1- ونستمر في رؤية واقعية لحال المؤسسة الدينية في مصر، وأداء دورها حتى نخلص إلى المأمول منها وفيها، فنرى بعثات الأزهر في كل مكان تشارك في نقل هذا الدين لمن بعدنا عن طريق التدريس وعن طريق الدعوة في المراكز الإسلامية المختلفة من واشنطن إلى لندن إلى روما غرباً، وإلى الفلبين وبروناي وباكستان شرقا. فللأزهر بعثاته في كل مكان في آسيا وأفريقيا وأوروبا تقوم بدورها، ولديه وافدين من أكثر من ستين دولة يدرسون في مصر وهم يرجعون إلى بلادهم فيتصدرون أعلى المراكز الدينية والعلمية حتى إن بعضهم رئيس للدولة أو رئيس للوزراء، وتصدر كثير منهم القضاء والإفتاء والوزارة في بلادهم وهم في غاية التمكن والنجاح.
وكلما وجد الأزهر كلما وجد أهل السنة والجماعة، ووجد الإسلام بمفهومه الوسطي الرائق، ووجد الفهم الصحيح المبني على المنهج العلمي الرصين لنصوص الدين والفهم الواقعي للحياة وكيفية العيش فيها. هذا واقع يصرخ بهذه الحقائق البسيطة التي يعد إنكارها مكابرة رديئة، ويمكن أن نفكر في تطوير ما هو حادث أو تفعيله حتى يقوم بدور أكبر أو تمويله حتى ينتشر في مواجهة الانحرافات المتعددة، أما انتقاده ووصفه بالفشل أو القصور أو التقصير فهو منهج غير سديد، ولكن :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ** وينكر الفم طعم الماء من سقم
2- وإذا أضفنا إلى ذلك مجهود المعاهد الأزهرية التي زادت عن سبعة آلاف معهد كلها بنيت بالجهود الذاتية، نقلت الناس من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى العلم، وحاول المنهج الأزهري أن يحافظ على هويته مع تطور رهيب حوله، وحاول أن يكون على قدم المساواة مع التعليم العام بعد صراع استمر أكثر من ثلاثين سنة في أوائل القرن العشرين، وبعد أن كانت المعاهد خمسة معاهد وعدد طلابها لا زيد عن ثلاثة آلاف أصبحت سبعة آلاف معهداً بها مليون ونصف مليون طالب، فإذا كان عدد السكان قد زاد من أول القرن العشرين إلى آخره خمسة أضعاف، فإن المعاهد زادت ألف وأربعمائة ضعف، والطلاب زادوا خمسمائة ضعف، وقد وصل المنتمون للأزهر من الأحياء إلى عشرة ملايين نسمة حول العالم ما بين 6 سنوات إلى 96 سنة، فهذا يبين مدى قيام المؤسسة الدينية بدورها، ومدى التحام الناس بها.
3- وإذا رجعنا مرة أخرى إلى فكر المؤسسة الدينية في مقابلة فكر الصدام وجدنا أن الفكر الصدامي يفترض أمورا ثلاثة وهي :
أولا : أن العالم كله يكره المسلمين وأنهم في حالة حرب دائمة للقضاء عليهم وأن ذلك يتمثل في أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (يهود) والتبشير (نصارى) والعلمانية (إلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين في الخفاء مرة وفي العلن مرات، وأن هناك استنفار للقضاء علينا مللنا من الوقوف أمامه دون فعل مناسب.
ثانيا : وجوب الصدام مع ذلك العالم حتى نرد العدوان والطغيان، وحتى ننتقم مما يحدث في العالم الإسلامي هنا وهناك، ووجود الصدام يأخذ صورتين الأولى : قتل الكفار الملاعين، والثانية : قتل المرتدين الفاسقين، أما الكفار الملاعين فهم كل البشر سوى من شهد الشهادتين، وأما المرتدون الفاسدون فهم من شهد الشهادتين وحكم بغير ما أنزل الله وخالف فكرهم، وهذه الصياغات كما نرى فيها شيء كثير من التلبيس والتدليس والجهالة ولكنها سوف تجذب كثيرا من الشباب.
ثالثا : أن فكرهم يراد له أن يكون من نمط الفكر الساري، وهذا معناه أنه لا يعمل من خلال منظمة أو مؤسسة يمكن تتبع خيوطها بقدر ما يعمل باعتباره فكراً طليقاً من كل قيد يقتنع به المتلقي له في أي مكان ثم يقوم بما يستطيعه من غير أوامر أو ارتباط بمركز أو قائد.
وعليه فإن الفوضى سوف تشيع بصورة أقوى وتنتشر بصورة أعمق وهذه النظرية لها ارتباط عضوي بنظرية الفوضى الخلاقة التي لعلنا أن نفرد لها كلاماً مستقلا فيما بعد، وهي المصطلح الذي شاع في الاستعمالات السياسية والأدبية في الآونة الأخيرة وإن كان الكثيرون لا يدركون أصوله ومعانيه وآثاره والنموذج المعرفي المنتمي إليه.
4- هذه الأركان لذلك الفكر تخالف منهج المؤسسة الدينية، وإذا أردنا أن نقاوم هذا الانحراف فيجب علينا أن نؤكد على مرجعية المؤسسة الدينية ليس لدى الدولة فقط، بل باعتبار ذلك مشروعاً حضارياً إنسانياً، ودستوراً يلتزم به الإعلام والأقلام والمفكرون. ويجب علينا أن لا نبخل على هذه المؤسسة عند أداء دورها بالمال الذي هو عصب الحياة، ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في مكة فآمن به ما لا يزيد عن مائتي شخص عبر ثلاث عشرة سنة، ثم لما هاجر إلى المدينة وجاء المال دخل الناس في دين الله أفواجاً، فإذا أكدنا على المرجعية ومولنا دور المؤسسة الدينية في مقاومة الانحراف تغير الحال واستقر، وللمؤسسة الدينية فكر واضح بإزاء هذه الأركان الثلاثة نفصله في وقت لاحق.
5- أما خصائص هذا الفكر فإنه يرى من حيث يدري أو لا يدري، قصد أو لم يقصد أن الإسلام دين إقليمي وكأنه نزل للعرب فقط أو لابد أن يبقى في بلاد المسلمين فقط، وفكر أهل السنة أن الإسلام دعوة وما دام دعوة فهو عالمي قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء :107]. وقال : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [سبأ :28] وما دام كذلك فإن الصدام لا يصلح أساساً له ومن هنا كان مفهوم الجهاد قاصراً ومشوشاً عند هؤلاء حيث اقتصر على الاستدلال بالقتال ثم تمادوا في الاختزال حتى خلطوا بين القتل والقتال، والجهاد مفهوم شامل يشمل الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، والجهاد الأصغر وهو جهاد القتال لصد العدوان ورفع الطغيان يقول ربنا : (وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج: 78 ]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، مجاهدة العبد هواه) وفي رواية : (جهاد القلب) [أخرجه البيهقي في الزهد الكبير]. ويقول ربنا في شأن دستور القتال في سورة البقرة : (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) [البقرة :190].
وهذا الاختزال من المفهوم الروحي للجهاد والشامل للممارسة إلى الأصغر فقط، ثم من القتال إلى القتل، هو خصيصة ذلك الفكر، ويضاف صفات أخرى وهي، أولا : عدم إدراك الواقع. ثانيا : المشرب المتشدد في فهم ما عرفوه من معلومات، أما أهل السنة فقد فهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) [أخرجه أحمد والبيهقي في الكبرى والشُعب]، وفهموا ما وصفت به عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت : (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وكان أبعد الناس عن الإثم) [أخرجه البخاري ومسلم]. ثالثا : الإحباط واليأس والشعور بالظلم. رابعا : التفكير السطحي سواء في فهم النص أو إدراك الواقع أو الجسر الواصل بينهما وهو ما يتم تعليمه والتدريب عليه والتربية به في المؤسسة الدينية اعتمادا على قوله تعالى : (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة :122].
وبذلك نرى آراءهم واتجاهاتهم وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة، وهي الخمسة التي يجب على الدارسين عند تحليلهم للظاهرة أن يقفوا عندها.
6- فالمؤسسة الدين إذن لا تلقى القول على عواهنه وهي تؤكد جلالها ولا تذكر غير الواقع ولا تغالي أو تخفي شيئاً، وتتخذ من سورة العصر دستوراً جامعاً لها قال تعالى : (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [وَالعصر : 1 : 3].
واقع المؤسسة الدينية أنها ما زالت تقوم بدورها الوطني والقومي والإسلامي وهي بإذن الله في الريادة والقيادة دائماً، لا نرضى بواقعنا، ولا نستكين لإنجازاتنا ولكن يجب أن تعلم الحقيقة ونحن في عالم متغير، ولتكن لغة الأرقام مع لغة الكيف دليلاً على ذلك.
1- فدار الإفتاء المصرية نشأت سنة 1895م وكان أول من تولاها هو فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر حينئذ الشيخ حسونة النواوي، ثم تولاها من بعده الأستاذ الإمام محمد عبده من سنة 1899م حتى 1905م حيث انتقل إلى رحمة الله تعالى، وفي خلال هذه السنوات الست أصدر الإمام محمد عبده 964 فتوى مسجلة في سجلات دار الإفتاء، وعدد السكان لا يزيد عن عشرة ملايين نسمة، ودار الإفتاء بعد مائة عام باقية تؤدي دورها في مبنى جديد أدخلت فيه وسائل التقنيات الحديثة من أجهزة الحاسب الآلي وأجهزة الاتصالات المتطورة، وانتقلت من قصر رياض باشا رئيس وزراء مصر في مجمع المحاكم بالعباسية إلى المبنى المستقل الكبير الذي يجاور مشيخة الأزهر بطريق صلاح سالم عبر هذه السنوات المائة، والذي أشرف على هذه البناية ودفعها دفعاً هو فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر عندما تولى الإفتاء سنة 1986 فأنهاها سنة 1992.
فعدد الفتاوى التي تصدر شهريا من دار الإفتاء في أيامنا هذه ثمانية أضعاف عدد الفتاوى التي صدرت في عهد الإمام محمد عبده في ست سنوات، ومع مراعاة أن السكان قد زادوا سبعة أضعف، فيتضح لنا أن الألف فتوى التي صدرت في ست سنوات في عهد الإمام محمد عبده كان ينبغي أن تكون 7000 فتوى في ست سنوات لاعتبار النسبة العددية في السكان، مع افتراض أن ارتباط الناس بمؤسستهم الدينية كما، ولكن عندما يصبح عدد الفتاوى هو 8000 فتوى في كل شهر. فهل يا ترى ما زال الأمر يحتاج إلى دليل لقيام المؤسسة الدينية بدورها ؟ وإلى دليل لشدة التصاق المسلمين بمؤسستهم الدينية ؟ وإلى دليل إلى وهم إحجام المسلمين عن مرجعيتهم الدينية؟
2- وتسجل دار الإفتاء كل ما صدر عنها من فتاوى، فليس منها فتوى واحدة كانت تحت الطلب أو فصلت لأحد من الناس، أو لم تراع الكتاب والسنة ورضى الله ورسوله وما عليه السلف الصالح من الأمة، أو مصلحة الناس، أو مقاصد الشرع، ويمكن مراجعتها كلها فقد وضعنا فتاوى السنوات المائة بعد حذف المكرر على قرص يباع بعشرة جنيهات في منافذ بيع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وصدرت في 23 مجلد إلى الآن، ولنا موقع على الإنترنت تنشر عليه الفتاوى الجديدة، والتي نقوم بترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية خاصة ما يهم حياة المسلم في الغرب، وييسر عليه عيشه، ويجعله سفير الإسلام الصحيح وداعية بحاله قبل قاله لهذا الدين العظيم، وتتلقى الدار مئات الفتاوى والأسئلة شهريا عن طريق البريد الإلكتروني، والموقع من العالم كله وتجيب عليها وتتفاعل معها.
3- يستطيع المسلم أن يرجع إلى هذا الموقع وعنوانه www.dar-alifta.com ويطلب منه الفتوى، لا أن يأخذها من هنا أو هناك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) [رواه مسلم]. ونقل الفتوى شهادة وهو يقول صلى الله عليه وسلم : (أرأيت الشمس فعلى مثلها فاشهد) [البيهقي في الشُعب]، وقد نسبت لي الأخبار السيارة إما عن حسن قصد أو عن سوئه أني حرمت المظاهرات أو أحللت الرشوة أو قتل السفير الإسرائيلي بالقاهرة أو الكويز أو العري أو الخمر أو المخدرات في سلسلة مضحكة مبكية من المهاترات التي أنكرناها ورددنا عليها وما زال يحلو لبعضهم أن يتشدق بها. وعدم التوثق وعدم التوثيق يدخل صاحبها في دائرة الكذب المحرم شرعاً. وقال بعضهم : إن هناك أشياء لا يمكن إلا وأن تكون قد صدرت منكم، فقلت له : كيف هذا ؟ فقال : لقد نشرت مرات. وهذه عقلية مرفوضة مع ما نراه ونعرفه من أن أغلب الناس لا يتوثقون التوثق الذي تعلمناه حين نقل القرآن ونقلت السنة ونقل الفقه والعلم إلى من بعدنا، والتوثيق ثقافة يجب أن تشيع حتى نصل إلى العقلية العلمية ونخرج من عقلية الخرافة والانطباعات الهشة.
4- أما الجامعة الأزهرية فإنها أصبحت أقدم جامعات الدنيا بعد مرور ألف سنة من عملها المتصل وأصبحت أكبر جامعات الدنيا بعد أن أصبح عدد طلابها 400 ألف طالب، وبلغ عدد أساتذتها سبعة ألاف وكلياتها نحو سبعين كلية، فهي بهذا أكبر من أي جامعة في مصر، وأكبر من أعظم الجامعات في العالم من هارفارد بأمريكا، وكمبردج بلندن، وطوكيو باليابان، وهي جامعة تؤدي دورها واستطاعت أن تطور أساليب الدراسة في المائة سنة الأخيرة حتى وصلت إلى اعتمادها في العالم، ووسعت من دراستها فلم تعد تقتصر على العلوم الشرعية، بل أيضا درست العلوم المدنية، بعد تخرج الطالب من المعاهد الأزهرية التي اهتمت ولا زالت بحفظ القرآن، وهو المزية التي مازالت مصر هي الأولى شيوخاً وحفظة وتلاميذ على كل دول العالم، ومازالت المسابقات الدولية تحتاج إلى مصر في حكامها والمصريون يحصدون الجوائز الأولى منها عبر السنين، فلا تزال مصر هي مصدر القرآن وقراءته للعالم الإسلامي كله، ومازالت مصر هي سبب الخير وحفظ كتاب الله في العالم كله، وما زالت جامعة الأزهر هي مصدر الدراسة الأكاديمية المتخصصة عالية الشأن، وما زال أساتذتها يدرسون في كل العالم الإسلامي، بل والعالم الغربي ويرأسون الأقسام ويحتفظون بكراسي الأستاذية في الشرق والغرب، فهل هذا الواقع المرئي الملموس يحتاج إلى دليل.
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
5- أما وزارة الأوقاف فهي تشرف على الدعوة من خلال أكثر من تسعين ألف مسجد في مصر، ومن خلال أربعين ألف خريج من خريجي الأزهر الشريف أئمة يحتاج إليهم الناس، وتقوم الوزارة بعمل دورات تدريبية عالية المستوى لوصل هؤلاء الدعاة بالواقع المتطور وبشبكة المعلومات الدولية وأدوات التحليل لفهم المضمون في كافة الجوانب وفي الترجمة والنشر عن طريق المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ولجانه، ووضعت نظاماً يمنع العبث بالدعوة أو أن يتصدر فيها من ليس بكفء، فشرطت لمن يصعد المنبر أن يكون خريجاً من الأزهر أو دار العلوم، أو عنده من الكفاءة ما يمكنه من ذلك عن طريق تصريح يمنح للخطيب من مديريات الأوقاف، وذلك استجابة لمطلب لدى الكافة لضبط الدعوة وعدم تصدر غير الكفء، ولكن لم نعدم من يعترض على ذلك، ويرى أن في هذا تضييقاً على الدعاة، وأنه لا يصح التضييق عليهم، وأن ذلك سُبة في جبين الدعوة في مصر، والسؤال المطروح ماذا يريد هذا المعترض ؟ إنه يريد أن يعترض لا أكثر ولا أقل، فهو ينكر على المؤسسة الدينية إذا تركت وينكر عليها إذا فعلت، فاللهم أأجرنا في مصيبتنا مرتين.
6- أما مجمع البحوث الإسلامية فقد أصدر حتى الآن ثمانية وعشرين مجلداً كبيراً تشتمل على الأبحاث التي قدمت في مؤتمراته المتتالية، ومطبوعاته من الكتب العلمية وصلت إلى مئات غير محصورة لدي، ويجمع بين أعضائه نخبة العلماء والمتخصصين في كافة العلوم والفنون والتخصصات ومحاضر جلساته منذ إنشائه إلى اليوم مسجلة وتوصياته ومؤتمراته وقرراته وفتاويه وآراؤه وتخيراته مسجلة منشورة متاحة، وله صلات بالمجامع التي قلدته وسارت على نهجه ونشأت بعده، ومازال يأتيه من كل الدنيا شرقاً وغرباً المسائل فيدرسها دراسة مستفيضة ويرد عليها بعلم مبني على الحقائق بعد درس واع لها.
وأذكر أن جامعة الأزهر قد وافقت على إنشاء مركز دراسات السكان لبحث المسائل المستحدثة مثل أطفال الأنابيب، والتدخل الجيني ونحوهما، ونشر المعترضون ما نشروا ضد هذا المركز وضد الأزهر حتى وصل ببعضهم أن اتهم الأزهر بالعمالة لأمريكا، وقام المركز تحت إشراف أ.د جمال الدين أبو السرور بدراسة الموضوعات الراجعة إلى السكان، وعقد أكثر من ندوة ومؤتمر وخرج بمجموعة كبيرة من الأبحاث والرؤى عرضت على مجمع البحوث ودرسها في سنتين متتاليتين من غير عجلة ولا تواني، وأصدر المجمع رأيه بعد هذه الرحلة العلمية، وظل المركز حتى الآن يعمل في صمت، ونسي الجميع ما صدر من تشكيك واستهانة، وهكذا هو الفرق بين عقل العلم الذي تحميه المؤسسة الدينية، وبين عقل الخرافة التي حاربته ولا تزال تحاربه.
لقد كان هناك هجوم عنيف على المؤسسة الدينية في مصر آخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. اذكر منها مواقف طريفة تدل على ما وراءها إلا أن المؤسسة الدينية ظلت تقوم بدورها الديني والاجتماعي، وظل أيضا بعضهم يهاجمها دون إدراك لبقائها وازديادها وتوسعها، ودون إدراك أن ما ينتقد به المؤسسة الدينية مبني على الانطباع والأخبار، وليس على إدراك صحيح للواقع أو تحليل مستنير له، مما جعل اليوم أشبه بالأمس (وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) [الرعد :17].
1- فبعد ما فصل محمد علي باشا المؤسسة الدينية عن الحياة المدنية وتخلص من عمر مكرم، وأرسل البعثات إلى فرنسا للدخول في مفهوم الدولة الحديثة وجعل هناك التعليم الموازي فأصبح لدينا تعليم مدني وتعليم ديني. وبغض النظر عن الآراء التربوية والآثار الاجتماعية حول ازدواجية التعليم فإن هذا الوضع باق إلى يومنا هذا مع كثير من الحلول التي طبقت، والتي يمكن أن نعالجها فيما بعد، فأقول إنه بعدما فعل محمد علي هذا وحدث بعد ذلك الاحتلال الإنجليزي بما ترتب عليه من آثار نفسية واجتماعية، فإننا نرى هجوما شرسا على الإمام محمد عبده وكانت هناك جريدة (حمارة منيتي) تهاجم الإمام في جل أعدادها حتى كان بائع الجرائد ينادي عليها ـ كما أخبرنا بذلك مشايخنا الذين شاهدوها شفاهة ـ على باب المزينين بالأزهر، وعند خروج الشيخ وتلامذته من درسه : (المفتي والحمارة) فكان الشيخ يبتسم ويعطيه جنيها ذهبيا ليشتري منه جريدة لا يزيد ثمنها على عدة ملاليم، ويسكت الرجل حتى ينتهي من صرف الجنيه ذلك الثروة الكبيرة حينئذ، وبعد شهر أو شهرين يعاود النداء فيقول له الشيخ : هل نفد المال ؟ ويعطيه جنيها آخر مبتسماً؛ ولأن الشيخ وعلى الرغم من صداقته بالخديوي إلا أنه رفض استبدال وقف له بدون مقابل وهاجت الصحف على الشيخ محمد عبده، فأين ذهبت ؟ وهل يسمع الناس بها ؟ وظل محمد عبده إماماً له مدرسة في التجديد والإصلاح لا يزال الناس يذكرونها ويحتفلون بها حتى يومنا هذا ونحن نحتفل بمرور مائة عام على وفاته.
2- ويذكر أحمد أمين في كتابه الماتع (حياتي) كم لاقى من عنت من الناس من جراء لبسه للزي الأزهري وهو صغير، ويصف كيف يعتدي عموم الناس على العلماء حتى وهم يسيرون في الطريق، وتظل المؤسسة الدينية صابرة محتسبة لوجه الله تعالى لا تريد من الناس جزاء ولا شكورا حتى قيام ثورة 1919، فإذ بالجميع يرجع إلى الصدر الحنون الذي ثار مرتين في وجه الفرنساوية المحتلين من قبل، وقتل أحد أفراده ساري عسكر كليبر، وأسلم الثالث في القيادة مينو (عبد الله مينو) وتزوج من زبيدة البكري، وفي ثورة 1919 نسي عموم الناس موقفهم من المؤسسة الدينية، ونسيت المؤسسة الدينية موقف الناس منها وعادت ملتحمة معهم.
3- وإذا قرأنا الأعمال الكاملة لبيرم التونسي رأينا سباً ولعنا للشيخ محمد بخيت المطيعي في ألفاظ جارحة لا أظن أنني قادر على ذكرها هنا، ورأينا سباً ولعناً للأزهر ومشيخته، لا أظن أنني قادر أيضا على ذكره لخروجها عن حد الأدب ومخالفتها للنظام العام والآداب بما يشكل جريمة خدش الحياء، فلتراجع هناك، ولكن ماذا كان بعد ذلك ؟ كان أن تاب بيرم التونسي وأعلن توبته صريحة ولم يجعل في حل من يروي عنه ما سبق به لسانه وفارت به نفسه من قبل، ومن تاب تاب الله عليه حتى إنه أنشأ في ذلك رائعته التي غنتها أم كلثوم (نداني لبيته لحد باب بيته) وكانت توبة صدوقة رجع فيها بيرم إلى ربه وإلى مجتمعه، بل وإلى دينه وختم له بالسعادة.
4- وبأسلوب آخر نرى منتقدين للمؤسسة الدينية ونخص منهم من عرف بالوطنية أو الإصلاح أو الفكر المستقيم، ونترك من لم يتصف بهذه الصفات؛ لأنه لا كلام لنا معه أما أولئك المخلصون فكلامهم قد خرج منهم ابتغاء الإصلاح لا الإثارة، والنفع لا الضر، ومناقشتنا لأرائهم إنما هي للوصول إلى ما يفيد الناس في حاضرهم ومستقبلهم.
نشر الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة في عموده يوم الخميس 14/7/2005 في جريدة الأهرام ما نصه : (وفي اعتقادي أن علماء المسلمين أو بعبارة أخرى فقهاء السلطة في العالم الإسلامي لم يعودوا مؤهلين للتصدي للتحريف والتجريف الذي يطال الإسلام. وبعد أن اندمجت المؤسسات الإسلامية في أجهزة الدولة أحجم المسلمون عن الاستماع لفتاواهم، ولم تعد استنكاراتهم للتطرف باسم الدين تجد آذانا صاغية. وحين تصدر المؤسسة الدينية فتاواها بحسب الطلب تلبية لأغراض سياسية، فإنها تحدث من البلبلة ما يهوي بمصداقيتها إلى الحضيض.
والكلام قد يكون صدر من قلب مهموم بهم المسلمين وهم الناس، ولكنه له مردود يجب أن ننبه إليه؛ لأنه يستغل في غير ما هو له، ويجب أن نقف جميعا ضد هذا المردود بما فينا الكاتب نفسه. هل ما في اعتقاد الكاتب واقع فعلا ً؟ هيا بنا نعالج المسألة من والواقع لا من الانطباع والقرارات المسبقة.
5- عبر التاريخ الإسلامي ظهرت فرق كثيرة في المشرق والمغرب انحرفت عن الجادة وأرجفت وأسالت الدماء، وكان علماء المسلمين هم الحصن الذي تحطم عليه هؤلاء لسببين، الأول : هو أن كلامهم مبني على المنهج العلمي السليم. والثاني : هو أن كلام أهل الأهواء والبدع مخالف للفطرة السليمة، كما أنه مخالف لسنة الله في خلقه، وعلى مر العصور لم تهدأ هذه الانحرافات ولم تنته ولن تنتهي وهذا ليس من فشل العلماء جميعا كما يظن الكاتب، ولا أن العلماء فقهاء السلطان، ولا أن الدين لا يقول شيئا في السياسة، ولا أن الدولة تستعمل العلماء في مواقف سياسية كل ذلك تفسير قاصر للقضية برمتها.
بل إن هذا الانحراف جاء من الخروج عن المرجعية، والخروج عن المرجعية سببه المشارب والأهواء والمصالح التي تكون في أيدي قواد الجماعات أو عموم الناس الذين لا يعرفون من أين يأخذون دينهم. وهذه الجماعات عبر التاريخ، إما أن تفصل الناس عن مصادر الشرع (الكتاب والسنة)، وإما أن تفصلهم عن علمائهم، وكلام الكاتب يثير موضوعاً خطيراً آخر، وهو أنه يدعو الناس ويدعو العلماء إلى مجاهرة النظام بالرفض؛ إثباتاً لحالة الرفض فقط، أو إلى التهور والخروج عن النظام وعلى المجتمع حتى يقال عن العالم إنه شجاع، وحتى يستمع الناس إليه وحتى يكون ممن صدع بالحق في وجه سلطان جائر، فإن ذلك مما يلتذ به الناس، فهل هذا مقبول ؟
إن العلماء يقومون بهذا الدور ولكن ليس على سبيل إثبات الحالة أو طلب الدنيا، وإنما يقولون الحق ويقيمون عليه الدليل ويطلبون وجه الله لتحقيق مقاصد الشرع ومصالح الناس ويتكلمون في الشأن الوطني ويستفيضون فيه؛ فإذ ببعضهم يغتاظ لأن عالم الدين يجب عليه أن يبقى في مسجده دون سواه، وهذا أمر سبب في ذاته فكر الإرهاب مع طائفة أخرى من الأسباب سنتناولها تباعاًَ.
وأنا أسأل الكاتب : أي الفتاوى التي صدرت حسب الطلب والتي أحجم المسلمون عن سماعها ؟ هل القتلة هم المسلمون ؟ ماذا يقصد الكاتب بهذا التعميم (أحجم المسلمون) ؟ أليس هذا مخالفاً للواقع أن يطلق على مجموعة من المرجفين مع مجموعة من الحيارى لفظ (المسلمين) وهي كلمة تفيد العموم.
وأنا أدع الكاتب الكبير أن يراجع نفسه وانطباعاته، وأن يذكر لنا فتوى أو اثنين مما صدرت تحت الطلب، وعلى الجميع أن يعرفوا الفرق بين الفتوى والموعظة والرأي الشخصي، وعلى الجميع أن يعرفوا أن إلقاء القول على عواهنه، وعدم التوثق منه وأخذه من غير مصادره، واعتماد الأخبار السيارة مصدراً مخالف للتوثيق الذي يسعى إلى معرفة الحق في نفسه (يتبع).
نعني بالمؤسسة الدينية في مصر أربع هيئات كبرى هي : الأزهر الشريف، وجامعة الأزهر، وزارة الأوقاف، ودار الإفتاء المصرية، وهي المؤسسات التي تَتْبع أنظمة ودستورها وقوانينها، وهي وإن كانت تتبع أنظمة الدولة إلا أنها لا تتبع الحكومات المختلفة خلا وزارة الأوقاف التي على رأسها وزير الأوقاف وهو فرد من أفراد الحكومة المشكلة، والفرق بين الدولة والحكومة معروف مشهور، فالدولة مستمرة باقية مع اختلاف الحكومات وتعاقبها، والمؤسسة الدينية في مصر عليها واجبات يجب أن تقوم بها ولها وظائف تؤديها ولها تاريخ وحاضر ينبغي أن ننبه إليه، وهذا البيان الذي قد يكون واضحاً في أذهان بعضهم أصابه كثير من الغبش عند آخرين، وظننت في أول الأمر أن المفكرين وكبار الكتاب يعرفون تلك الحقيقة ويعرفون دور المؤسسة الدينية في مصر ومجهودها الذي تقوم به في عالم متغير متشابك، إلا أنني لاحظت أن بعض كبار الكتاب بدأ في تبني أفكار المرجفين واعتذر لهم وجعلهم ضحاياً بدلاً من كونهم مجرمين، ووقف بعضهم حيارى تجاههم بما أذهلني من فقدهم لحقيقة المؤسسة الدينية، وأثارت لدي أسئلة يجب أن نثيرها وأن نتكلم عنها بوضوح وصراحة منها :
1- هل الذي بيننا وبين المرجفين هو أننا نقف مع السلطان وهم يقفون ضده ؟ الفرق بيننا وبينهم في منهج التوثيق والتلقي والقبور والرد والفهم والتطبيق، وهل نحن أصحاب سلطة أو مشاركون فيها، أو أننا بجوار السلطان في قراره السياسي أو غيره، وأين هذه الفتاوى التي صدرت من المؤسسة الدينية لتخدم السلطان في ذاته، وهل الاهتمام بالشأن العام والمشاركة في قضايا الوطن هي خدمة لشخص السلطان ؟ هل تربى المرجفون في معاهد المؤسسة الدينية، ثم من خلال منهجها توصلوا إلى الإرجاف ؟ ليس هناك واحد منسوب إلى التعليم فيها شارك في إسالة الدماء والحمد لله رب العالمين.
ألم يتربى المرجفون في لندن على المناهج الغربية وتحت وطأة التناقضات ففعلوا ما فعلوا وتبنوا ما تبنوا من أفكار يائسة لا علاقة لها بها الشريعة الإسلامية، وكان هذا سبباً في صدمة بليغة لكل بريطانيا ؟ ألم يتربى مرجفون أخرون على المناهج الغربية فمنهم المهندس والطبيب والمحاسب، وليس فيهم واحد تخرج من كلية شرعية في أي مكان ؟ ألم يصرح مستر بلير بأن 99.9% من المسلمين مواطنون صالحون في العالم كله وأن هذه التصرفات شاذة على المسلمين؟
هل فشلت المؤسسة الدينية بعد تجاهلها وإقصائها عن مركز القرار لمدة مائتي عام عن البقاء صامدة وتخريج علماء ينقلون الدين في كل مكان في الأرض بهدوء وعلى مذهب أهل السنة والجماعة ودون صدام مع أحد عبر القرن التاسع عشر والعشرين حتى حرب 1973 ؟ التي ارتفع بها البترول من دولار للبرميل إلى أربعين دولاراً ؟ ثم نعلم كيف انحسر دور المؤسسة الدينية في الخارج تحت وطئة قلة الإمكانات المادية، وإذ بهذا الانحسار يؤدي إلى صدام مروع في 11 سبتمبر نحاول نلملم آثاره إلى الآن سواء أكان من قام به من المسلمين أم غير المسلمين.
هل يصلح مع هذه الحالة أن نرى القذاة في عين المؤسسة الدينية ونترك جذع النخلة في عين من قبل بتنحيتها ولم يهتم بمشاركتها ؟ وهل يصلح أن ندعوا إلى مزيد من التنحية بعد هذا الفشل الذريع من غيرها بأن نعطي للمرجفين جواز مرور إلى الناس ؟ وأن الناس قد يئست من فقهاء السلطان وهو أمر موهوم مضحك مبك في نفس الوقت دون أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للمشكلة التي تتحكم في الواقع ونحاول علاجها.
هل مستر بلير فعلا أدرك هذا المعنى كما ادعى بعضهم ؟ والواضح أنه أدرك عكسه، ولما ذهب وفد وزارة الأوقاف المؤسسة الرسمية إلى لندن استقبلته (البارونه سايمونز) وزيرة الدولة للشئون الخارجية مع (اللورد كيري) الأسقف السابق لكنيسة كانتربري الأكثر شيوعا في إنجلترا واتفقوا على وجوب التعاون مع المؤسسة الدينية التي يُدعى الآن أنهم استيئسوا منها.
2- ومجموعة أخرى من الأسئلة كنت أظنها أيضا بديهية ولكن يبدو أننا نحتاج مرة أخرى إلى التأكيد عليها. إن المؤسسة الدينية موافقة على الدستور، وهو ينص في مادته الأولى (أن مصر دينها الرسمي هو الإسلام) وفي مادته الثانية (أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع). ونسأل سؤالاً حاسماً وأساسياً : من مع الدستور ومن ضده ؟
3- وتؤمن المؤسسة الدينية بقضايا الوطن ولا تستطيع أن تقبل أو أن تتصور أن تستعين بالأجنبي أو تستعديه على بلادنا أو شعبنا تحت أي مبرر أو عنوان أو مصلحة، وأظن أن هذه الثوابت لا علاقة لها بشخص الحاكم، وإنما هي ناشئة من شعور فطري بحب الأوطان، وشعور ديني يكرس هذا الشعور الفطري ويباركه، وأظن ذلك كان على مر الأزمان، وليس مختصاً بعصرنا أو بحالتنا الراهنة.
4- المؤسسة الدينية في مصر لها منهجها ويتمثل هذا المنهج في نقل المذهب السني بمذاهبه الأربعة المعروفة المشهورة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) مع الاعتراف بالمذاهب الأخرى التي يتبعها المسلمون في العالم أصولاً وفروعاً على منهج الفهم السليم، وهي : (الجعفرية والزيدية والإباضية) بل والظاهرية التي يؤيدها مجموعة من العلماء هنا وهناك.
كما أنها في تخيراتها الدينية كثيراً ما يتسع دائرة الحجية عندها إلى مذاهب المجتهدين العظام كالأوزاعي والطبري والليث بن سعد، وغيرهم في أكثر من ثمانين مجتهداً في التاريخ الإسلامي. تستأنس بآرائهم وقد ترجحها لقوة الدليل أو لشدة الحاجة إليها أو لمصلحة الناس أو لتحقيق مقاصد الشرع الشريف، وهو المنهج الذي ارتضته الجماعة العلمية في عصرنا هذا شرقاً وغرباً وعند العقلاء من جميع مذاهب المسلمين والحمد لله رب العالمين.
5- والمؤسسة الدينية في إدراكها للشرع الشريف أو في إدراكها للواقع المعيش تسلك مسلك التوثيق الذي نراه أساساً من أسس ديننا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلماً في مقدمة صحيحه (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع) فينشئ المسلمون علم القراءات ينقلون فيه كتاب الله من غير تحريف ولا تصحيف، وعلوم الحديث رواية ودارية ينقلون فيها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنهج علمي غير مسبوق، وعلم أصول الفقه وعلوم العربية ليفهموا من خلالها الفهم المنضبط للنص الشرعي الوارد إلينا بلغة العرب، وهذا المنهج أثر عليهم وهو تأثير إيجابي في إدراكهم للواقع بحيث كانت تعاملاتهم معه مبنية على الوقائع المؤكدة وليس على الأخبار الطائرة أو على الآراء من هنا أو هناك مما جعل كثيراً من الناس يظنون بداية أن المؤسسة الدينية تتخلف عن أداء واجبها، ثم بعد ذلك يظهر عند الجميع أنها لم تتخلف، بل إنها مؤسسة رصينة تعرف توثق الأخبار وكيف تقومها وكيف تتعامل معها.
6- المؤسسة الدينية أدت دورها ومازالت تؤديه ولن تتخلى عنه في ظل ظروف بالغة الصعوبة تحاول دائما أن تكون وفية لدينها ووطنها وتاريخها، وإذا أراد الناس الاستفادة منها وبخبرتها ومجهوداتها فهي على أتم استعداد لذلك، ولم تتأخر، ولن تفعل، وإذا لم يريدوا وأعطوا ظهورهم فقد أضاعوا على أنفسهم خيراً كثيراً، وإذا أصروا على إعطاء ظهورهم لها فهم الخاسرون، أما جعلها مشجباً (شماعة) تعلق عليها أخطاء الآخرين وما يمور ويفور في نفوسهم فأراه أنه ليس من مكارم الأخلاق، وليس من لهجة الصدق، بل هو قادح في المروءة ومعطل لكثير من الفهم.
هذا عنوان المؤتمر الإسلامي الدولي الذي نظمته مؤسسة (آل البيت) للفكر الإسلامي بالمملكة الأردنية الهاشمية بالعاصمة عمان من الرابع إلى السادس من يوليو الجاري 2005، رعاية حضرة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني عاهل الأردن، الذي حضر حفل الافتتاح وألقي كلمة بليغة تدور حول هذا المعني وحول رسالة عمان التي سبق وأن أصدرها في رمضان الماضي يلخص فيها حقيقة الإسلام و المعوقات التي تواجه المسلم وكيفية تصحيح صورته في العالمين وهي محاور هذا المؤتمر أيضا، ولقد حضرت هذا المؤتمر مع معالي وزير الأوقاف الدكتور محمود حمدي زقزوق، ورئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والدكتور أحمد كمال أبو المجد نائب رئيس منظمة حقوق الإنسان المصرية، ومجموعة من العلماء المصريين، ومجموعة من العلماء من كل الدنيا، ومن كل المذاهب الفقهية.
وقُدمت أبحاث مهمة زادت عن خمسين بحثا، وكانت إدارة المؤتمر طلبت عدة فتاوى من مرجعيات دينية سنية وشيعية وإباضية من مختلف أنحاء العالم حول عدة أسئلة، واتفقت الإجابات جمعيا على معنى واحد ورأي واحد؛ لأن هذه الإجابات هي هوية الإسلام التي لم يحدث فيها خلاف بين أحد من العقلاء عبر العصور، والتي أصبحت عند بعضهم محل نظر بناء على البعد الشديد من جانب هؤلاء عن الجماعة العلمية.
1- وتكونت تلك الفتاوى من ثلاثة أسئلة الأول يقول : هل من يتبع ويمارس أياً من المذاهب الإسلامية الثمانية وهي : الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، والجعفري، والزيدي، والإباضي، والظاهري. يجوز أن يعد مسلماً ؟
وكانت إجابته هي : أن الإسلام أوسع دائرة من نتاج عقول المجتهدين، فإنه يصلح لكل زمان ومكان، ولكل العالمين، فأمة الإسلام تخاطب كل الناس في جميع الأحوال، فمن صدق بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو من أمة الإجابة، ومن لم يصدق فهو من أمة الدعوة. وأجمع المسلمون شرقاً وغرباً وسلفاً وخلفاً على أن المجتهد هو الذي يتبع كلامه في تبليغ دين الله، وذلك بعد استيفاء شروط الاجتهاد المبينة في علم أصول الفقه وهم أهل الذكر الذين قال الله تعالى فيهم : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل :43].
وقد وصل بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى تلك الدرجة، فنقلت مذاهبهم إلى تلاميذهم التابعين، ونقلت مذاهب التابعين إلى تابعيهم ومن بعدهم حتى القرن الرابع الهجري، فظهر المجتهدون حتى وصل عددهم نحو تسعين مجتهداً قد اتبعت مذاهبهم واعتمدت آراؤهم، ثم شاعت المذاهب الثمانية ووصلت إلينا بالتواتر مع قيام العلماء عبر العصور بخدمتها، كاستخراج أدلتها، والتثبت من منقولاتها، والقيام بتصحيح ما استدل به كل مذهب من الحديث النبوي الشريف أو الآثار الواردة عن مصدرها، والبحث في دلالة الألفاظ الواردة في كتب تلك المذاهب من جهة اللغة ومن جهة الشرع، فكانت تلك المذاهب هي الأكثر شيوعاً وهي : الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة (ويطلق عليها المذاهب السنية) والجعفرية، والزيدية، والإباضية، والظاهرية (وهي المذاهب غير السنية)، والخلاف بين تلك المذاهب إنما هو في نطاق المظنون ولم يقع بينها خلاف في المقطوع به الذي يكفر منكره والحمد لله رب العالمين.
وعلى ذلك فإنه من يتبع أي واحد من المذاهب الإسلامية أو يمارس في حياته شيئاً منها فهو مسلم صحيح الإسلام، وهذا يتفق مع أمر الله لنا بأن نعتصم بحبل الله، وأن نكون أمة واحدة وألا نختلف فتختلف قلوبنا قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران :103]. وقال تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال :63]. وقال تعالى : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء :92].
2- والسؤال الثاني يقول : ما حدود التكفير في الإسلام، وهل يجوز أن يكفر الذين يتبعون الأشعرية أو الصوفية ؟
وكانت إجابته : أن المسلم الذي يشهد بلسانه الشهادتين لا يخرج من دين الإسلام إلا إذا أتى بشيء من المكفرات قاصداً عالماً مختاراً، كتصريحه بأنه كفر، أو أن ينكر وجود الله، أو أحقية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحقية القرآن الكريم، وأنه ليس كلام الله، أو يسجد للصنم، أو يستحل الكبائر كشرب الخمر وزنا المحارم والزنا بوجه عام أو غير ذلك من البلايا التي لا يقول بها مسلم من أهل القبلة.
والسادة الأشاعرة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم جمهور العلماء من الأمة وهم الذين صدوا الشبهات أمام الملاحدة وغيرهم، وهم الذين التزموا بكتاب الله وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ، ومن كفرهم أو فسقهم يخشى عليه في دينه. قال الحافظ ابن عساكر في كتابه (تبين كذب المفترى) : اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق عليهم لسانه بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب). وعليه فالخائض في الأشاعرة والصوفية على خطر عظيم، ويخشى أن يكون من الخوارج والمرجفين الذين قال الله فيهم : (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا) [الأحزاب :60].
3- أما السؤال الثالث فكان يقول : من يجوز أن يعد مفتياً في الإسلام وما شروطه ؟
وكانت إجابته هي : أن المفتي هو المجتهد الذي تكلم عنه الأصوليون، والمجتهد هو من يقوم بعملية الاجتهاد، وهي بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة. روى الخطيب في كتابه (الفقيه والمتفقه) عن الإمام الشافعي قوله : (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.
وينبغي لذلك العالم الذي ألم بالقرآن الكريم وعلومه، والسنة النبوية وعلومها، واللغة العربية وعلومها أن يتبع منهجاً في الإفتاء وذلك بحسب ترتيب الأدلة، فإذا سئل عن مسألة بحث عن حكمها في القرآن، فإن لم يجد ففي السنة، فإن لم يجد فيعمل القياس، حتى يستنبط الحكم الذي يطمئن إليه قلبه ويشترط في هذا الحكم ألا يخالف الإجماع.وأما الأدلة المختلف فيها كالاستحسان وشرع من قبلنا ، فإن أداه اجتهاده إلى صحة شيء منها أفتى به ، وإذا تعارضت عنده الأدلة فعليه أن يفتي بالراجح منها.
4- هذا مضمون ما أجبنا به واتفقنا عليه علماء السنة وعلى رأسهم فضيلة الإمام الأكبر، وعلماء الشيعة كسماحة السيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ إسحاق الفياض، والشيخ بشر النجفي، والعلامة آية الله محمد علي التسخيري، وإمام المذهب الإباضي الشيخ أحمد بن حمد الخليل مفتي سلطنة عمان، والشيخ إبراهيم الوزير من المذهب الزيدي باليمن، ومجمع الفقه الإسلامي، وغيرهم كثير.
فعسى الله أن يرشد الشباب إلى الدين الحق الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويعينهم على أن يعيشوه.
هذا عنوان كتاب لأبي الحسن الديلمي من رجال القرن الرابع الهجري، فهو نص قديم من أكثر من ألف عام يتناول مسألة الحب الإلهي والحب بوجه عام، فيقارب مقاربة بارعة ويدرس درساً مستوعباً ويحلل بدقة ظاهرة الحب.
1- أبو الحسن الديلمي هو عالم صوفي سني، وهو مجهول تاريخ الميلاد والوفاة ولكنه عاش أكثر أعوام حياته ـ إن لم يكن كلها ـ في القرن الرابع الهجري، وتربى في مدرسة شيخ شيراز الكبير أبي عبد الله محمد بن خفيف الذي توفي عام (371 هـ 982 م) وكان الديلمي قد التقى بابن خفيف سنة 352 هـ ومكث معه عشرين عاماً يتلقى منه الأخلاق الكريمة بتربية صافية قد افتقدناها في حياتنا الثقافية والروحية ـ نرجو الله أن تعود ـ ولقد تتلمذ العلامة ابن خفيف ـ أستاذ الديلمي ـ على شيخ الشافعية ابن سريج المتوفى عام (306 هـ)، ودرس العقيدة على الإمام أبي الحسن الأشعري المتوفى عام (324 هـ)، ولبس خرقة التصوف على يد شيخه رويم وهو أبو الحسن رويم بن أحمد وقيل بن محمد بن يزيد بن رويم البغدادي شيخ الصوفية توفي عام (303هـ)، وصحب الجريري المتوفى عام (344 هـ) وأبا العباس بن عطاء المتوفى عام (309 هـ)، وكان صديقا للحلاج عام (309هـ)، ولكنه نصح مريديه أن يسلموا له حاله ولا يقتدوا به في شطحاته.
2- كتب الديلمي سيرة شيخه ابن خفيف وقد فقدت النسخة الأصلية التي كتبها بالعربية، وبقيت النسخة المترجمة إلى الفارسية والتي ترجمها ابن جنيد الشيرازي، ونشرت بتركيا عام 1955 على يد الأستاذة المنصفة الألمانية (أنا ماري شيمل) ثم نقلها إلى العربية عن نشرة. أنا ماري الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا رحمه الله في القاهرة عام 1977.
3- ورث الديلمي عن شيخه ابن خفيف مذهبه الفقهي فكان شافعيا، ورأيه الاعتقادي فكان أشعرياً، ومشربه الصوفي المعتدل، واهتمامه العميق بموضوع (المحبة)، ونزعته القوية إلى السياحة والرحلة، وعاش بين فارس والعراق وغيرهما من أقطار العالم الإسلامي، في هذا القرن الزاهر التي بلغت فيه الحضارة الإسلامية أوج ازدهارها، إلى أخريات القرن الرابع، كما صحب الفيلسوف أبا حيان التوحيدي المتوفى سنة (400 هـ)، وروى عنه في كتاب (العطف)، والطبيب أبا عبد الله البيطار المتوفى سنة (383هـ)، والعديد من شيوخ الصوفية، وكتب خمسة مؤلفات لم يصلنا منها إلا كتاب (العطف) الذي نتكلم عنه، وترجمة كتاب (السيرة) الذي كتبه في سيرته شيخه والذي ذكرناه آنفا.
وقد ترك الديلمي ومؤلفاته خاصة كتابه (عطف الألف المألوف على اللام المعطوف) أثرا واضحا في التقاليد الروحية لمدرسة شيراز الصوفية، من خلال الشيخين البارزين ابن بكران الشيرازي الذي روى كتاب العطف عن الديلمي، ثم المقاريضي المتوفي (509 هـ) الذي رواه عن ابن بكران ـ حسب السند المثبت على المخطوطة الوحيدة الباقية من الكتاب في مكتبة جامعة توبنجن بألمانيا ـ وراها بعدهما الصوفي الشهير (روزبهان البقلي الشيرازي) المتوفى سنة (606 هـ) الذي تمتلئ مؤلفاته الثلاثة المتداولة (مبهر العاشقين، وشرح شطحيات، ومشرب الأرواح) بالاقتباسات والنقول عن كتب الديلمي، وبخاصة كتابه (عطف الألف المألوف على اللام المعطوف).
وقد يبدو عنوان الكتاب غريبا، وهو نتاج تقليد متداول حينذاك في التعبير الرمزي عن علاقة الخالق ـ عز وجل ـ بخلقه؛ وهي علاقة المحبة والتعاطف؛ فالألف رمز للذات الإلهية التي هي معدن الحب الحقيقي والجمال الخالص، واللام ـ عندهم ـ رمز للوجود الإنساني أو الكون الجامع المتمثل في آدم أو الإنسان، والعلاقة المتبادلة بين الجانبين يرمز لها بالألف واللام أو اللام ألف (لا) التي هي علاقة الألفة والتعاطف والمحبة في أكمل صورها وأصفاها، وهي التي تتجلى في نفوس العارفين، وتملأ حقائقها أفئدتهم حين يجذب الرب زمام إرادة العبد إليه ـ وذلك هو العطف ـ فيشغله به عما سواه، وإن كان يتذوق في الوقت نفسه مظاهر الجمال في كل شيء، ويعيش الحب بمستوياته وأبعاده الكونية المتعددة، والحب دوما هو للحبيب الأول ـ سبحانه ـ والحنين إنما هو لأول منزل (في الجنة) كما قال أبو تمام :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل
4- لقد بقيت هذه الدرة الثمينة في أصدافها، حتى كشف عن جوهرها باحث فرنسي هو الأستاذ (فاديه) فأخرج الكتاب للناس أوائل الستينيات من القرن الماضي بالقاهرة، دون تحقيق علمي للنص العربي، ثم أصدر ترجمة فرنسية له في مطلع الثمانينيات، ثم اشتغل الباحثان الأمريكي (جوزيف بل) ـ أستاذ اللغة العربية بجامعة برجن بالنرويج ـ والمصري الدكتور (حسن الشافعي) ـ الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية وهو مجمع الخالدين بمصر، ورئيس الجامعة الإسلامية بباكستان سابقا ـ بترجمة الكتاب إلى الإنجليزية فتوافرت لخدمة نصه النفيس خبرات تعرف طبيعة الموضوع في أبعاده الروحية ولغته الفنية ومضامينه الفكرية بشكل عميق، ثم في حساسية التذوق والتعبير عن ذلك كله في ترجمة إنجليزية رائقة صافية ـ كما يقول النقاد المتخصصون.
5- ويبدأ المؤلف كتابه ـ بعد المقدمة ـ بالخطة التفصيلية للموضوعات، ثم يقدم استدلاله على جواز إطلاق وصف العشق والمحبة على الله تعالى، ثم يتحدث عن الجمال وارتباطه بالحب وفضله وفضل المحب والمحبوب والحب، ثم يورد بابا رابعاً عن سر التسمية وأصل كلمتي الحب والعشق في العربية مزاوجا بين أقوال اللغويين وتأويلات الصوفية.
وبعد ذلك يدخل المؤلف في صميم الموضوع فيفرد باباً للكلام في المحبة، فيوضح أصل الحب وماهيته، ويبين الخلاف في حقيقته ومنبعه، ووصفه، ويبين الحب الممدوح، ويفصل في منكري الحب، ثم يتكلم عن أثر الحب وعلاماته، وآراء المحبين في علامات الحب والعشق، وتقسيم الحب إلى أنواع كحب الله للعبد، وحب العبد لله، وحب العباد في الله، ويتكلم عن علامات كل قسم من هذه الأقسام، ثم يتكلم عن حب الخواص وحب العوام وحب كل ذي روح من إنسان وحيوان وطير.
ويختم كتابه بالحديث عن كمال الحب ويذكر أخبار موت المحبين الإلهيين من الأنبياء والأولياء ـ سلام الله ورضوانه عليهم أجمعين ـ وقد يعجب القارئ لهذا الكتاب الذي مضى على تأليفه أكثر من ألف عام، لما يتسم به من طابع صوفي ونزعة روحية بطبيعة الحال يتدفقان في طرافة محببة، وبساطة موحية، ممتزجا بمشاعر حميمة، وملاحظات دقيقة، تنم عن نفس نبيلة، وعقل متفتح، وتأمل طويل، وذات تكاد تختلط بطبيعة الموضوع.
6- لا نشك في أن سيكون لهذه الترجمة الإنجليزية من هذين العالمين الجليلين الأثر الحميد بإذن الله في تجاوب العقول المنصفة والقلوب النزيهة في الغرب، مع هذا الخطاب الموضوعي المعبر في تلقائية وصدق عن حقيقة ديننا وثقافتنا، بعيداً عن الخطاب الاعتذاري واللهجة الدفاعية التي قلما تستهوي تلك العقول والقلوب.
ولئن كانت الترجمة الإنجليزية قد صدرت بحمد الله في ثوبها القشيب في (إدنبرة) خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي واسمه بالإنجليزية (A Treatise on Mystical Love)، فعسى أن يصدر النص الأصلي العربي عما قريب، وقد أنجزه الباحثان على نهج علمي بمقدماته وفهارسه، وتدقيقاته وتعليقاته الخصبة الغنية ـ بإذن الله ـ في القاهرة على نحو يليق بعاصمة الثقافة العربية، فتتعانق الجهود، وتتعاطف القلوب على الضفتين في لقاء فكري وروحي حميم ببركات الديلمي وشيخه ابن خفيف ـ رحمهما الله، فيصدق في ذلك الحال قول الشاعر ابن خفاجة :
فلما اجتمعنا قلت من فرحي به ** من الشعر بيتا والدموع سواقيا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ** يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
هذا هو العمل الصالح والكلم الطيب الذي يرفعه الله تعالى ويقبله، وهذا نموذج يحتذا به، عسى أن يدرك كثير من أصحاب الطاقات كيف يعملون في صمت على منهج مستقيم في عرض إسلامنا على العالمين من غير ضجيج مفتعل أو صمت مريب.
رحل عن عالمنا أحد الأعلام الكبار صباح الخميس الموافق الثاني عشر من مايو من هذا العام بمنزله بمقاطعة (كنت) بإنجلترا، ودفن في حديقة بيته بعد أن عاش يرعاها محباً للأزهار والجمال، وهي الحديقة التي تطل على الريف المترامي حولها، وهو الشيخ (مارتن لينجز) ـ والذي تسمى بعد ذلك بـ (أبي بكر سراج الدين) ـ وولد في (لانكشير) في يناير 1909 من أسرة بروتستانتية، من والدين أحباه كثيراً، ورأيا فيه النباهة، بل والولاية من الصغر، فلم يعترضا عليه في شيء طوال حياته حتى من الله عليه بالإسلام.
أمضى طفولته المبكرة في أمريكا حيث كان يعمل والده، وعندما عاد إلى بريطانيا التحق بكليته (كليفتون) حيث ظهرت عليه مواهب القيادة، ثم انتقل إلى (أكسفورد) لدراسة اللغة الإنجليزية على يد (c.s lewis) عام 1935 والذي رأى فيه نباهاً ينبغي أن يصاحبه ثم درس في ليتوانيا الأدب الإنجليزي، وكان من أصدقاء مارتن لنجز اثنان على نفس روحه الطواقة لمعرفة الحق، والبحث عن الحقيقة أحدهما (باترسن) ـ والذي أسلم بعد ذلك وأسمى نفسه (الشيخ حسين) ودفن بمقابر المماليك بالقاهرة ـ والآخر أسلم بطريق آخر وأسمى نفسه (الشيخ داود) ومات في إنجلترا ـ سافر باترسن إلى الصين بحثا عن الحقيقة في (الكنوفوشوسية) وأراد (مارتن لنجز) الذهاب إلى الهند بعد أن غير مذهبه إلى (الكاثوليكية) فلم يجد مراده، ففكر في الهندوسية وأثناء السفر إلى الهند عن طريق القاهرة سنة 1940 التقى بالمفكر الفرنسي المسلم (رينيه جينو) ـ وهو الشيخ عبد الواحد يحيى الذي توفي سنة 1950 ودفن بالقاهرة بجوار الشيخ حسين المذكور، وأولاده مازالوا بها حتى الآن نفع الله بهم ـ فوجد ما أراده فيه فأسلم ورجع باترسن إلى مصر وأسلم وعمل في جامعة القاهرة ـ فؤاد الأول حينئذ ـ وتوفي في حادث فروسية.
تزوج مارتن لنجز من السيدة (ليزلي سمولي) سنة 1944 وهي التي أسلمت أيضا، وأسمت نفسها (رابعة) وهي تعيش الآن في هذا المنزل الريفي، (بكنت) بعد رحيل شريك العمر، والتي اتفقت مع أفكاره طوال الستين عام الأخيرة.
وكان وهو في القاهرة يسكن بجوار الهرم في قرية نزلة السمان، وظل في القاهرة حتى سنة 1952، وكان يفصل جلبابه الذي حرص على ارتدائه دائماً عند الحاج عاشور في مدخل خان الخليلي، وكان الحاج عاشور من أولياء الله الصالحين رحمهم الله جميعاً.
كان (مارتن لينجز) يود لو أمضى حياته في مصر ما لم تتدخل أحداث السياسة، فقد أعقبت ثورة 1952 مظاهرات معادية للبريطانيين، قتل فيها ثلاثة من زملائه في الجامعة، وجرى تسريح الأساتذة الإنجليز من الجامعة، وكانت عودته إلى لندن عام 1952 مشوبة بالصعاب، فقد كانت المنافسة الأكاديمية تستلزم ما يربو على مجرد التدريس في ليتوانيا ومصر، وكان الحل الوحيد هو التقدم لنيل الدكتوراه، ونشر له في ذلك الحين كتاب كان قد كتبه في مصر وهو (كتاب اليقين، المذهب الصوفي في الإيمان والكشف والعرفان) وكان عليه أن يحصل على ليسانس في اللغة العربية، ثم حصل بعده على الدكتوراه، وكان موضوعها (الشيخ أحمد العلوي) ونشرت بعنوان (ولي صوفي من القرن العشرين) وقد كان من أعمق كتبه أثراً بوصفه منظوراً فريداً للروحانية الإسلامية من داخلها، وعمل (لينجز) عام 1955 بالمتحف البريطاني، وهو الأمر الذي أدى إلى لفت انتباهه إلى الخط القرآني وتبلور في كتابه (الفن القرآني في الخط والتذهيب) وقد توافق صدوره مع قيام مؤسسة مهرجان العالم الإسلامي عام 1976.
وقضى (لينجز) الثلاثين عاماً التالية في كتابات لجمهور الذي كان يزداد، وقد كان أحد كتبه العديدة مبنيا على رسالته لنيل الماجستير، وصدر بعنوان (محمد رسول الله وحياته من أقدم المراجع) عام 1973 ثم كتاب (شكسبير في ضوء الفنون التقديسية) عام 1966 والذي أعيدت طباعته عام 1984 بمقدمة للأمير ولي العهد أمير (ويلز) بعنوان (سر شكسبير)، حيث يعرض للأصول التراثية في أعمال شكسبير في التراث الأفلاطوني والمدرسي، وكتابه عن (الفن القرآني في الخط والتذهيب) عام 1976، والذي أعيدت طباعته عام 2004 بعنوان (روائع الخط والتذهيب القرآني)، وقد كان خاتمة أعماله (مكة؛ تاريخ المدينة المقدسة من عصر ما قبل الإبراهيمية حتى اليوم) والذي نشر عام 2004.
وكان للقاء (لينجز) بـ (رينيه جينو) عظيم الأثر في ظهور أنوار الهداية التي اجتمعت فيما عرف (بمدرسة التراث)، وقد كان من أحد نتائجها الحاسمة؛ نقد العالم الحديث في تضخمه المادي، واكتشاف الحكمة التي تربعت في قلب كل الأديان، سواء أكانت الزرادشتية أو البوذية أو الهندوسية، ثم اليهودية والمسيحية والإسلام، تلك الحكمة التي هي النور الفطري الذي خلقه الله في قلوب الناس، والذي منه يمكن دعوتهم إلى الحق قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [الروم :30] وقد عاش في نور تلك الهداية حتى نهاية حياته المباركة.
ولقد أسلم (مارتن لينجز) على يد الشيخ عيسى نور الدين الذي كان سويسرياً فأسلم على ولي الله أحمد العلوي المستغانمي الجزائري، وطريقته قائمة إلى الآن في مستغانم بالجزائر، وكتبه مطبوعة منتشرة.
وكان لـ(لينجز) اهتمام بالغ برمزية الألوان ودلالاتها وتطورها عند المسلمين، كتب يقول في كتابه (روائع فن الخط والتذهيب القرآني) : أُعطى اللون الأزرق أسبقية واضحة على الأخضر والأحمر، وسرعان ما ارتفع إلى منزلة مساوية للون الذهبي في المشرق، بينما في المغرب كان الأزرق يأتي في المرتبة الثانية، وبقيت للون الذهبي صدارته الأصلية. إن أهمية هذين اللونين يمكن تقديرها من واقع أن أية أصباغ تضاف إنما تأتي في أغلب الأحوال في دور ثانوي. زد على ذلك، أن المرء يجد في جميع الطرز والفترات التاريخية تقريباً أمثلة لمصحف يُعتمد فيه بشكل مطلق على الأزرق والذهبي، وهذا الإطلاق نفسه قد يكون ملحوظاً في صفحات أي مصحف كان، حتى إن جاء تذهيبه بألوان عديدة في صفحات أخرى.
إن الأزرق هو لون اللامتناهي، وهو يتطابق مع الرحمة، إذ أن (رحمتي وسعت كل شيء) [الأعراف : 156]. فأعظم رمز لهذه اللانهائية هو السماء المحيطة بالكل، أما الاسم الإلهي لها فهو الرحمن، وهو أول أسماء الرحمة، والوحي يعبر عن الجذور الجوهرية للرحمة.
إذا كان الأزرق يحرر بواسطة اللانهائية، فالذهبي مثله في ذلك مثل الشمس، يحرر لكونه رمزاً للروح، فهو بالتالي يتعالى عن كل عالم الصور. إن اللون الذهبي، من ذات طبيعته، (يفلت) من قيد الصور إلى درجة أن الخطاط الذي يكتب باللون الذهبي عليه أن يخطط حواف كتابته باللون الأسود حتى يعطيها الأثر الفعال من الناحية الصورية، ولكونه لون النور، فإن الذهبي، مثله في ذلك مثل الأصفر، وهو رمز ذو صلة جوهرية بالعلم. خارجيا، هو يعني التدريس والظهور (أو التجلي). أما الأزرق في حضور الذهبي فهو يعني أن الرحمة ميالة إلى الكشف عن ذاتها.
وما ذُكر قليل من كثير عن (مارتن لينجز) وأعماله التي كان لها وسيبقى ذلك المغزى العميق في عالم مضطرب، إلا أن شخصيته هي التي أثرت على الذين عرفوه، بما فيهم كثير من الشباب الذين كانوا يسعون إليه في المشورة الروحية، وهذا أيضا سوف يستمر معهم طوال حياتهم في خوفهم من ألا يجدوا له مثيلاً. رحمه الله رحمة واسعة ورزق الأمة أمثاله. آمين.
إننا في حاجة إلى دراسة أولئك الأعلام الذين أسلموا دراسة علمية تؤكد عالمية ذلك الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان.
واستمراراً لمحاولة المشاركة الثقافية طلب مني كثير أن أصل لثقافة الضجيج وثقافة التأمل، وابتداءً فأنا مع ثقافة التأمل وضد ثقافة الضجيج، وثقافة الضجيج تبني العقلية الهشة، التي لا تقدر على التفكير وعادة ما يسبق النشاط الفكر، وسبق النشاط للفكر أحد السمات العظمى في التأثير في الحضارات والفنون والآداب والحياة، وعدها عبد الواحد يحيى (رينيه جينو قبل أن يسلم) في كتابه عن الحضارة الحديثة أحد السمات التي قتلت الإنسان أمام نفسه، أما تأصيل ذلك من القرآن والسنة فنراه فيما يلي :
1- يحكي ربنا عن حال إبليس ـ وهو عنوان للشر والقبح ـ فيقول : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [الإسراء :64] فوسائل إبليس تبدأ بالصوت الضجيج ثم يتأكد الضجيج بقوله (واجلب) وهي من الجلب ثم يتأكد الضجيج ثانية بالمشاركة وأن يصبح الضجيج جزء من حياتنا اليومية، وهي حالة يضيع معها كثير من التفكر والتدبر والتأمل، ويضيع معها شيء كثير من الراحة والهناء.
2- وإذا كان هذا من وسائل إبليس ـ عنوان الشر والقبح ـ فإنه منهج للتشويش على الحق يقول سبحانه في شأن المشركين : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت :26] فالمنع من سماع القرآن الذي يأمرنا بالتدبر والتفكر والتأمل واللغو أمامه، وعلو الصوت عند تلاوته يمثل ما بين الثقافتين من فوارق قال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) [النساء :82]. وقال تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد :24]. وقال سبحانه : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص :29] وقال تعالى في وصفه لحال المؤمنين الصادقين : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران :191]، ثم كرر سبحانه مرات كثيرة (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)، ويجعل سماع القرآن واستماعه جزء من الدعوة الطيبة. قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) [التوبة :6]، وقال سبحانه : ( وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف :204].
3- ثم يجعل الله علو الصوت والضجيج خارجاً عن حد الأدب عند كل الناس، فيذكر من وصايا لقمان لابنه وهو يعظه : (وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) [لقمان :19]، ويتحول هذا الأدب إلى تهذيب عام يشمل البصر والمعاملة بين الناس. قال تعالى : (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور :30، 31]. وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا) [الإسراء :24]. وقوله : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر :88]. ثم يتحول هذا إلى منهج حياة قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران :159].
4- ويأمرهم في خصوص النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الضجيج. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات :3 ، 4 ، 5] .
5- وامتدت الثقافتان إلى الصلاة. قال تعالى : (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنفال :35] وقال سبحانه : (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة :238] وقال : (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) [الإسراء :110]. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما رفعوا أصواتهم بالدعاء : (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا) [النسائي في الكبرى، والبيهقي في سننه الكبرى].
6- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الصوت الحسن، فأمر بلالاً بالآذان وقال لعبد الله بن زيد، وقد كان عبد الله بن زيد هو الذي رأى رؤية الآذان حيث قال (لما أمر بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجلا يحمل ناقوسا في يده، فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس. قال : وما تصنع به ؟ فقلت : ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ فقلت : بلى. قال : تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع. قال : ثم استأخر بعيدا فقال : تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة. فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتا فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أرى فقال فلله الحمد) [أبو داود والترمذي وابن حبان] ،
واتخذ أبا محذورة مؤذناً له بمكة وهو أوس بن معير بن لوذان ابن ربيعة بن سعد بن جمح وقيل اسمه سمير بن عمير بن لوذان بن وهب ابن سعد بن جمح وأمه خزاعية. يقول عنه الذهبي : كان من أندى الناس صوتا وأطيبه. وقد روى قصة آذانه واختبار النبي صلى الله عليه وسلم للأصوات حيث قال : (لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا فكنت آخرهم. فقال حين أذنت : تعال فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات، ثم قال : اذهب فأذن عند بيت الحرام. [سير أعلام النبلاء]
وكان يقول صلى الله عليه وسلم : (من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد) [ابن أبي شيبة، والطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك]. وقال لحسان بن ثابت عندما سمع شعره الذي ينصر فيه الإسلام : (إن روح القدس معك) [أحمد في المسند، والنسائي في الكبرى، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك].
وسمع كعب بن زهير في قصيدته التي افتتحها بقوله :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ** متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ** إلا أغن غضيض الطرف مكحول
7- هل لنا بعد هذا التأصيل أن نحاكم حالتنا الثقافية لنرى إلى أي جهة نميل أو ترغب أن تكون، إلى جهة ثقافة الضجيج أو إلى جهة ثقافة التأمل، وهل يصلح أن نبني معياراً من هذا كله للنقد الأدبي والفني يخرجنا من التيه أو يرسوا بنا على بر الأمان ؟
1- هل لعلماء الدين أن يقوموا بدور ثقافي في المجتمع ؟ لم يكن لهذا السؤال مكان منذ مائتي سنة؛ حيث كانت الثقافة السائدة هي المعلومات التي ربطت بالدين سواء في قسمها الصحيح أو قسمها الخرافي الأسطوري، ولم يكن هناك داع لهذا السؤال، فليس هناك علم ولا ثقافة ولا شيء إلا عند علماء الدين، وكان الجميع يدرسون في الأزهر، وكان ما يدرس في الأزهر هو المعيار الذي تقاس به الخرافة ويقاس به العلم، وهو الحد الفاصل بين التفكير العلمي والتفكير الخرافي
حتى إن ابن سودون الذي ألف (نزهة النفوس ومضحك العبوس)، وهو شاعر مصري كان يعيش في القرن التاسع الهجري، وكان إماماً ببعض المسجد إلا أنه اتخذ الهزل منهجاً له في حياته، فطار اسمه وتنافس الظرفاء في الحصول على شعره، وهو شخصية طريفة في تاريخ أدبنا المصري؛ لأنه يفصح إفصاحاً واضحاً عن مزاج المصريين في هذا الجانب الذي تشتهر به مصر في عصورها الإسلامية المختلفة. و(نزهة النفوس ومضحك العبوس) عنوان ديوان ألفه حيث بنى أغلبه من اللفظ العامي، وهو من هذه الناحية يسجل جانباً له أهميته في تاريخ لغتنا الشعبية؛ فإن من يطلع عليه يرى أنه لا تكاد توجد فوارق بين لغة هذا الديوان ولغتنا المصرية المحلية الحديثة، مما يدل على أن مصر بلد محافظ على استعماله للألفاظ بصورة عامة. والملفت للنظر أن هذا الديوان أُلف كله في ضروب من الهزل والدعاية، ولسنا نعرف شخصاً قبل ابن سودون كتب ديوانا من الشعر كله يأخذ مأخذ الفكاهة.
وكذلك كان يوسف الشربيني صاحب كتاب (هز القحوف) وكان عالماً واعظاً، وقد نظر في من حوله فرأى السواد الذي يغطي أودية مصر في العصر العثماني، ورأى معه تعاسة أهل الريف، فنظم قصيدة سماها (أبي شادوف)، وهي قصيدة من بحر الطويل، ولكنها عامية خالصة، وقد وصف فيها حياة رجل الريف في عصره بجميع صورها وألوانها من أكله إلى عمله في حقله، إلى صلته بالحكومة في عهده، ولم يكتف يوسف الشربيني في وصف حال رجل الريف بهذه القصيدة، بل ذهب يشرحها على طريقة معاصريه في شرح القصائد الجدية، وهو شرح طويل اختار له الاسم الغريب (هز القحوف).
واليوم يموج العالم بالآراء والأفكار ويكاد ينفلت وأتباع New age (العصر الجديد) يدعون إلى النهضة الثانية وتحرير الإنسان من الدين والثقافة والدولة والأسرة واللغة، وتركه حراً طليقاً حتى يبدع مرة أخرى بعدما نجحت الانطلاقة الأولى من تنحية الدين من الحياة في النهضة الأولى، والفرق شاسع بين الحرية والانفلات، وبين الهدم والبناء، وبين عبادة المادة وعمارة الأرض، الفرق شاسع وخطير.
2- وإذا كان لعلماء الدين أن يكون لهم مشاركة ثقافية، فهناك ظاهرة تحتاج إلى دراسة وإلى تعامل حضاري معها، هذه الظاهرة اسمها (يس التهامي) أحد المغنيين بالمدائح النبوية، والذي بدأ في تخصص الغناء بقصائد ابن الفارض، وإذ به يشيع عند عمال التراحيل وبسطاء القرى في الصعيد، وبدأ الناس يزدادون يوما بعد يوم لسماع صوته الرخيم، وهو يؤدي قصائد الحب الإلهي والرؤية الكونية العاشقة لسلطان العاشقين ابن الفارض، أليس هذا غريب يحتاج إلى دراسة ؟ كيف انصرف المثقفون إلى الهراء السمعي والكلامي، والذي أضيف إليه الهراء المنظور في Video Clip وانصرف البسطاء إلى (يس التهامي) في قصائد ابن الفارض ؟ هل هذا شيء ممكن وبسيط بحيث يترك من غير تعليق ؟ ما الذي يحدث في هذه الفترة سريعة الطور في مجتمعنا ؟ وإلى أين نحن ذاهبون ؟ وما دلالة هذا الانعكاس على الحياة الثقافية في مصر ثم العالم العربي والإسلامي ؟ هل يمكن لفت نظر المثقفين لسماع (يس التهامي) مع بساطة أدائه وألحانه مع استماعهم ورؤيتهم للضجيج الذي ظلموه فأسموه غناء وشاع حتى لم نستطع أن نتنزه منه، فنحن نسمعه مع الضجيج الذي يملأ كل مكان.
3- لقد شاهدت طفلة في شهرها السابع تهتز مع أنغام الطرب ولست في حاجة إلى تعريف الطرب، ثم رأيتها مذهولة عندما بدء الضجيج هل ما شاهدته صحيح ؟ وهل له دلالة ؟ وهل هذا هو حقيقة الخلقة وفطرة الله ؟ أسئلة أرجو أن يشتغل بها من أراد المساهمة في دراسة الظاهرة بدلا من اشتغالهم بالاعتراض على الأحكام الشرعية والتفلسف من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
4- وابن الفارض هو شاعر الوقت شرف الدين أبو حفص عمر بن علي بن مرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والمنشأ والوفاة، ولد سنة 566 هـ وتوفي سنة 632 هـ وله ست وخمسون سنة.
كان أبوه من أهل حماة (بسوريا) وقدم إلى مصر وسكنها وكان عالما بالفرائض ـ وهي علم الميراث ـ فكان يثبت الفروض بين يدي الحكام، ومن ثم عرف بالفارض وعرف ابنه بابن الفارض. لما شب ابن الفارض أخذ الفقه والحديث عن شيوخ مصر، وقد روى عن القاسم بن عساكر وحدث عنه الحافظ المنذري، وسلك طريق الصوفية، فتزهد، ثم مضى إلى مكة فاتصل بمنابع الوحي والإلهام وظل هناك زهاء خمسة عشر عاما ثم عاد إلى مصر وأقام بالجامع الأزهر معظما من أهل عصره، حتى أن الملك الكامل كان يأتي لزيارته، وساعده على الظفر بمحبة الناس ما منحه الله من جمال الخلقة والخلق. وأخذ في نظم الشعر، فكان الناس يتلقون قصائده ويترنمون بها، وقد جرى فيها على طريقة الحب والغرام. والتصوف في حقيقته حب وحنين إلى الذات الإلهية من ذلك قوله:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ** سر أرق من النسـيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها ** فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله ** وغدا لسان الحال مني مجهرا
5- ولقد اهتم بديوانه كثير من الأدباء العرب والمستشرقين، ومن هؤلاء المستشرقين الإيطالي جوزيبي سكاتوليني، والذي ربط بينه وبين ديوان ابن الفارض علاقة قوية تزيد عن أربعين عاماً ، حيث إنه فرغ نفسه وعكف على دراسة هذا الديوان العظيم طيلة هذه الفترة حتى أنتج ثمرة جهده من تحقيق لهذا الديوان في نهاية شهر يونيو عام 2004، حيث أقام المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة حفلاً بمناسبة صدور الديوان عنه، وأُنشد فيه أشعار ابن الفارض كبار المنشدين المتصوفة كالشيخ ياسين التهامي.
6- أخاف أن نصل إلى شيوع ثقافة الضجيج، ثم إلى عقلية الضجيج ثم إلى نفسية الضجيج، وهو أمر لا يقره الشرع ولا العرف ولا المنطق السليم، ولقد نبهنا الله سبحانه وتعالى على ألا نتخذ الضجيج منهجاً لا في ثقافتنا ولا في عقليتنا، ولا في حياتنا وسلوكنا أو عبادتنا، بل من أجل أن نفكر التفكير المستقيم علينا بالهدوء داخل أنفسنا وخارجها حتى نتذوق مزيداً مما خلقه الله من الجمال. قال تعالى : (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال :35] والمكاء الصفير، والقصد المنهي عنه هذا الضجيج؛ لأنه لا يليق بحال العبادة كما أنه لا يليق بحال الإنسان. وقال تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة :238] أي خاشعين هادئين، وقال: (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون :2]. وقال في المقارنة بين الحالين (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت :26] أي عليكم بالضجيج في مواجهة الإيمان. وقال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : 6] والسمع لا يأتي إلا بالهدوء.
1- الكلمة العربية ـ أو في أي لغة كانت ـ لها معنى معجمي نراه في المعاجم، ولكن لها أيضا حقول دلالية، فلها حقيقة ولها مجاز، ولها مرة ثالثة مردود على السامع يختلف باختلاف شيوع هذه الكلمة في استعمال معين، ويختلف أيضا بما يسميه علماء اللغويات بالنبر، والنبر The stress هو الضغط أثناء التلفظ بالكلام على مقطع في الفقرة المقروءة، , أو على كلمة في الجملة أو على حرف في الكلمة، وحينئذ فإنك تفهم معنى من هذا النبر يزيد على معناه اللغوي فلو قلنا لأحدهم عبارة (أنت مشغول) فيمكن أداؤها بصورة سؤال، ويمكن أداؤها بصورة استنكار، ويمكن أداؤها بصورة ترحم، ويمكن أداؤها بصورة إقرار للواقع الذي نشاهده فيه، وهكذا يقوم النبر بإضافة معنى فوق دلالة اللفظ نفسه، يفهم السامع منه ما لا يفهمه من مجرد الكلمة، ويؤثر فيه ويستقر ذلك التأثير في وجدانه ويترسب مع ما يترسب من عوامل أخرى فيؤدي إلى التحكم في مواقفه من الأشخاص حباً أو بغضاً، لذلك فإن مردود الكلمة يتجاوز معناها إلى تأثيرات أخرى قد تكون حسنة أو قبيحة، ونرى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينبه على هذا المعنى فيقول : (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) [رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم في المستدرك].
2- فلو وصفنا كاتباً بأنه كاتب مضحك أو فكاهي أو ساخر أو مسخرة، وهي كلمات تتقارب معانيها جداً وتمثل حقلاً دلالياً واحداً أنه يسبب الضحك عند القارئ بقدر ما يسببه من دهشة في صياغته اللغوية، وفكاهي يسبب الترويح الذي ينتج من زيادة البسط ومن نفس المادة اللغوية سميت الفاكهة؛ لأنها تأتي ترويحا للأذواق مع ممارسة القوت الأساسي للإنسان في طعامه وتدبير بدنه، فالفاكهة ترويح، والفُكاهة ترويح، أما كلمة مسخرة ومعناها المعجمي ما يجلب السخرية، فلها مردود يجعل الكاتب المسخرة مضحكاً في نفسه وليس فيما يكتب فقط، ويبدو أن بعض ممن وصف بالكاتب الساخر أصبح مسخرة فعلاً؛ حيث بدأ في الخلط وعدم إدراك الواقع وعدم الانتماء إلى الوطن، ومعرفة الحالة الراهنة، فتراه يكتب فيحكم على المقدس ويدنسه ويتكلم ناقضاً هادماً، لا ناقداً مصلحاً، والفرق بين (النقض) و(النقد) فرق كبير، ولقد شاع في الآونة الأخيرة نموذج الكاتب المسخرة الذي يهرف بما لا يعرف وليس عنده أصول يقيس عليها ولا عنده مبادئ يلتزم بها ووجب علينا جميعا أن نأخذ على هؤلاء المساخر (ومساخر جمع مسخرة) فإن فلسفة حديث السفينة يجب أن تستقر في وجداننا.
3- ونص حديث السفينة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا . فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) [أحمد والبخاري].
4- ومن السخرية القبيحة أن نهدم الرمز أو نهدم المؤسسة أو نهدم النظام أو نهدم الثوابت أو نهدم المطلق، فالكذب قبيح رغم شيوعه في البشر، حتى إن آخر الأبحاث ترى أن أشد الناس التزاما بالصدق يقع في الكذب مرتين على الأقل يومياً، وما زال الناس في الشرق والغرب ينعون على الكذب، وسيظل الزنا والخنا والسب والقذف حراما، وستظل السرقة والاغتصاب حراما مهما شاع وذاع أو قبل من بعضهم، ولابد أن نُعلم أبناءنا أن هناك فارقاً بين تحريم المعاصي وأنها معاصي وقبائح وبين وقوعها في الحياة، والتي لم يخل منها عصر وستظل أبداً حراماً وستظل أبداً يقع فيها الناس، بل كثير من الناس، فهناك فرق يجب أن نؤكد عليه بين وصف الفعل بالقبح كشرب الخمر وعري الراقصات وتقلب المرأة بين أحضان الرجال، وهو ما حرمه كل دين وكل ملة، وبين أن يقع الناس في هذا أو يستحسنوا فعله والرابط بين المثال والواقع حالة الإنسان الذي يقع فيما زين له من الشهوات (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ) [آل عمران :14]، فالقاعدة إذن أن الفسق فسق وأنه لم يخل منه عصر.
5- وهذه القاعدة ينبغي للكاتب المسخرة أن يدركها، ولا أعني كاتباً بعينة، بل أعني نوعا من الكتاب المساخر فعليه ألا يعترض على رأي الدين في أجر الطبال والراقصة والغناء القبيح الذي يعبد فيه غير الله أو يسب القدر جهراً، فسيظل هذا العمل محرماً حتى لو وقع فيه الناس وليس الإبداع في التفلت، ولكن الإبداع معاناة حقيقية من أجل الأدب والفن، والشرع يأمر أن نرجع إلى الحقائق لا إلى الأوهام، وإلى الواقع لا إلى الخيال المريض قال تعالى وهو ينهانا عن الفتنة بكل أشكالها كلاماً وفعلاً وسلوكاً : ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوَهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [لقمان :20، 21]. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [لقمان :6] وقال : أ(َفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) [النجم :59، 61]، وسامدون أي تغنون بالباطل من القول. وقال تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام :116].
ويجب على الشباب أن يعلم أن هذه المعاصي لم يخل منها عصر ولا مصر وأن الأمر سيظل كذلك إلى يوم الدين.
6- فعندما نحرم ما حرم الله لا يناقش هذا، بل الذي يناقش هو الموضوع وليس الحكم، إن الاعتراض على الأحكام الشرعية هو الذي ولد الخبل العقلي والنفسي عند الشباب المتطرف المتنطع في دين الله، فهلا ترك الأخوة المسخرة لعلماء الدين فرصة لبناء الأجيال .. يا رب استجب.