إن شخصية في حجم الشيخ محمد عبد الله دراز، رحمه الله تعالى، لجديرة بالدراسة المتأنية المتدبرة حيث أنه كان من أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث برؤيته المستنيرة الواضحة وفكره المستقيم المرن. وقد طبعت جميع مؤلفاته في ستة كتب ضخمة إلا أنها شملت المؤلفات الرئيسية فقط ولم تشمل أوراقه وبحوثه ورسائله ومقالاته التي كتبها أو تلك التي كُتبت عنه، وظل هذا الكنز الثمين في أدراج النسيان بمكتبة الشيخ حتى جاء باحث ذو همة وهو الشيخ أحمد مصطفى فضيلة وقام بتجميع غالبية هذه الأوراق في كتابين الأول تحت عنوان "محمد عبد الله دراز سيرة وفكر" وتناول فيه حياة الشيخ بالتفصيل والمحاور العامة لمدرسته الفكرية وآثاره العلمية ووفاته ورثاؤه وثناء العلماء عليه.
أما الكتاب الثاني وهو الأهم فكان تحت عنوان "محمد عبد الله دراز دراسات وبحوث" وتناول فيه ما كتبه الشيخ من مقالات وبحوث وما كُتب عنه في الصحافة العربية بأقلام تلامذته ومعاصريه ليضع بين يدي القارئ كنزاً علمياً ثميناً كان نسياً منسياً حتى جاء الشيخ أحمد فضيلة فجمعه واعتنى به وطبعه في هذا الكتاب. وقد قُسم الكتاب إلى ستة أبواب تناول في الباب الأول المقالات التي كتبت عن المدرسة الفكرية للشيخ بصورة كلية جامعة وذلك في سبعة مقالات مختلفة لعل أهمها مقال الشيخ يوسف القرضاوي والذي تناول فيه المسيرة العلمية للشيخ بصورة موجزة دقيقة فلخص في صفحات قلائل ما يعجز شخص عن كتابته في مجلدات ضخمة، وهناك أيضا مقال الأستاذ أنور الجندي والذي قام بتفصيل ما أوجزه الشيخ القرضاوي ليعطيا المقالان معاً صورة متناسقة متكاملة عن الميراث العلمي للشيخ عبد الله دراز، تؤكد أن الفكر الإسلامي المستنير هو في أصله حلقات متصلة متعاقبة بين الأجيال وأن الشيخ دراز لم يكن ظاهرة متفردة بل هو أحد حلقات هذا الفكر في عصره متسلماً الراية ممن سبقه ومسلماً إياها لمن جاء بعده.
ومن الباب الثاني وحتى الرابع، تناول الباحث الدراسات المتخصصة عن مؤلفات الشيخ دراز، فخصص الباب الثاني للدراسات التي تناولت مؤلفاته وآثاره في السنة وهما كتابي المختار والميزان، وللكتابين أهميتهما العلمية والفكرية لعلم السنة الشريفة والدفاع عنها والاستفادة منها، وتناول الباب الثالث عدة مقالات وبحوث حول مؤلفات الشيخ دراز في علم الأخلاق وقد رسمت هذه المقالات صورة دقيقة لمدى الفائدة العظيمة التي أضافتها تلك المؤلفات إلي علم الأخلاق في عمومه وخصوصه مما دفع أحدهم وهو الأستاذ أنور وجدي لاعتبار محمد عبد الله دراز المؤسس الحقيقي لما يعرف بعلم الأخلاق القرآني وكتب عن ذلك مقالاً دقيقا منشوراً في هذا الباب. وتناول الباب الرابع مؤلفات الشيخ في التفسير وعلوم القرآن ولعل أهمها كتابه القيم الممتع الماتع "النبأ العظيم" وهذا الكتاب من الأهمية التي تدفعنا لتخصيص مقالات منفصلة لعرضه وتحليله والغوص في كنوزه اللامتناهية.
وتناول الباحث أيضاً في الباب الخامس أهم بحوث الشيخ في القضايا المعاصرة، بالعرض والتعليق، مع مقدمة جيدة تناول فيها مناسبة البحث والأسباب التي دفعت الشيخ إلى كتابته إن وجدت، ومن أمثلة ذلك بحثه بعنوان "الإسلام والسلام الديني العالمي" والذي ألقاه في مؤتمر الأديان العالمي بباريس عام 1939م، وأهمية هذا البحث تتمثل في توقيته وهو نفس وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، ففي الوقت التي اجتاحت الجيوش المختلفة أرض الله تنشر الدمار والخراب والدماء فلا تُفرق بين الطفل والمرأة والكهل، كان الدكتور دراز ينادي بتوحيد الصفوف بين الأديان المختلفة ويدعو إلى التقائها عند "قاعدة واحدة هي أساس التعاون" وذلك أنها تأمر جميعها بالعدل والإحسان وتنهى عن الظلم والعدوان وكلها تساوي في "هذه المعاملة الدنيوية بين أتباعها وبين أعدائها"، وهو نفس ما يدعو إليه علماؤنا في العصر الحالي تحت شعار "تعالوا إلى كلمة سواء".
أما الباب السادس فقد خُصص للحوار الوحيد الذي أجراه الدكتور دراز مع صحيفة الأهرام تحت إدارة الأستاذ عصمت عبد الجواد فور عودته من باريس بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون وأهم ما في الحوار ما قاله الشيخ عن مناقشة الرسالة والتي استمرت في أحد قاعات جامعة السوربون طوال أربع ساعات متواصلة وسط جمهور جميعهم من الفرنسيين وقد أجاد الشيخ في عرض موضوعه بأسلوب مبهر دعى رئيس لجنة المناقشة ليعقب قائلاً: "أنك ولا شك تريد أن تجذبنا إلى الدين الإسلامي أليس كذلك؟؟"
أما الباب السابع والأخير فقد تناول المقالات المختلفة التي نشرها الشيخ في مجلة "المجلة" منذ يوليو سنة 1957م وقد تناولت موضوعات شاملة متنوعة ترسم صورة حية لجهوده العلمية والإصلاحية المتواصلة ويظهر ذلك جلياً من عنوانيها مثل "بين العدل والفضل"، " كيف تحب الناس محبة شاملة"، "آداب القرآن بين المثالية والواقعية" و "مناهج الناس في السلوك وقيمها في القرآن" وغير ذلك. ورغم الجهود المضنية للباحث أحمد مصطفى فضيلة في جمعه لهذا الكتاب إلا أن التراث العلمي للدكتور عبد الله دراز ما زال كالبحر الواسع المترامي الأطراف منتظراً المزيد من طلاب العلم وأصحاب الهمم العالية لسبر أغواره وتحصيل كنوزه ونشر فوائده، فكلما سرحت النظر في هذا الكتاب الجامع كلما شعرت بمدى احتياجنا إلى الشيخ في خضم حياتنا اليوم ورغبتي في أن نستنسخ منه نسخاً كثيرة في صورة شبابنا من طلاب الأزهر العامر نهيئ لهم الطريق ونشجعهم ونقوي هممهم، فالله على كل شيء قدير.