمة عنده وأعتقها لأنها بشرته بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم )، ثم جاء إلى مكة نسوة من البادية يطلبن أطفالاً يرضعنهم ابتغاء المعروف من آباء الرضعاء على حسب عادة أشراف العرب، فإنهم كانوا يدفعون بأولادهم إلى نساء البادية يرضعنهم هناك حتى يتربوا على النجابة والشهامة وقوة العزيمة، فاختيرت لإرضاعه صلى الله عليه وسلم من بين هؤلاء النسوة (حليمة) بنت أبي ذؤيب السعدية؛ من بني سعد بن بكر من قبيلة هوازن التي كانت منازلهم بالبادية بالقرب من مكة المكرمة، فأخذته معها بعد أن استشارت زوجها (أبو كبشة) الذي رجا أن يجعل الله لهم فيه بركة، فحقق الله تعالى رجاءه وبدل عسرهم يسرًا، فَدَرَّ ثديها بعد أن كان لبنها لا يكفي ولدها، ودَرَّت ناقتهم حتى أشبعتهم جميعًا بعد أن كانت لا تغنيهم، وبعد أن وصلوا إلى أرضهم كانت غنمهم تأتيهم شباعًا غزيرة اللبن مع أن أرضهم كانت مجدبة في تلك السنة، واستمروا في خير وبركة مدة وجوده صلى الله عليه وسلم بينهم.
ولما كمل له سنتان فصلته حليمة من الرضاع، ثم أتت به إلى جده وأمه وكلمتهما في رجوعها به وإبقائه عندها فأذنا لها بذلك، وبعد عودة حليمة السعدية به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى ديار بني سعد بأشهر، بعث الله تعالى مَلَكين لشق صدره الشريف وتطهيره، فوجداه صلى الله عليه وسلم مع أخيه من الرضاع خلف البيوت، فأضجعاه وشقا صدره الشريف وطهراه من حظ الشيطان، وكان ذلك الشق بدون مدية ولا آلة بل كان بحالة من خوارق العادة، ثم أطبقاه، فذهب ذلك الأخ إلى أمه حليمة وأبلغها الخبر، فخرجت إليه هي وزوجها فوجداه صلى الله عليه وسلم منتقع اللون من آثار الروع، فالتزمته حليمة والتزمه زوجها حتى ذهب عنه الروع، فقص عليهما القصة كما أخبرهما أخوه.
وقد أحدثت هذه الحادثة عند حليمة وزوجها خوفًا عليه، ومما زادها خوفًا أن جماعة من نصارى الحبش كانوا رأوه معها فطلبوه منها ليذهبوا به إلى ملكهم، فخشيت عليه من بقائه عندها، فعادت به صلى الله عليه وسلم إلى أمه وأخبرتها الخبر، وتركته عندها مع ما كانت عليه من الحرص على بقائه معها.
فعاد من ديار حليمة - وكان عمره سنتين وبضعة شهور - إلى أمه، التي طال اشتياقها إليه، وحنت عليه آمنة حتى بلغ عندها ست سنين، ثم إن الأرملة الوفية لذكرى زوجها الشاب عبد الله، قد عزمت أن ترحل إليه بالمدينة، فترى قبره، وتُري محمدًا أخواله من بني النجار، فخرجت آمنة في رحلة تبلغ خمسمائة كيلو مترا، تصحب ابنها وخادمتها أم أيمن، ويصحبها عبد المطلب، يحدوهم جميعًا حنينهم إلى قبر عبد الله، ومكثت آمنة بالمدينة شهرًا، ثم عُقِدَ العزم على الرحيل، ولكن تجسد لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى اليتم جليًا، فقد مرضت أمه في طريق عودتها، حتى قضت نحبها بالأبواء بين مكة والمدينة، وعاد يتيم الأبوين حزينًا مع جده العطوف إلى مكة.
فكان جده يكرمه، ويحبه، ويحنو عليه، بل ويقدمه على أبنائه وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين، وقيل ست، وقيل عشر، ثم كانت أخلاق عمه أبي طالب تدفعه لكفالة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم رغم ضيق ذات يده، ثم تلزمه أن ينصح له ويؤازره، منذ هذه اللحظة، واستمرت كفالته له.
عمله وشبابه:
فلما بلغ اثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام، وقيل كانت سنه تسع سنين، وفي هذه الرحلة رآه راهب صالح يدعى بحيرا -واسمه جرجيس- وعلم الراهب من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ما جهله قومه وأهله، فسأل أبا طالب عنه فقال: ابني. فأجابه: ما ينبغي أن يكون أبوه حيًا، وتعجب أبو طالب من علم بحيرا! فقال له: فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به. فأجابه بحيرا مقتضبـًا وناصحـًا: صدقت، ارجع به إلى بلدك، واحذر عليه يهود. فأسرع أبو طالب برده مع بعض غلمانه إلى مكة، ويبدو أن بحيرا قد عرفه من خاتم النبوة الذي بظهره -كما جاء في بعض الروايات - ومما كان يقرؤه بكتبه من قرب بعثة نبي بعد عيسى - عليه السلام - ومن أمارات ذلك النبي وعلاماته.
لقد ورث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن آبائه المجد والمكانة، وحفظه الله أن تصيبه لوثات الجاهلية، كما طهره من أدرانها، فكان خلقه قبل البعثة مثلاً بين قريش، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يرث عن آبائه متاعًا أو تجارة فكان على شرف نسبه، وسمو مكانته، يسعى في الأرض، يفتش عن رزقه، ويكدح يومه مجابهًا شظف العيش، وخشونة الحياة، وهو في ذاك يتنقل بين رعي الغنم، والتجارة.
فرعى الغنم مثله في ذلك مثل النبيين من قبله، كان محمد صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم، يمضي نهاره مستظلاً بسماء ربه، ويقضي يومه حر الخطا يتجول بين المراعي، حر البصر يقلبه في أرجاء الكون الواسع حوله، حر الفؤاد يتنقل به بين فكرة وفكرة! ثم هو مع ذلك لا يهيم بعيدًا في الخيال، بل يحفظ يقظته لتحفظ له غنمه الشاردة عن أنياب الذئاب، تعلم ذلك حين رعى الغنم قديمًا في بني سعد، وثابر عليه وهو يرعاها الآن - على قراريط - لأهل مكة.
وبينا أبو طالب يمر في أسواق مكة إذ علم أن خديجة تستأجر الرجال لتبعثهم في تجارتها إلى الشام مقابل بكرين - أي جملين - فاستأذن أبو طالب محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم عدا إلى خديجة فعرض عليها استئجار محمد على أربعة بكار، فأسرعت بالموافقة، وقيل بل هي التى أرسلت إليه تستأجره، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، لما سمعت من كرم خلقه، وصدق حديثه، فأجابها وعمره حينئذ خمسة وعشرون عامـًا.
وارتحل صلى الله عليه وسلم إلى الشام بتجارة خديجة، وفي صحبته غلامها ميسرة، فباع واشترى، ورأى ميسرة من عظيم أمانته وصدق حديثه، وفضل خلقه، ما جعله يسارع إلى خديجة عند عودته ليقص عليها ما رآه من هذا الرجل العظيم، وقد لمست هذه السيدة الكريمة فضل محمد صلى الله عليه وسلم حين وجدت تجارتها بخلقه وعذوبته قد تضاعفت - أي بلغت الضعف -، مما قوَّى في صدرها رغبتها في الزواج منه.
زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها:
فمن هذه المرأة التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ريعان شبابه ؟ إنها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب - أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً - أسرت إلى صديقتها نفيسة بنت منية رغبتها في أن تعرض على محمد صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فهي تعلم من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم أنه لن يبذل ماء وجهه في طلب يدها، مزاحمًا أغنياء قريش وسادتها، على فقر يديه وقلة ماله، دفعت خديجة صاحبتها إلى محمد صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فأنست منه رغبة في زواجها، وخشية من رفض طلبه لضيق ذات يده، فطمأنته بنت منية قائلة: عليَّ ذلك. وعادت بعدها تزف إليه موافقة خديجة على طلبه، وتحديدها الساعة التي يأتي فيها بأهله ليطلبها من أهلها، وما كادت الساعات تمر حتى كان أبو طالب قد صحب محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وطلب زواج خديجة - رضي الله عنها - لابن أخيه من عمها عمر ابن أسد، فتم الزواج المبارك الميمون الذي نعمت خديجة في ظلاله بأفضل زوج هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ونعم محمد صلى الله عليه وسلم فيه من خديجة - التي أرسل الله إليها تحيته مع الروح الأمين- بحنان دون ضعف، وحزم دون عنف، ومساندة في كل وقت، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها غيرها حتى ماتت، وكل أولاده منها سوى إبراهيم، ولدت له أولاً القاسم، وبه يكنى، ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبدالله الملقب بالطيب والطاهر، وقد تزوجها وهو في الخامسة والعشرين من عمره وقد كانت هي في الأربعين من عمرها.
عاش محمد صلى الله عليه وسلم مع قريش، وخالط رجالاتها، فقد كان قوي الفطنة، طيب المعشر، جميل السيرة، سليم السريرة، تام المروءة، عالي الهمة، طويل الصمت في التأمل والتفكير، محباً للخلوة معتزلاً للهو والعبث، مطمئن القلب، سامي النفس، ما رؤي يومًا سابًّا، أو مجادلاً، أو صخابًا في الأسواق، عافت نفسه الخمر، وعزفت نفسه عما ذبح على النصب، ونأى بعيدًا عن الأوثان واحتفالاتها الباطلة، كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرَّهم عملاً، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة، حتى سمّاه قومه لذلك كله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم .
وشب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة حتى بلغ الأربعين متميزًا بخصاله النبيلة التي بهرت من حوله، حتى إذا كان قريب عهد من النبوة حُبِّب إليه الخلاء. فكان يخلو بنفسه الليالي ذوات العدد يخلد فيهن إلى غار حراء يتحنث فيه ، متأملاً متدبرًا، ولم يكن أحب إليه صلى الله عليه وسلم من الاختلاء بنفسه والتأمل في الكون والدنيا للتعرف على الخالق، ثم توالت آثار النبوة تلوح عليه، وكان أعظم ذلك الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى شيئًا في منامه إلا كان مثل فلق الصباح في تحققه حتى مضى على ذلك ستة أشهر، ثم بدأت تلك الرسالة الخالدة من غار حراء بنزول أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بكلام الخالق القرآن العظيم.
كان ذلك طرفا من سيرة النبي منذ مولده وقبل بعثته الشريفة، نذكرها ونتذكرها في مناسبة مولده الشريف، وحتى لا نكثر من الحديث عن التاريخ والسير فلها مراجعها، نتكلم عن فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته عند ربه. (يتبع)