تكلمنا في المرة السابقة عن الدعاء وآدابه وحكمه، وعلمنا أن من آداب الدعاء تحري الأزمان والأحوال والأماكن الفاضلة، ومن هذه الأماكن تحت الميزاب ميزاب الرحمة، حيث يتجه المؤمن إلى الله يدعو ربه سبحانه وتعالى، وما من أحد دعا الله في البيت الكريم المشرف إلا استجاب الله له.
وقد بنى الله الإسلام على خمسة أركان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وأمرنا سبحانه وتعالى بإقامة هذه الأركان، فهي وعاء للإسلام وإناء يضع ربنا لنا فيه من أنواره وينزل علينا من أسراره سبحانه وتعالى فهو الرءوف الرحيم بحالنا.
وقد جمع الله علينا في الحج كل هذه الأركان، فالحج يشتمل على التوحيد ويشتمل على الصلاة، ويشتمل على الإنفاق والحج يشتمل على الصوم، ويشتمل على النذر، ومن أجل ذلك يبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعموم المغفرة للحجاج حيث قال : «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه البخاري ومسلم].
: فالحج في اللغة هو مطلق القصد، وقيل هو القصد لمعظم.
أما الحج الذي نقصده فهو : قصد موضع مخصوص (وهو البيت الحرام وعرفة) في وقت مخصوص (وهو أشهر الحج) للقيام بأعمال مخصوصة وهي : (الوقوف بعرفة, والطواف, والسعي عند جمهور العلماء, بشرائط مخصوصة يأتي بيانها.
حكم الحج :
الحج فرض عين على كل مسلم ومسلمة بشروطه وهي : (العقل-البلوغ-الاستطاعة)، وهناك شرط خاص بالنساء وهو (عدم العدة) فلا يجوز للمعتدة أن تخرج للحج وهو أحد أركان الإسلام، أما بخصوص المحرم أو الزوج فلا يلزم المرأة ذلك في الحج، فإن وجدت نسوة ثقات (اثنتين فأكثر تأمن معهن على نفسها) كفى ذلك بدلا عن المحرم أو الزوج وهو ما ذهب إليه الشافعية والمالكية إن لم تجد المرأة المحرم، بل يجوز لها أن تخرج وحدها لأداء الفرض أو النذر إذا أمنت على نفسها ومالها.
وقد دل على فرضية الحج القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع المسلمين، فأما القرآن الكريم فيقول تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) [آل عمران :97]. ومن السنة النبوية أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) [رواه مسلم].
وقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا، شرقًا وغربًا، على فرضية الحج وأنه أحد أركان الإسلام الخمسة، وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه منكره يكفر. وقد اختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي ؟ فذهب الجمهور إلى أن الحج يجب على الفور (بمعنى فور الاستطاعة) وهو الأولى، وذهب الشافعية والإمام محمد بن الحسن إلى أنه يجب على التراخي، ذلك بالنسبة لحكمه، أما فضله فكثير نبينه فيما يلي :
فضل الحج :
يقول الله تعالى : (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ)، وقد كثرت النصوص النبوية الشريفة في فضل الحج وعظيم ثوابه، نذكر من ذلك على سبيل المثال، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) [رواه مسلم] .
وكذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة, وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة) [رواه مسلم، والنسائي] ، وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الحجاج والعمار وفد الله, إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم) [ابن ماجة والبيهقي في الشعب] وعنه أيضا : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان بالله ورسوله, قيل : ثم ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل الله, قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور) [البخاري ومسلم].
هيئات الحج :
يؤدى الحج على ثلاث هيئات هي:
1- الإفراد : وهو أن يحرم الحاج بالحج فقط عند إحرامه، فيقول «لبيك اللهم حجًا» ثم يأتي بأعمال الحج وحده.
2- القران : وهيئته أن يحرم بالعمرة والحج جميعا, فيقول : «لبيك اللهم عمرة وحجًا» فيأتي بهما في نسك واحد. وقال الجمهور : إنهما يتداخلان, فيطوف طوافا واحدا ويسعى سعيًا واحدًا ويجزئه ذلك عن الحج والعمرة. وقال الحنفية : يطوف القارن طوافين ويسعى سعيين, طواف وسعي للعمرة, ثم طواف الزيارة والسعي للحج. ويجب على القارن أن ينحر هديًا بالإجماع.
3- التمتع : وهو أن يحرم بالعمرة فقط في أشهر الحج, فيقول : «لبيك اللهم عمرة» ويأتي مكة فيؤدي مناسك العمرة, ويتحلل. ويمكث بمكة حلالا, ثم يحرم بالحج ويأتي بأعماله. ويجب عليه أن ينحر هديا بالإجماع.
أركان الحج :
للحج أركان أساسية إذا ترك المسلم منها شيئًا بطل حجه، وأركان الحج ستة وهي :
1- الإحرام. 2- الوقوف بعرفة. 3- طواف الزيارة
4- السعي. 5- الحلق أو التقصير. 6- الترتيب بين الأركان.
وذلك عن الشافعية، أما عند الحنابلة والمالكية، فالأركان أربعة فقط دون الحلق أو التقصير والترتيب، وعند الأحناف ركنان فقط هما : الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة.
1- الإحرام : وهو في اللغة الدخول في الحرمة. ومعناه الشرعي : نية الحج عند الجمهور، والنية مع التلبية وهي قول : لبيك اللهم - عند الحنفية. والإحرام ركن من أركان الحج عند الجمهور, وشرط من شروط صحته عند الحنفية.
2- الوقوف بعرفة : وهو أن يقف الحاج بأرض عرفة، ويبدأ وقت الوقوف بعرفة من زوال الشمس يوم عرفة - وهو تاسع ذي الحجة - ويمتد إلى طلوع الفجر الصادق يوم عيد النحر حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه باطلا اتفاقا في الجملة . وقد أجمعوا على أن آخر وقت, وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة, ويسن ألا يدخل عرفة إلا بعد الزوال, وبعد أن يجمع الظهر والعصر تقديمًا, فيقف بعرفة مراعيا أحكامه وسننه وآدابه, ويستمر إلى غروب الشمس, ولا يجاوز عرفة قبله, ويتوجه إلى الله في وقوفه خاشعا ضارعا بالدعاء والذكر والقرآن والتلبية، ويسقط الفرض بالوقوف في تلك المدة زمنًا يسيرًا، وما ذكر أفضل.
3- طواف الزيارة أو الإفاضة : هو طواف يؤديه الحاج بعد أن يفيض من عرفة ويبيت بالمزدلفة, ويأتي منى يوم العيد، فيرمي، وينحر، ويحلق، ثم بعد ذلك يفيض إلى مكة فيطوف بالبيت، وسمي طواف الزيارة؛ لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة, بل يرجع ليبيت بمنى. ويسمى أيضا طواف الإفاضة؛ لأن الحاج يفعله عند إفاضته من منى إلى مكة.
وعدد أشواط الطواف سبعة, ويجب المشي في الطواف على القادر عليه عند الجمهور, وهو سنة عند الشافعية. ويشترط فيه أن يكون مسبوقًا بإحرام، ومسبوقًا بالوقوف بعرفة، ويبدأ وقت طواف الإفاضة بعد منتصف ليلة النحر، لمن وقف بعرفة، ولا حد لآخره.
4- السعي : هو مشي الحاج بين جبل الصفا وجبل المروة، وهو السعي بين الصفا والمروة ويشترط فيه سبق الإحرام، وأن يسبقه الطواف، وأن يبدأ السعي بالصفا فالمروة، فلو عكس يلغي الشوط واحتسب من عند الصفا. وركن